ثقافة السلام والتسامح في الدراما المصرية
عانت الإنسانية على مدار قرون طويلة من ويلات الحروب، فاصطلت بنار حربين عالميتين وعشرات الحروب الإقليمية والأهلية التي زادت من المعاناة الإنسانية، وأخرت تطور الحضارة الإنسانية؛ حيث شهدت هذه الحروب إهداراً لكافة الحقوق الإنسانية وعلى رأسها الحق في الحياة، وكانت سبباً مباشراً في انتشار الفقر والمرض والبؤس.
وقد لفت إخفاق الجهود المتتابعة لإرساء السلام انتباه العالم إلى أن العامل الأهم وراء هذا الإخفاق هو إهمال حقيقة كون الحرب تتولد في عقول البشر، لذا يجب أن تبنى في عقولهم حصون السلام، فهذا الفهم الذي اتخذته اليونسكو شعاراً لها يقوم على حقيقة أن السلام الذي يقوم على أساس الترتيبات التي تتفق عليها الحكومات فقط لن يحظى بالتأييد الإجماعي والمخلص من كافة الشعوب ومن ثم يصعب استدامته فلابد لنجاح السلام من أن يؤسس على التضامن الفكري والمعنوي للبشرية. [1]
فالمسألة لم تعد تلافيًا لمظاهر الحرب إنما اجتثاث لجذورها العميقة في الثقافة والفكر بحيث تتحول ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام، وبهذا المعنى تنطوي ثقافة السلام على عملية مجتمعية مستمرة process تعزز المعارف والمهارات والقيم والمواقف والتصرفات التي تنسجم وتدعم ثقافة السلام، وتقوم هذه العملية على تآزر وشراكة قوية بين جهود المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب، وتقوم وسائل الإعلام الجماهيري بدور مهم في هذا الصدد لما أظهرته البحوث العلمية من تأثيرها في قطاعات عريضة من فئات المجتمع التي تتعرض لها حتى أن بعض النظريات ترى وسائل الإعلام تؤثر تأثيراً مباشراً، وسريعاً في الجمهور، وأن الاستجابة للرسائل الاتصالية مثل رصاصة البندقية تؤثر بعد انطلاقها مباشرة، في حين ترى نظرية الغرس الثقافي أن الجمهور يتأثر بوسائل الإعلام في إدراك العالم المحيط به، وتزيد معارفهم، وترى نظرية ثالثة أن الإعلام يقوم بترتيب اهتمامات الجمهور من خلال إبراز القضايا التي تستحق، وإهمال قضايا أخرى. فيبدي الجمهور اهتمامه بهذه القضايا دون غيرها. [2]
وتكتسب الدراما – خاصة التليفزيونية- كأحد أشكال الرسائل الاتصالية أهمية خاصة في دعم ثقافة السلام باعتبارها وسيطاً تحول من مجرد اختراع ذى طابع علمى قائم على خدعة بصرية إلى كونه واحدا من أهم وسائل التعبير ذي الشعبية الواسعة فهي شكل يقوم على تصوير الواقع المعيش اعتماداً على عناصر التشويق والتعبير البصري الحركي بما يجعله قريبا من المتلقي وقادراً على مخاطبة قطاعات عريضة من المجتمع.
وتقتضي محاولة تتبع مدى تعبير الدراما التلفزيونية المصرية عن ثقافة السلام والتسامح و معالجتها للقضايا المتعلقة بهذه الثقافة تحديداً أدق لمفاهيم ثقافة السلام والتسامح. فعلى الرغم ما تبدو عليه هذه المفاهيم من وضوح بدهي فإن النزول بها إلى عالم الواقع يظهر قدر الاختلاف في الرؤية بصددها.
فالمعنى الشائع للسلام هو غياب الحرب، لكن هل يستغرق هذا المعنى كافة أبعاد السلام؟ ألا يمكن أن يخفي غياب الحرب حالة من القهر تنطوي على عدم تكافؤ حاد في القوى بين المعتدي والمعتدى عليه؟ ويحاول البعض تقديم مفهوم أوسع للسلام باعتباره "غياب العنف" بحيث يعني غياب كل ما له علاقة بالعنف، مثل – إضافة إلى الحرب - الجرائم الكبرى المنظمة كالإرهاب، أو النزاعات العرقية أو الدينية أو الطائفية أو المناطقية (أي تلك التي تنشب بين مناطق جغرافية في مواجهة مناطق أخري داخل إقليم الدولة ذاته) والتي تتنوع أسبابها بين اعتبارات اقتصادية (مثل الصراع علي الثروات الطبيعية كما هو الأمر في العديد من بلدان أفريقيا)، أو سياسية (مثل احتكار مناطق جغرافية معينة للسلطة السياسية مثلما هو النزاع الجاري حاليا في دارفور) أو عرقية (مثل النزاعات بين الأعراق المختلفة التي تقطن مناطق جغرافية في مواجهة بعضها بعضا كما كان الحال حتى وقت قريب في الصراع بين شمال وجنوب السودان).
ويلاحظ أن هذا التعريف للسلام تعريف بالسلب، أي أنه يوجد متى غابت حالات معينة فهو لا يتطرق إلى جوهر السلام وحقيقته لذلك لابد من تكميله بتعريف إيجابي حيث يمكن تعريف السلام بأنه "الاتفاق، الانسجام، الهدوء...". وفق هذا التعريف فإن السلام- عكس التعريف السابق- لا يعني غياب العنف بكافة أشكاله فقط، ولكنه يعني صفات ايجابية مرغوبة في ذاتها مثل الحاجة إلي التوصل إلي اتفاق، الرغبة في تحقيق الانسجام في العلاقات بين البشر، سيادة حالة من الهدوء في العلاقات بين الجماعات المختلفة...إلخ. السلام- إذن- هو حالة إيجابية في ذاتها (الاستقرار والهدوء مثلا)، أكثر من كونه غيابا لحالة سلبية مرفوضة (العنف، الحرب، القتل مثلا).
يفتح هذا التعريف المجال أمام التفكير في مستويات مختلفة للتعامل مع مفهوم "السلام". هناك سلام بين دول، وهناك سلام بين جماعات بشرية، وهناك سلام في داخل الأسرة، وهناك سلام بين المرء وذاته. وهذه المستويات تشكل وحدة متكاملة، لا يمكن فصل أحدها عن الآخر، بل قد يشكل كل منها منطلقاً لوجود الآخر.
ـ السلام الذاتي أو الشخصي
وتتمثل في العيش في أجواء سلام ذاتي، فتكون علاقة الإنسان بذاته مفعمة بمشاعر الرضى والطمأنينة والأمان وعدم الخوف والاطمئنان على المستقبل.
إن توافر العوامل والضمانات الإيجابية يقيم حالة استقرار داخلي لدى الإنسان يجعله مؤهلاً للاضطلاع بدوره على صعيد السلام في محيطه وفي العالم.
وهناك العديد من العوامل التي يمكن أن تؤثر سلباً على السلام الذاتي منها الشعور بعدم القدرة على إثبات الذات بسبب عدم المساواة جراء المعتقدات والعادات الاجتماعية
الشعور بالإجحاف جراء القوانين الجائرة على حقوق الإنسان فهذه العوامل تجعل الإنسان يشعر إلى حد ما بالعجز عن العيش في ظل استقرار ذاتي يمكِّنه من الانطلاق إلى العالم الخارجي بثقة وفاعلية.
2ـ السلام الأُسري والعائلي
ويتجلى في سيادة التوافق بين أفراد الأسرة وحياتها في أجواء من الاحترام المتبادل ومما يؤثر سلباً على هذا السلام العنف المنزلي وسوء المعاملة (الإيذاء الجسدي، الإيذاء الجنسي...)، والإجحاف الناتج عن عدم الرعاية الصحية، وعدم الحماية من الأمراض والأوبئة، والحرمان من حق التعلم.
3 ـ السلام الاجتماعي الوطني[3]
يتكون كل مجتمع من مجموعة من البشر، مختلفون بالضرورة عن بعضهم بعض، سواء في انتمائهم الديني، أوالمذهبي، أوموقعهم الاجتماعي، أوالوظيفي، فمن الثابت أن المجتمعات تقوم علي التعددية الثقافية والدينية والنوعية والسياسية، كل طرف لديه ما يشغله، وما يود تحقيقه. القاسم المشترك بين الجماعات المختلفة هو أساس بناء المجتمعات ويعني السلام الاجتماعي سيادة الوفاق بين هذه المجموعات المختلفة من خلال ما يمكن أن نطلق عليه "عقدا اجتماعيا"، أي التزام غير مكتوب بينهم، يتناول حقوق وواجبات كل طرف في المجتمع. الخروج علي هذا العقد يمثل انتهاكا لحقوق طرف، وإخلالا بالتزامات طرف آخر مما يستوجب التدخل الحاسم لتصحيح الموقف ليس بالعنف بل بالإجراءات القانونية.
هناك عدة أركان للسلام الاجتماعي في أي مجتمع، لا تتصل فقط بالتاريخ، لكنها تقترب أكثر فأكثر من الإدارة السياسية للمجتمعات، منها:
1- الإدارة السلمية للتعددية.
بطريقة تحفظ للجماعات المتنوعة التي تعيش مع بعضها بعضا مساحة للتعبير عن تنوعها في أجواء من الاحترام المتبادل.
2- الاحتكام إلي القانون
يمثل "حكم القانون" في المجتمع الحديث أحد أهم عوامل تحقيق المساواة والعدالة في العلاقات بين الأفراد، والجماعات ويؤدي إلى ما يمكن أن نطلق عليه "التوقع الاجتماعي" ويعني ذلك أن الأفراد يتوقعون نظاما قانونيا في المجتمع، يحكم علاقات بعضهم بعضا، يقوم علي وضوح القوانين، وشفافية عملية التقاضي، والحزم في تنفيذ الأحكام القضائية النهائية واجبة النفاذ. غياب بعض هذه المعايير أو جميعها يؤدي إلي إهدار لمفهوم المساواة بين المواطنين في المجتمع، ويدفع الأفراد إلي الاستناد إلي أعراف من صنعهم، مثل البلطجة والرشوة وجميعها تعبر عن اهتزاز مفهوم "حكم القانون" في نفوس الأفراد، وهو ما يؤثر علي السلام الاجتماعي في المجتمع.
3- الحكم الرشيد
الحفاظ علي السلام الاجتماعي في أي مجتمع يحتاج إلي حكم رشيد. كثير من القلائل والإضرابات تحدث من جراء غياب المشاركة وسرقة المال العام. من هنا يحتاج السلام الاجتماعي إلي ديمقراطية.
ويعني الحكم الرشيد Good Governance مجموعة من المفاهيم الأساسية، يمكن تعريفها بإيجاز المساءلة Accountability والشفافية Transparency وتعنى العلنية في مناقشة الموضوعات، وحرية تداول المعلومات في المجتمع. تساعد الشفافية في تداول المعلومات علي تحقيق المساءلة الجادة حين تتوفر الحقائق أمام المواطنين في المجتمع.
التمكين Empowerment ويعنى توسيع قدرات الأفراد، ومساعدتهم على تطوير الحياة التي يعيشونها. ويشمل تمكين المواطنين وتحويلهم من "متلقين" سلبيين إلى مشاركين" فاعلين، يكون ذلك من خلال رفع قدراتهم، ومساعدتهم علي تنمية أنفسهم، والارتقاء بنوعية الحياة. المشاركة Participation وتعنى تشجيع الأفراد علي المشاركة في العمل العام وإزالة العقبات من أمامهم. محاربة الفساد Corruption أو سوء استخدام الموقع الوظيفي من أجل تحقيق مكاسب شخصية.
4- حرية التعبير وهي من مستلزمات عملية بناء السلام الاجتماعي في أي مجتمع.. ولا يتحقق السلام الاجتماعي دون أن تتمتع كل مكونات المجتمع من مساحات متساوية في التعبير عن آرائها، وهمومها، وطموحاتها. في مناخ عقلاني يسوده الانفتاح يمكن الاستماع إلي كل الأطراف، وتفهم كل الآراء، دون استبعاد لأحد، بهدف الوصول إلي الأرضية المشتركة التي يلتقي عندها الجميع
5- و تعد العدالة الاجتماعية ركنا أساسيا من أركان السلام الاجتماعي حيث لا يمكن أن تحتكر كل شيء، وغالبيته تفتقر إلي كل شيء. الصراع بين الطرفين سيكون السمة الغالبة. ولا يقتصر مفهوم العدالة الاجتماعية علي المشاركة في الثروة، وتوسيع قاعدة الملكية لتشمل قطاعات عريضة من المجتمع، والحصول علي نصيب عادل من الخدمات العامة، ولكن يمتد ليشمل ما يمكن أن نطلق عليه "المكانة الاجتماعية"، التي تتحقق من خلال مؤشرات واضحة مثل التعليم.
يحتاج السلام الاجتماعي إعلاما يجد فيه المواطن العادي مساحة تعبير ملائمة عن همومه المتنوعة حسب موقعه الاجتماعي والديني والسياسي بحيث يصبح إعلاماً يعزز المواطنة
4- السلام الإقليمي والدولي[4]
بغياب الصراعات والحروب وقيام نظام دولي يحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها وسيادة الدول وخصوصياتها الحضارية والثقافية مع شروط تبادل اقتصادي متكافئ بين الدول المتقدمة والنامية .
نخلص إذاً إلى أن السلام ليس مجرد غياب للحروب بل عملية إيجابية تشاركية ترتبط بتحقيق الديمقراطية والعدالة والتنمية للجميع بما يكفل احترام الاختلافات وتشجيع الحوار وتحويل النزاعات بفضل وسائل اللاعنف على سبل جديدة للتعاون
واستناداً إلى هذا المعنى الأوسع والأكثر إيجابية للسلام تصبح ثقافة السلام مجموعة من القيم والمواقف والتقاليد والعادات وأنماط السلوك وأساليب الحياة بحيث تجسد في مجموعها تعبيراً وطموحاً إلى احترام الحياة واحترام البشر وحقوقهم مع رفض العنف بكل أشكاله والاعتراف بالحقوق المتساوية للرجل والمرأة والاعتراف بحق كل فرد في حرية التعبير والإعراب عن الرأي والحصول على المعلومات والتمسك بمبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية والتنمية للجميع والتسامح والتضامن والتعددية وقبول الاختلافات والتفاهم بين الأمم والفئات العرقية والدينية والثقافية وغيرها من الفئات والمساهمة في منع الصراعات من خلال عمليات بناء السلام
وإيماناً بالسلام ودور المرأة في تحقيقه انطلقت أول مبادرة سلمية للمرأة في المنطقة العربية[5] هي " حركة سوزان مبارك الدولية للمرأة من أجل السلام " كمنظمة دولية غير حكومية تستهدف تفادي العنف على كافة المستويات وتطوير البدائل الناجحة للصراعات المسلحة وتقوية روح التسامح بين الناس وتعزيز دور المرأة في عمليات السلام الرسمية وغير الرسمية وضمان مشاركتها في السياسات والإجراءات الدولية لتحقيق السلام.
إن ثقافة السلام بالمعنى المشار إليه تقتضي إطاراً فكريا وسلوكيا يعد التسامح أهم مقوماته فالتسامح – كما أشار إعلان اليونسكو – هو الفضيلة التي تيسر قيام السلام وإحلال ثقافة السلام محل الحرب.
وللوقوف على معنى التسامح يجب الرجوع على أصوله اللغوية والفكرية: فالتسامح فى "لسان العرب" لابن منظور ، ثرى المعانى ، ومعظم هذه المعانى مشتق من (سمح) . السماح والمسامحة: أى الجود والعطاء عن كرم وسخاء، وليس تسامحاً عن تنازل أو منة .
والمسامحة: المساهلة . وتسامحوا : تساهلوا ، لأن "السماح رباح" كما جاء فى الحديث الشريف ، بمعنى أن المساهلة فى الأشياء تربح صاحبها. وبمعنى حقوقى حديث أن تتسامح مع الآخر يعنى أنك تعترف بحقه . وهذا ليس تنازلاً أو خسارة، لأن "السماح رباح" .. لك وللآخر .
وتقول العرب: "عليك بالحق فإن فيه لمسمحاً ، أى متسعاً " فالتسامح حق يتسع للمختلفين، أو قل أنه استواء فى الاختلاف
وذكر عبد الرحيم بن عبد الكريم صفى بور فى "منتهى الارب فى لغة العرب" ساهل : تساهل معه، وأبدى ليونة فى الطلب. تسامح: تساهل فيه(3) . ربما لأن التساهل والتسامح واللين والرفق، يشير فى الواقع إلى أسلوب معين فى التعامل، يراد له أن يسود، ذلك أن الدين سمح والشريعة سهلة، وهما أسلوب حياة . فلم يشأ الله تعالى أن يكون المؤمنون فى حرج ومشقة وضيق فى دينهم، لذا جعل الدين يسيراً وخاطب النبى (ص) بقوله "ونيسرك لليسرى"(4) .
وفى اللغة الانجليزية هناك مقابلان لكلمة تسامح، الأول Tolerance والثانى Toleration ، وهذا أدى إلى تعدد الاجتهادات فى إبراز الفروق بينهما . ففى معجم "وبستر" تعنى كلمة Toleration سياسة التسامح المتبعة مع كل الآراء الدينية وأشكال العبادة المناقضة أو المختلفة مع المعتقد السائد ، بينما تعنى لفظة Tolerance استعداد المرء لتحمل معتقدات وممارسات وعادات تختلف عما يعتقد به .
وقد حاول بعض الكتاب التمييز بين هذين اللفظين، بما يتيح لهم تعيين الأوجه المختلفة للتسامح، فاقترح "كريك" Crick كلمة Tolerance لوصف فعل التسامح نفسه، وكلمة Toleration لوصف المبدأ المعلن والقائل بأن على المرء أن يكون متسامحاً ، وقد لاحظ أن (Tolerance) وجدت أولاً من الناحية التاريخية قبل أن تصك كلمة (Toleration) يقول : "أن ما اعتقده هو أن Toleration تعنى فى الاستعمال العادى فعل ممارسة التسامح، وأنه من السهل تمييزها عن مبدأ التسامح دون الاستعانة بأى تعبير آخر".
وقد ظهرت كلمة Tolerance أولآ فى كتابات الفلاسفة فى القرن السابع عشر، أو قل زمن الصراع بين البروتستانت والكنيسة الكاثوليكية. حيث نادى "جان بودان" و "مونتينى" و"اسبينوزا" فى "البحث اللاهوتى الفلسفى"، و"روجر وليمز" فى رسالتيه" العقيدة الدموية للاضطهاد بسبب الضمير" 1644 و "العقيدة الأكثر دموية" 1652، و"جون ميلتون" و"جون لوك" فى كتابه "رسالة فى التسامح" 1689 – 1692، وغيرهم، بضرورة التسامح بين المخالفين فى الرأى والعقيدة ، وحق الاجتهاد ، واتخاذ العقل ميزاناً وحكماً .
وإذا كان التسامح يعرف بضده وهو “التعصب”، فإن التعصب فى تاريخ الاجتماع البشرى هو عصب الفكرة الشمولية الأحادية سواء كانت دينية أم وضعية، كما كان الحال فى أنظمة التعصب الكنسي في العصور الوسطى، ثم أنظمة التعصب الأيديولوجي في العصر الحديث (الفاشية والشيوعية والنازية والصهيونية)، واليوم الحركات الأصولية فى الشرق والغرب: إسلامية ويهودية ومسيحية وهندوسية وسنهالية وتاميلية وصربية ونازية جديدة .. الخ .
والتعصب فى اللغة هو عدم قبول “الحق” عند ظهور الدليل بناء على ميل إلى جهة أو طرف أو جماعة أو مذهب أو فكر سياسي أو طائفة. وهو من “العصبية” وهى ارتباط الشخص بفكر أو جماعة والجد فى نصرتها والانغلاق على مبادئها .
والشخص المتعصب Fanatical هو الذي يرفض الحق الثابت والموجود ويصادر الفكر الآخر أو الدين الآخر، أو لا يعترف بوجود كل ما هو آخر أصلاً، سواء في الدين أو المذهب أو الطائفة أو العرق أو الحزب، وإن ارتبط التعصب فى أذهان الناس بـ “الدين” أساساً ربما لخطورته، لذا انصب “هم” الفلاسفة على تقويض التعصب أساسا حتى يفسحوا المجال للتسامح
وقد حدد "إعلان مبادئ التسامح" الصادر عن اليونسكو فى سنة 1995، أن التسامح: "ليس فقط مجرد التزام أخلاقي وإنما أيضاً ضرورة سياسية وقانونية". وهكذا فإن التسامح فضيلة وممارسة تجعل السلام ممكناً بين الشعوب، باستبدالها الصريح للحرب باللاعنف بحيث يتحول إلى تسامح نشيط يمتلك حق العمل علي تحييد الشعوب ووقايتها وحمايتها وتربيتها، فى ممارستها السياسية والمؤسسات الاجتماعية، وخصوصاً عن طريق الأسرة والتربية وثقافة السلام.
إن ممارسة التسامح مبدأ للتعايش ولاحترام الآخر، سواء حدد كصديق أو كخصم أو غير ذلك ، فإنه يشارك مثلنا تماماً فى الحياة العامة حيث تتقابل الآراء والمبادئ عن طريق "المسافة المناسبة" التى يهيئها العقد الاجتماعي أو الميثاق الوطنى، وحسب الفيلسوف الفرنسى "ادجار موران" فإن التسامح ضرورة ديمقراطية ، لأن الديمقراطية تتغذى من صراع الأفكار ، وتندثر بصراع الأجساد .
والديمقراطية هى ذلك النظام الذى يحترم عملياً ثلاثة مبادئ أساسية:
أما المبدأ الأول فهو مبدأ "التسامح"، ويلزم الدولة بأن تضمن على أرضها حرية التعبير عن المعتقدات السياسية، والفلسفية والدينية، بشرط ألا تؤدى هذه المعتقدات إلى إشاعة الاضطراب أو الفوضى فى الساحة العامة للمجتمع.
فالتسامح Tolerance يعنى الاستعداد لاتخاذ الموقف المتسامح. وهو لا يمكن أن يعد فضيلة إلا عندما يمكن للمرء ألا يكون متسامحاً، فهو قريب من مفهوم "العفو" والصفح. فليس فى استطاعتنا أن نتحدث عن موقف متسامح فى حال شخص يضطر، وهو مضطهد وفى موقف الضعيف أن يتحمل الآخرين. لذلك فالمتسامح هو من فى موقف القوة ، سواء كان فى السلطة أو ممثلاً للأغلبية، وهكذا يرتبط التسامح بالسلطة والقوة والغلبة أساساً، وكل حـديث عن التسامح بمعنى قبول الآخرين فى اختلافهم – سواء فى الدين أم العرق أم السياسة – أو عدم منع الآخرين من أن يكونوا آخرين أو إكراههم على التخلى عن آخريتهم Otherness إنما يعنى به فى المقام الأول "التسامح" بالمعنى المتقدم .
من هنا يختلف التسامح تمام الاختلاف عن اللامبالاة أو عدم الاكتراث أو التنازل لشخص كتعبير عن الأدب، باعتبار اشتقاق الكلمة من لفظة (س.م.ح) . فمن غير المعقول أن أعيش دون معتقدات ولا أهتم بمعتقدات الآخرين ثم أدعى أننى أبدى تسامحاً إزاء أندادى فى العقيدة أو المختلفين معى .
حدود التسامح
لم يكن معظم المنادين بالتسامح مستعدين دائماً للسير بهذا المبدأ حتى نهاية الشوط ، أو فى كل الاتجاهات وعلى كافة الصعد. فـ "جون لوك" أكبر المؤيدين لمبدأ التسامح وضع مجموعة من الضوابط، من يتعداها لا يمكن التسامح معه بأى حال من الأحوال:
1- الترويج لمعتقدات وأصول تهدد بنسف المجتمع نفسه.
2- الترويج للإلحاد .
3- الأفعال التى تهدف إلى تدمير الدولة أو التعدى على أموال الآخرين.
4- الولاء للحكام الخارجيين(الخيانة)
الشئ نفسه نجده عند "فولتير" أشهر فلاسفة التنوير، فهو ضد اضطهاد الأفكار والمعتقدات ، ومن أقوى المنادين بحرية الفكر التى لا تحدها حدود ، وصاحب أشهر مقولة فى الحرية وحق الاختلاف فى الرأى، ومع ذلك فإنه جعل حدوداً للتسامح لا يتعداها عندما يتعلق الأمر بشئون "الدولة" والسياسة .. وحسب "راندال" : "فقد كان عصر التنوير مستعداً للتسامح فى أمر الاختلاف الدينى لا السياسى" برغم أنه كان أكثر العصور تقدماً من ناحية الفكر السياسى .
وهنا نستطيع أن نقف على التحول الجديد الذى طرأ على مفهوم التسامح ، إذ لم يكن أحد من دعاة التسامح الدينى مستعدا للذهاب بهذا المبدأ إلى أبعد مما تقتضيه مصلحة الدولة . وبالتالى أخذ التشريع لـ "التسامح" يخضع للمصلحة القومية منذ أن بلغت النزعة القومية فى أوربا عنفوانها
أضف إلى ذلك أن التسامح لا يعنى تقبل الظلم الاجتماعى أو تنحى المرء عن معتقداته والتهاون بشأنها، كما لا يعنى ممارسة دور الحرباء بالتلون بفكر وآخر والقفز من عقيدة إلى عقيدة أخرى، أو المواطنة الجبانة، ذلك لأن التسامح هو التعبير الأكثر كمالاً لحرية الإيمان والتفكير والتعبير، أنه تأكيد لمشاعر الضمير والإحساس .
إن الحوار العقائدى قائم بذاته ، ولا يحتاج إلا إلى استراتيجية كشف واعلان للقواسم المشتركة، والجهد، ما لم يسخر فى سبيل مزيد من المعرفة المتبادلة والاحترام والمحبة المتبادلة بغية توسيع المشروع الأخلاقى الذى يخدم بدوره مشروع السلام العالمى، أى أنه إذا لم يتحول المجتمع العالمى بأسره ساحة للحوار، يبقى الأخير رهن الشعارات العقيمة وجلسات التملق والزيف والمجاملة .
ويفهم من ذلك أن أية محاولة لضغط تنوع الأديان على سرير “بروكرست” للفهم الواحد المشترك يحرم الحوار بين الأديان من بعده الحاسم، وقد يؤدى إلى التعصب. الأمر الثانى أن الحوار منظومة شاملة لا تقتصر على الأديان فقط وإنما تمتد إلى السياسة والمجتمع بجميع فئاته وطوائفه وطبقاته وأحزابه .[6]
لقد عكست الدراما المصرية قيم التسامح وثقافة السلام في العديد من أعمالها وإذا كان يصعب رصد مختلف الأعمال الدرامية فمن الممكن التوقف أمام الأعمال التي مثلت معالم بارزة في تناول هذه المفاهيم والقضايا.
وقد سعت الدراما المصرية لاستلهام واستدعاء الموروث الثري للتسامح والسلام في الخبرات الحضارية المختلفة التي عاشتها مصر منذ فجر الحضارة ففي مسلسل الإمام الشافعي الذي أخرجته شيرين قاسم عن سيناريو وحوار د. بهاء الدين إبراهيم وقام ببطولته إيمان البحر درويش (الأمام الشافعي) ورشوان توفيق ومنى عبد الغنى وعبد الرحمن أبو زهرة يظهر كيف كانت المعرفة قرينة التسامح وكيف اتسعت الجماعة العلمية للخلاف بين أصحاب المذاهب المختلفة وبين أبناء المذهب الواحد وكيف لم يعن التسامح قبول وجود الآخر وحسب بل احترامه والتتلمذ عليه وتقدير اجتهاداته حتى أن الأئمة كانوا يأمرون أتباعهم بمراعاة أحكام مذهب المخالفين لدى التعامل معهم وحتى في أداء العبادات معهم.
ويمثل فيلم الراحل "يوسف شاهين "المصير" عن ابن رشد علامة بارزة في هذا السياق حيث كان ابن رشد أحد رموز التسامح الفكري في الثقافة العربية بل والإنسانية، فقد كان ابن رشد يرى أن هناك حقيقة واحدة لكن دروب الوصول إليها مختلفة وتعدد الطرق التى تفضى إليها هو أساس حرية الفكر والتسامح الفكرى فالأديان والفلسفات والعلوم دروب مختلفة إلى هذه الحقيقة الواحدة. "والحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له" وهو ما يعنى احترام الآخر وقبوله كما هو. لقد طالب "ابن رشد" بالاستفادة من انجازات الفكر، بصرف النظر عما إذا كان المفكر وثنياً، أو يدين بدين آخر ، المعيار عنده هو "صحة المعرفة". والرشدى الحقيقى يمارس التسامح إلى أقصى درجة، ذلك لأن وراء كل حقيقتين متعارضتين فى الظاهر "وحدة" بين طرفيها جهل متبادل .. وحدة فى انتظار من يكتشفها من خلال الحوار.
ويروى أن "ابن رشد" أتاه خبر رجل من أهل الصلاح يشفى المرضى من الرجال والنساء بأن يجعلهم ينفقون من المال ما يساوى ثمن العضو المريض كما يقدره. وبدلاً من أن يسارع (الفقيه وقاضى قضاة قرطبة) بالتنديد بالشعوذة، قال: "هذا رجل يعتقد أن الوجود ينفعل بالجود" .. هكذا كان ابن رشد متسامحاً إلى أقصى درجة.
حاول الفيلم إظهار كيف آمن ابن رشد بضرورة الانفتاح على الآخر كمقدمة لقبوله والتحاور معه بل والتعلم عليه، وكيف واجه قوى التعصب والتطرف التي سعت لإحراق مؤلفاته ظناً منها أن بذلك تحرق أفكاره ناسية أنه كما قال مخرج الفيلم "الأفكار لها أجنحة" وأن الفكر الحر يمكن أن يجمع البشر بغض النظر عن اختلاف الثقافات عندما صور أحد الأوربيين المسيحيين يسعى لإنقاذ كتابات ابن رشد إيماناً بقيمة الإبداع الفكري.
ولم يقتصر استلهام الدراما المصرية للموروث التاريخي للتسامح على تجسيد هذه القيمة من خلال المفكرين و العلماء بل سعت لإظهار كيف كان التسامح نمط حياة وسياسة دولة حتى في أشد حالات التدافع الحضاري والعسكري كما هو الحال في الحروب الصليبية فقد خاض المصريون والعرب الحرب دفاعاً عن أوطانهم وكان أمضى أسلحتهم إيمانهم بعدالة قضيتهم وأنهم يدافعون عن ميراث أكثر من ألف عام من السلام والتعايش في هذه الأراضي المقدسة فكان موقف الأقباط من الغزاة الصليبيين امتداداً لموقف الكنيسة القبطية القومي المستقل وبلغ من شدة غيظ الصليبيين لعدم مساعدة الأقباط لهم أن أصدروا قانوناً يمنع أقباط مصر من زيارة القبر المقدس بدعوى أنهم ملحدون كما كان الصليبيون يعتقدون فيهم الهرطقة لخروجهم عن المذهب الكاثوليكي وتعترف المؤرخة مسز بوتشر بفرح الأقباط بانهزام الصليبيين فرحاً لا يوصف وهو ما تجلى في الفيلم في شخصية عيسى العوام الفدائي الذي قاتل ضمن الجيش العربي دفاعا عن الوطن.[7]
وبقدر ما كان العرب مضطرين لخوض الحرب لرد العدوان بقدر ما حرصوا على إرساء السلام من خلال التسامح حتى مع الصليبيين المعتدين. وفي حوار مبهر على لسان شخصيات الفيلم يظهر أن هزيمة الصليبيين الحقيقية كانت مع انكشاف حقيقة دوافعهم و أطماعهم التي سعت للتستر بالدين فالدين متى كان مجرداً عن الأهواء والأطماع لا يمكن إلا أن يكون نبعاً للسلام واللاعنف.
لقد كانت الدراما المصرية انعكاساً لتنوع خيوط النسيج الاجتماعي المصري دينيا واجتماعيا وسياسيا بما في ذلك اليهود الذين استمروا ينظر إليهم باعتبارهم مصريين وحسب موقعهم الاجتماعي فمنهم الغني ومنهم الفقير وإن كان هذا لا يمنع وجود صهاينة بينهم أو حتى متجنسين بجنسيات أجنبية، ولكن في النهاية لا يتم تصنيفهم خارج الإطار الاجتماعي العام، أي لا يتم تصنيفهم في صورة نمطية خاصة بهم هذا التعامل أدى إلى أن صورة اليهودي في الدراما كالمسرح والسينما كانت هي الصورة التقليدية للموقع الاجتماعي الذي ينتمي إليه، وتجلى هذا في مسرحية "حسن ومرقص وكوهين" لنجيب الريحاني؛ فالثلاثة تجار أحدهم مسلم والثاني مسيحي والثالث يهودي، والصورة التي يعكسونها واحدة فالمقصود أن التاجر يستغل المستخدم لديه، وبالطبع تظهر صفات نفسية خاصة؛ فاليهودي كوهين أكثر دهاء أو المسيحي مرقص أكثر دراية بالأمور المالية والمسلم حسن أكثر شدة في التعامل، وكلها صفات شخصية يتم عكسها على الصورة العامة للفرد المنتمي لدين معين، المهم هو أن الموقع الاجتماعي -أي وجود الآخر اليهودي في النسيج الاجتماعي العام للبلد- كان المحدد الأساسي للصورة الذهنية وبالتالي لانعكاس هذه الصورة في الدراما.
لنأخذ مثالا آخر في فيلم "سلامة في خير" لنجيب الريحاني سنجد أن جيران سلامة منهم النصارى واليهود، فحتى "حارة اليهود" المشهورة لم تكن "جيتو أوربي" أي منطقة عزل لليهود، بل سنجد داخل الحارة مسلمين ونصارى من ذات الموقع الاجتماعي، سنجد أيضا مجموعة أفلام "شالوم" من إنتاج توجو مزراحي، وهي مجموعة أفلام كوميدية من بطولة ممثل يهودي في الثلاثينيات هو "شالوم" تحمل اسمه تقليدا لشخصية شارلي شابلين، ولكن بطريقة مصرية اعتمادا على فكرة البطل الفهلوي الصعلوك. وكان معه دائما بطل مصري مسلم هو "عبده" وتكرر هذا في أفلامه الخمسة.
صورة اليهودي تكررت أيضا في الأدوار الثانوية في أفلام عديدة، مثلا الخياطة اليهودية أو معلمة الرقص أو معلمة البيانو أو غير ذلك من مهن أي أنها كانت تعكس دائما صورة الآخر المرئي الموجود.
ربما كان أوضح مثال على هذا فيلم "فاطمة وماريكا وراشيل" 1949 حيث يلعب محمد فوزي دور "يوسف" المستهتر الذي يوقع الفتيات في غرامه مستخدما ثراءه الفاحش، ويتعرف على راشيل اليهودية فيخبرها بأن اسمه "يوسف حزقيل" ويتعرف على ماريكا اليونانية فيخبرها بأنه رومي أي يوناني، بمعنى أنه يغير جلده حسب الفتاة.
مرة أخرى الآخر موجود أمامنا وبالتالي يتم التعامل معه تعاملا حقيقيا وتنعكس صورته في الدراما بشكل حقيقي ولا يتم تحويله إلى صورة نمطية متكررة غير موجودة إلا في ذهنية القائمين بالعمل الدرامي.
وحتى عندما تطرق الدراما التلفيزيونية لمسألة هجرة بعض الشباب المصريين لإسرائيل وزواجهم بإسرائيليات، في مسلسل الفنار الذي كتبه مجدي صابر وأخرجه خالد بهجت وتولت إنتاجه مدينة الإنتاج الإعلامي فإن المسلسل استهدف توجيه الانتباه لمحاذير هذه الزيجات من إسرئيليات (وليس كيهوديات) على الأمن القومي المصري[8] خاصة في ظل غموض النوايا الإسرائيلية بشأن السلام والخرق الصارخ له بالعدوان المتتالي على الدول العربية.
وإذا كانت المعرفة والحوار والانفتاح هما مقدمات التسامح وقبول الآخر ومن ثم السلام الاجتماعي فإن الدراما المصرية صورت الحياة الواقعية لشركاء الوطن المسلمين والأقباط وامتزاجهما في رحلة الحياة بلا تكلف ولا إدعاء ويمكن الإشارة هنا على العديد من الأعمال الدرامية من بينها مسلسل "خالتي صفية و الدير" قصة بهاء طاهر، الكاتب المصري الحساس، الرقيق، الذي كتب روايات تذكر بغناها وخيالها وقوة شخوصها من الناحية الإنسانية و الفنية، بروايات الكبير "نجيب محفوظ"[9]، وأخرجه من إنتاج قطاع الإنتاج باتحاد الإذاعة والتليفزيون عام 1994 ف"صفية".. الفتاة القروية الجميلة ذات الستة عشر ربيعا.. التي تحيا في كنف بعض أقاربها تتطلع خفية لابن عمها –مجازا- "حربي"..( ممدوح عبد العليم) الشاب القوي الوسيم المليء بالحياة و الكرامة و الكبرياء.. لكن "حربي" لا يفطن لحب "صفية" بل يتوسط كذلك في مسألة زواجها من الباشا الغني.. ورغم أنها توافق على الزواج، بيد أنها لا تغفر أبدا ل"حربي" تجاهله لشعورها.. فتوقع بينه وبين الباشا إلى أن يقضي عليه..ويعرض المسلسل تفاصيل الحياة المشتركة بين المسلمين والمسيحيين.
كما قدم العديد من الأعمال الدرامية الشخصيات المسيحية كجزء لا ينفصم من الواقع المصري بما يتضمنه من قوى التسامح الغالب وتعصب طارئ بفعل بعض التحولات الاقتصادية الاجتماعية ففي فيلم "بحب السيما" الأسرة المسيحية لا في إطار نمطي حتى لو كان مثالياً بل كأسرة مصرية عادية لكنها تعاني الصراع بين الأب المتزمت دينياً والأم والأبناء الذين يضيقون بهذا التزمت الناجم عن تفسير شخصي للدين لا يرى ما فيه من سماحة ويسر.
بينما كتب وحيد حامد مسلسله «أوان الورد» الذي قامت الفنانة يسرا ببطولته ليكون العمل بمثابة «بلسم» يوضع على جرح الفتنة الطائفية فكان يقصد أن يثبت أن المسلمين والأقباط اسرة واحدة، ومستقبل واحد.
وكان حامد يهدف الى تلطيف الأجواء، وفتح حوار حضاري يزيل العديد من جراح الفتنة الطائفية بعد أحداث الكشح، ويخفف التوتر الذي حدث، بتشجيع من وزير الاعلام السابق صفوت الشريف بعد نجاح الفيلم التسجيلي الذي كتبه لقناة النيل للأخبار حاملا نفس الفكرة وبالفعل تناول المؤلف الفكرة وعالجها بكل حرية وجرأة، ولم تتدخل الرقابة التلفزيونية باعتراف المؤلف- في أي شيء. وأبدى العديد من الشخصيات القبطية المستنيرة إعجابها بالمسلسل مثل المفكر والكاتب د. ميلاد حنا، والصحافي سعيد سنبل ود. ليلى تكلا. ولا تنسى ان مخرج المسلسل -سمير سيف- هو قبطي متدين. على الرغم من بعض الانتقادات وهو أمر طبيعي لأن المسلسل قام على فكرة المصارحة والشفافية التي سادت «أوان الورد» أو أوان يعم التسامح والحب كما يذكر مؤلف المسلسل[10]
فالمسلسل يدور حول فتاة مسلمة (أمل) من أم مسيحية وأب مسلم تتزوج من ضابط مسلم ويتم اختطاف ابنها انتقاماً من الأب فتتضافر جهود العم المسلم مع الخال المسيحي لاستعادة الابن.
وبالمثل يناقش مسلسل "بنت من شبرا" في إطار واقعي فترة من فترات التاريخ في حي مصري وهو حي شبرا الذي يتميز بتمازج أبناء الأديان الثلاثة الذين يعيشون به كما أنه كان معقلا للأقليات الأوروبية التي تعيش في مصر.
المسلسل الذي أخرجه جمال عبد الحميد من إنتاج شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات عام:2004 يتناول قصة "ماريا" (ليلى علوي ) القبطية التى تنتمي إلى أصول يونانية وتعيش في حي شبرا في العاصمة المصرية وتتميز بتطلعاتها الكبيرة التي زرعها فيها والدها الذي يعمل "حلاقا" في البلاط الملكي ما يدفعها إلى الخوض في الرذائل حتى تحقق تطلعاتها.
وتتتابع أحداث المسلسل حتى يصبح لماريا حفيد مسلم متطرف دينيا ينتقد سلوك ماريا الفاحش ويدفعها إلى التفكير في الدين في إطار اجتماعي مبهر خلقه مخرج العمل جمال عبد الحميد.
وكان اختيار حي شبرا لإسباغ الواقعية على القصة التي كتبها الكاتب الكبير فتحي غانم حيث يشهد هذا الحي امتزاجا قويا بين أبنائه وقد يحدث أن مسيحية تتزوج من مسلم.[11]
إن المكاشفة والمصارحة استمرت مطمحا أساسياً للدراما المصرية لاجتثاث كل ما يهدد السلام الاجتماعي من تناقضات طبقية واجتماعية تلتقي في "عمارة يعقوبيان" التي استلهمها عباس الأسواني في روايته بهذا الاسم وعنها كانت المعالجة الدرامية السينمائية والتفزيونية التي قدمها في التلفزيون المخرج أحمد صقر من إنتاج شركة كينج توت 2007 فبطلة المسلسل (بثينة) الممثلة روجينا تدفعها البطالة إلى التغاضي عن التحرش الجنسي وأما الفساد - فيتجسد في شخصية السياسي والتاجر (الحاج عزام الذي يقوم بدوره صلاح السعدني) الذي يسعى لدخول السياسة من باب السمسرة والأموال المشبوهة للسياسة- فيدفع الفساد والمحسوبية بطل العمل (آسر ياسين) إلى الانضمام لجماعات الإرهاب المتستر بالدين فيحذر العمل من الأشكال المختلفة من العنف الذي بدأ ينخر بنية العلاقات الاجتماعية بأشكاله المادية والرمزية ليكون عملاً "يفضح العطن" ولكنه أبداً لم يفضح الوطن كما قيل.
[1]http://daccessdds.un.org/doc/UNDOC/GEN/N06/497/11/PDF/N0649711 .pdf?OpenElement
[2] نظريات التأثير الإعلامية (المفسرة لسلوك الجمهور) منتديات المنشاوي، موقع المنشاوي للدراسات والبحوث, Minshawy.com
[3] سـامح فوزي، السلام الاجتماعي في المجتمع المصري www. maatpeace.org
[4] سهير زين منصور الملتقى الدولي حول "دور المرأة في نشر ثقافة السلام" تونس : من 06 إلى 08 جانفي 2005 ورقة عمل حول : "واقع المرأة العربية في عملية نشر ثقافة السلام والحلول المقترحة". اللجنة الوطنية التونسية للتربية والعلم والثقافة (يونسكو – ألكسو – إيسيسكو) http://www.unft.org.tn/paix/pres/3.doc
[5] www.alshabab.gov.eg/pioneers/Book/cluture_peace.pdf -
[6] التسامح وقبول الآخر د.عصام عبد الله إشراف مركز ماعت للدراسات الحقوقية و الدستورية http://www.maatpeace.org/fckeditor/editor/filemanager/browser/default/connectors/aspx/userfiles/File/ Esdaratna 1.doc
[7] سميرة بحر، الأقباط في السياسة المصرية عرض وتقديم عبدالله جاد فودة Mnzoor.blogspot.com
[8] http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=105081&IssueID=1040
[9] http://boutheina.over-blog.com/article-6095772.html
[10] http://www.asharqalawsat.com/details.asp?section=24&article=18738&issueno=8062
[11] http://www.aljazeera.net/News/archive/archive?ArchiveId=97679
عانت الإنسانية على مدار قرون طويلة من ويلات الحروب، فاصطلت بنار حربين عالميتين وعشرات الحروب الإقليمية والأهلية التي زادت من المعاناة الإنسانية، وأخرت تطور الحضارة الإنسانية؛ حيث شهدت هذه الحروب إهداراً لكافة الحقوق الإنسانية وعلى رأسها الحق في الحياة، وكانت سبباً مباشراً في انتشار الفقر والمرض والبؤس.
وقد لفت إخفاق الجهود المتتابعة لإرساء السلام انتباه العالم إلى أن العامل الأهم وراء هذا الإخفاق هو إهمال حقيقة كون الحرب تتولد في عقول البشر، لذا يجب أن تبنى في عقولهم حصون السلام، فهذا الفهم الذي اتخذته اليونسكو شعاراً لها يقوم على حقيقة أن السلام الذي يقوم على أساس الترتيبات التي تتفق عليها الحكومات فقط لن يحظى بالتأييد الإجماعي والمخلص من كافة الشعوب ومن ثم يصعب استدامته فلابد لنجاح السلام من أن يؤسس على التضامن الفكري والمعنوي للبشرية. [1]
فالمسألة لم تعد تلافيًا لمظاهر الحرب إنما اجتثاث لجذورها العميقة في الثقافة والفكر بحيث تتحول ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام، وبهذا المعنى تنطوي ثقافة السلام على عملية مجتمعية مستمرة process تعزز المعارف والمهارات والقيم والمواقف والتصرفات التي تنسجم وتدعم ثقافة السلام، وتقوم هذه العملية على تآزر وشراكة قوية بين جهود المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب، وتقوم وسائل الإعلام الجماهيري بدور مهم في هذا الصدد لما أظهرته البحوث العلمية من تأثيرها في قطاعات عريضة من فئات المجتمع التي تتعرض لها حتى أن بعض النظريات ترى وسائل الإعلام تؤثر تأثيراً مباشراً، وسريعاً في الجمهور، وأن الاستجابة للرسائل الاتصالية مثل رصاصة البندقية تؤثر بعد انطلاقها مباشرة، في حين ترى نظرية الغرس الثقافي أن الجمهور يتأثر بوسائل الإعلام في إدراك العالم المحيط به، وتزيد معارفهم، وترى نظرية ثالثة أن الإعلام يقوم بترتيب اهتمامات الجمهور من خلال إبراز القضايا التي تستحق، وإهمال قضايا أخرى. فيبدي الجمهور اهتمامه بهذه القضايا دون غيرها. [2]
وتكتسب الدراما – خاصة التليفزيونية- كأحد أشكال الرسائل الاتصالية أهمية خاصة في دعم ثقافة السلام باعتبارها وسيطاً تحول من مجرد اختراع ذى طابع علمى قائم على خدعة بصرية إلى كونه واحدا من أهم وسائل التعبير ذي الشعبية الواسعة فهي شكل يقوم على تصوير الواقع المعيش اعتماداً على عناصر التشويق والتعبير البصري الحركي بما يجعله قريبا من المتلقي وقادراً على مخاطبة قطاعات عريضة من المجتمع.
وتقتضي محاولة تتبع مدى تعبير الدراما التلفزيونية المصرية عن ثقافة السلام والتسامح و معالجتها للقضايا المتعلقة بهذه الثقافة تحديداً أدق لمفاهيم ثقافة السلام والتسامح. فعلى الرغم ما تبدو عليه هذه المفاهيم من وضوح بدهي فإن النزول بها إلى عالم الواقع يظهر قدر الاختلاف في الرؤية بصددها.
فالمعنى الشائع للسلام هو غياب الحرب، لكن هل يستغرق هذا المعنى كافة أبعاد السلام؟ ألا يمكن أن يخفي غياب الحرب حالة من القهر تنطوي على عدم تكافؤ حاد في القوى بين المعتدي والمعتدى عليه؟ ويحاول البعض تقديم مفهوم أوسع للسلام باعتباره "غياب العنف" بحيث يعني غياب كل ما له علاقة بالعنف، مثل – إضافة إلى الحرب - الجرائم الكبرى المنظمة كالإرهاب، أو النزاعات العرقية أو الدينية أو الطائفية أو المناطقية (أي تلك التي تنشب بين مناطق جغرافية في مواجهة مناطق أخري داخل إقليم الدولة ذاته) والتي تتنوع أسبابها بين اعتبارات اقتصادية (مثل الصراع علي الثروات الطبيعية كما هو الأمر في العديد من بلدان أفريقيا)، أو سياسية (مثل احتكار مناطق جغرافية معينة للسلطة السياسية مثلما هو النزاع الجاري حاليا في دارفور) أو عرقية (مثل النزاعات بين الأعراق المختلفة التي تقطن مناطق جغرافية في مواجهة بعضها بعضا كما كان الحال حتى وقت قريب في الصراع بين شمال وجنوب السودان).
ويلاحظ أن هذا التعريف للسلام تعريف بالسلب، أي أنه يوجد متى غابت حالات معينة فهو لا يتطرق إلى جوهر السلام وحقيقته لذلك لابد من تكميله بتعريف إيجابي حيث يمكن تعريف السلام بأنه "الاتفاق، الانسجام، الهدوء...". وفق هذا التعريف فإن السلام- عكس التعريف السابق- لا يعني غياب العنف بكافة أشكاله فقط، ولكنه يعني صفات ايجابية مرغوبة في ذاتها مثل الحاجة إلي التوصل إلي اتفاق، الرغبة في تحقيق الانسجام في العلاقات بين البشر، سيادة حالة من الهدوء في العلاقات بين الجماعات المختلفة...إلخ. السلام- إذن- هو حالة إيجابية في ذاتها (الاستقرار والهدوء مثلا)، أكثر من كونه غيابا لحالة سلبية مرفوضة (العنف، الحرب، القتل مثلا).
يفتح هذا التعريف المجال أمام التفكير في مستويات مختلفة للتعامل مع مفهوم "السلام". هناك سلام بين دول، وهناك سلام بين جماعات بشرية، وهناك سلام في داخل الأسرة، وهناك سلام بين المرء وذاته. وهذه المستويات تشكل وحدة متكاملة، لا يمكن فصل أحدها عن الآخر، بل قد يشكل كل منها منطلقاً لوجود الآخر.
ـ السلام الذاتي أو الشخصي
وتتمثل في العيش في أجواء سلام ذاتي، فتكون علاقة الإنسان بذاته مفعمة بمشاعر الرضى والطمأنينة والأمان وعدم الخوف والاطمئنان على المستقبل.
إن توافر العوامل والضمانات الإيجابية يقيم حالة استقرار داخلي لدى الإنسان يجعله مؤهلاً للاضطلاع بدوره على صعيد السلام في محيطه وفي العالم.
وهناك العديد من العوامل التي يمكن أن تؤثر سلباً على السلام الذاتي منها الشعور بعدم القدرة على إثبات الذات بسبب عدم المساواة جراء المعتقدات والعادات الاجتماعية
الشعور بالإجحاف جراء القوانين الجائرة على حقوق الإنسان فهذه العوامل تجعل الإنسان يشعر إلى حد ما بالعجز عن العيش في ظل استقرار ذاتي يمكِّنه من الانطلاق إلى العالم الخارجي بثقة وفاعلية.
2ـ السلام الأُسري والعائلي
ويتجلى في سيادة التوافق بين أفراد الأسرة وحياتها في أجواء من الاحترام المتبادل ومما يؤثر سلباً على هذا السلام العنف المنزلي وسوء المعاملة (الإيذاء الجسدي، الإيذاء الجنسي...)، والإجحاف الناتج عن عدم الرعاية الصحية، وعدم الحماية من الأمراض والأوبئة، والحرمان من حق التعلم.
3 ـ السلام الاجتماعي الوطني[3]
يتكون كل مجتمع من مجموعة من البشر، مختلفون بالضرورة عن بعضهم بعض، سواء في انتمائهم الديني، أوالمذهبي، أوموقعهم الاجتماعي، أوالوظيفي، فمن الثابت أن المجتمعات تقوم علي التعددية الثقافية والدينية والنوعية والسياسية، كل طرف لديه ما يشغله، وما يود تحقيقه. القاسم المشترك بين الجماعات المختلفة هو أساس بناء المجتمعات ويعني السلام الاجتماعي سيادة الوفاق بين هذه المجموعات المختلفة من خلال ما يمكن أن نطلق عليه "عقدا اجتماعيا"، أي التزام غير مكتوب بينهم، يتناول حقوق وواجبات كل طرف في المجتمع. الخروج علي هذا العقد يمثل انتهاكا لحقوق طرف، وإخلالا بالتزامات طرف آخر مما يستوجب التدخل الحاسم لتصحيح الموقف ليس بالعنف بل بالإجراءات القانونية.
هناك عدة أركان للسلام الاجتماعي في أي مجتمع، لا تتصل فقط بالتاريخ، لكنها تقترب أكثر فأكثر من الإدارة السياسية للمجتمعات، منها:
1- الإدارة السلمية للتعددية.
بطريقة تحفظ للجماعات المتنوعة التي تعيش مع بعضها بعضا مساحة للتعبير عن تنوعها في أجواء من الاحترام المتبادل.
2- الاحتكام إلي القانون
يمثل "حكم القانون" في المجتمع الحديث أحد أهم عوامل تحقيق المساواة والعدالة في العلاقات بين الأفراد، والجماعات ويؤدي إلى ما يمكن أن نطلق عليه "التوقع الاجتماعي" ويعني ذلك أن الأفراد يتوقعون نظاما قانونيا في المجتمع، يحكم علاقات بعضهم بعضا، يقوم علي وضوح القوانين، وشفافية عملية التقاضي، والحزم في تنفيذ الأحكام القضائية النهائية واجبة النفاذ. غياب بعض هذه المعايير أو جميعها يؤدي إلي إهدار لمفهوم المساواة بين المواطنين في المجتمع، ويدفع الأفراد إلي الاستناد إلي أعراف من صنعهم، مثل البلطجة والرشوة وجميعها تعبر عن اهتزاز مفهوم "حكم القانون" في نفوس الأفراد، وهو ما يؤثر علي السلام الاجتماعي في المجتمع.
3- الحكم الرشيد
الحفاظ علي السلام الاجتماعي في أي مجتمع يحتاج إلي حكم رشيد. كثير من القلائل والإضرابات تحدث من جراء غياب المشاركة وسرقة المال العام. من هنا يحتاج السلام الاجتماعي إلي ديمقراطية.
ويعني الحكم الرشيد Good Governance مجموعة من المفاهيم الأساسية، يمكن تعريفها بإيجاز المساءلة Accountability والشفافية Transparency وتعنى العلنية في مناقشة الموضوعات، وحرية تداول المعلومات في المجتمع. تساعد الشفافية في تداول المعلومات علي تحقيق المساءلة الجادة حين تتوفر الحقائق أمام المواطنين في المجتمع.
التمكين Empowerment ويعنى توسيع قدرات الأفراد، ومساعدتهم على تطوير الحياة التي يعيشونها. ويشمل تمكين المواطنين وتحويلهم من "متلقين" سلبيين إلى مشاركين" فاعلين، يكون ذلك من خلال رفع قدراتهم، ومساعدتهم علي تنمية أنفسهم، والارتقاء بنوعية الحياة. المشاركة Participation وتعنى تشجيع الأفراد علي المشاركة في العمل العام وإزالة العقبات من أمامهم. محاربة الفساد Corruption أو سوء استخدام الموقع الوظيفي من أجل تحقيق مكاسب شخصية.
4- حرية التعبير وهي من مستلزمات عملية بناء السلام الاجتماعي في أي مجتمع.. ولا يتحقق السلام الاجتماعي دون أن تتمتع كل مكونات المجتمع من مساحات متساوية في التعبير عن آرائها، وهمومها، وطموحاتها. في مناخ عقلاني يسوده الانفتاح يمكن الاستماع إلي كل الأطراف، وتفهم كل الآراء، دون استبعاد لأحد، بهدف الوصول إلي الأرضية المشتركة التي يلتقي عندها الجميع
5- و تعد العدالة الاجتماعية ركنا أساسيا من أركان السلام الاجتماعي حيث لا يمكن أن تحتكر كل شيء، وغالبيته تفتقر إلي كل شيء. الصراع بين الطرفين سيكون السمة الغالبة. ولا يقتصر مفهوم العدالة الاجتماعية علي المشاركة في الثروة، وتوسيع قاعدة الملكية لتشمل قطاعات عريضة من المجتمع، والحصول علي نصيب عادل من الخدمات العامة، ولكن يمتد ليشمل ما يمكن أن نطلق عليه "المكانة الاجتماعية"، التي تتحقق من خلال مؤشرات واضحة مثل التعليم.
يحتاج السلام الاجتماعي إعلاما يجد فيه المواطن العادي مساحة تعبير ملائمة عن همومه المتنوعة حسب موقعه الاجتماعي والديني والسياسي بحيث يصبح إعلاماً يعزز المواطنة
4- السلام الإقليمي والدولي[4]
بغياب الصراعات والحروب وقيام نظام دولي يحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها وسيادة الدول وخصوصياتها الحضارية والثقافية مع شروط تبادل اقتصادي متكافئ بين الدول المتقدمة والنامية .
نخلص إذاً إلى أن السلام ليس مجرد غياب للحروب بل عملية إيجابية تشاركية ترتبط بتحقيق الديمقراطية والعدالة والتنمية للجميع بما يكفل احترام الاختلافات وتشجيع الحوار وتحويل النزاعات بفضل وسائل اللاعنف على سبل جديدة للتعاون
واستناداً إلى هذا المعنى الأوسع والأكثر إيجابية للسلام تصبح ثقافة السلام مجموعة من القيم والمواقف والتقاليد والعادات وأنماط السلوك وأساليب الحياة بحيث تجسد في مجموعها تعبيراً وطموحاً إلى احترام الحياة واحترام البشر وحقوقهم مع رفض العنف بكل أشكاله والاعتراف بالحقوق المتساوية للرجل والمرأة والاعتراف بحق كل فرد في حرية التعبير والإعراب عن الرأي والحصول على المعلومات والتمسك بمبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية والتنمية للجميع والتسامح والتضامن والتعددية وقبول الاختلافات والتفاهم بين الأمم والفئات العرقية والدينية والثقافية وغيرها من الفئات والمساهمة في منع الصراعات من خلال عمليات بناء السلام
وإيماناً بالسلام ودور المرأة في تحقيقه انطلقت أول مبادرة سلمية للمرأة في المنطقة العربية[5] هي " حركة سوزان مبارك الدولية للمرأة من أجل السلام " كمنظمة دولية غير حكومية تستهدف تفادي العنف على كافة المستويات وتطوير البدائل الناجحة للصراعات المسلحة وتقوية روح التسامح بين الناس وتعزيز دور المرأة في عمليات السلام الرسمية وغير الرسمية وضمان مشاركتها في السياسات والإجراءات الدولية لتحقيق السلام.
إن ثقافة السلام بالمعنى المشار إليه تقتضي إطاراً فكريا وسلوكيا يعد التسامح أهم مقوماته فالتسامح – كما أشار إعلان اليونسكو – هو الفضيلة التي تيسر قيام السلام وإحلال ثقافة السلام محل الحرب.
وللوقوف على معنى التسامح يجب الرجوع على أصوله اللغوية والفكرية: فالتسامح فى "لسان العرب" لابن منظور ، ثرى المعانى ، ومعظم هذه المعانى مشتق من (سمح) . السماح والمسامحة: أى الجود والعطاء عن كرم وسخاء، وليس تسامحاً عن تنازل أو منة .
والمسامحة: المساهلة . وتسامحوا : تساهلوا ، لأن "السماح رباح" كما جاء فى الحديث الشريف ، بمعنى أن المساهلة فى الأشياء تربح صاحبها. وبمعنى حقوقى حديث أن تتسامح مع الآخر يعنى أنك تعترف بحقه . وهذا ليس تنازلاً أو خسارة، لأن "السماح رباح" .. لك وللآخر .
وتقول العرب: "عليك بالحق فإن فيه لمسمحاً ، أى متسعاً " فالتسامح حق يتسع للمختلفين، أو قل أنه استواء فى الاختلاف
وذكر عبد الرحيم بن عبد الكريم صفى بور فى "منتهى الارب فى لغة العرب" ساهل : تساهل معه، وأبدى ليونة فى الطلب. تسامح: تساهل فيه(3) . ربما لأن التساهل والتسامح واللين والرفق، يشير فى الواقع إلى أسلوب معين فى التعامل، يراد له أن يسود، ذلك أن الدين سمح والشريعة سهلة، وهما أسلوب حياة . فلم يشأ الله تعالى أن يكون المؤمنون فى حرج ومشقة وضيق فى دينهم، لذا جعل الدين يسيراً وخاطب النبى (ص) بقوله "ونيسرك لليسرى"(4) .
وفى اللغة الانجليزية هناك مقابلان لكلمة تسامح، الأول Tolerance والثانى Toleration ، وهذا أدى إلى تعدد الاجتهادات فى إبراز الفروق بينهما . ففى معجم "وبستر" تعنى كلمة Toleration سياسة التسامح المتبعة مع كل الآراء الدينية وأشكال العبادة المناقضة أو المختلفة مع المعتقد السائد ، بينما تعنى لفظة Tolerance استعداد المرء لتحمل معتقدات وممارسات وعادات تختلف عما يعتقد به .
وقد حاول بعض الكتاب التمييز بين هذين اللفظين، بما يتيح لهم تعيين الأوجه المختلفة للتسامح، فاقترح "كريك" Crick كلمة Tolerance لوصف فعل التسامح نفسه، وكلمة Toleration لوصف المبدأ المعلن والقائل بأن على المرء أن يكون متسامحاً ، وقد لاحظ أن (Tolerance) وجدت أولاً من الناحية التاريخية قبل أن تصك كلمة (Toleration) يقول : "أن ما اعتقده هو أن Toleration تعنى فى الاستعمال العادى فعل ممارسة التسامح، وأنه من السهل تمييزها عن مبدأ التسامح دون الاستعانة بأى تعبير آخر".
وقد ظهرت كلمة Tolerance أولآ فى كتابات الفلاسفة فى القرن السابع عشر، أو قل زمن الصراع بين البروتستانت والكنيسة الكاثوليكية. حيث نادى "جان بودان" و "مونتينى" و"اسبينوزا" فى "البحث اللاهوتى الفلسفى"، و"روجر وليمز" فى رسالتيه" العقيدة الدموية للاضطهاد بسبب الضمير" 1644 و "العقيدة الأكثر دموية" 1652، و"جون ميلتون" و"جون لوك" فى كتابه "رسالة فى التسامح" 1689 – 1692، وغيرهم، بضرورة التسامح بين المخالفين فى الرأى والعقيدة ، وحق الاجتهاد ، واتخاذ العقل ميزاناً وحكماً .
وإذا كان التسامح يعرف بضده وهو “التعصب”، فإن التعصب فى تاريخ الاجتماع البشرى هو عصب الفكرة الشمولية الأحادية سواء كانت دينية أم وضعية، كما كان الحال فى أنظمة التعصب الكنسي في العصور الوسطى، ثم أنظمة التعصب الأيديولوجي في العصر الحديث (الفاشية والشيوعية والنازية والصهيونية)، واليوم الحركات الأصولية فى الشرق والغرب: إسلامية ويهودية ومسيحية وهندوسية وسنهالية وتاميلية وصربية ونازية جديدة .. الخ .
والتعصب فى اللغة هو عدم قبول “الحق” عند ظهور الدليل بناء على ميل إلى جهة أو طرف أو جماعة أو مذهب أو فكر سياسي أو طائفة. وهو من “العصبية” وهى ارتباط الشخص بفكر أو جماعة والجد فى نصرتها والانغلاق على مبادئها .
والشخص المتعصب Fanatical هو الذي يرفض الحق الثابت والموجود ويصادر الفكر الآخر أو الدين الآخر، أو لا يعترف بوجود كل ما هو آخر أصلاً، سواء في الدين أو المذهب أو الطائفة أو العرق أو الحزب، وإن ارتبط التعصب فى أذهان الناس بـ “الدين” أساساً ربما لخطورته، لذا انصب “هم” الفلاسفة على تقويض التعصب أساسا حتى يفسحوا المجال للتسامح
وقد حدد "إعلان مبادئ التسامح" الصادر عن اليونسكو فى سنة 1995، أن التسامح: "ليس فقط مجرد التزام أخلاقي وإنما أيضاً ضرورة سياسية وقانونية". وهكذا فإن التسامح فضيلة وممارسة تجعل السلام ممكناً بين الشعوب، باستبدالها الصريح للحرب باللاعنف بحيث يتحول إلى تسامح نشيط يمتلك حق العمل علي تحييد الشعوب ووقايتها وحمايتها وتربيتها، فى ممارستها السياسية والمؤسسات الاجتماعية، وخصوصاً عن طريق الأسرة والتربية وثقافة السلام.
إن ممارسة التسامح مبدأ للتعايش ولاحترام الآخر، سواء حدد كصديق أو كخصم أو غير ذلك ، فإنه يشارك مثلنا تماماً فى الحياة العامة حيث تتقابل الآراء والمبادئ عن طريق "المسافة المناسبة" التى يهيئها العقد الاجتماعي أو الميثاق الوطنى، وحسب الفيلسوف الفرنسى "ادجار موران" فإن التسامح ضرورة ديمقراطية ، لأن الديمقراطية تتغذى من صراع الأفكار ، وتندثر بصراع الأجساد .
والديمقراطية هى ذلك النظام الذى يحترم عملياً ثلاثة مبادئ أساسية:
أما المبدأ الأول فهو مبدأ "التسامح"، ويلزم الدولة بأن تضمن على أرضها حرية التعبير عن المعتقدات السياسية، والفلسفية والدينية، بشرط ألا تؤدى هذه المعتقدات إلى إشاعة الاضطراب أو الفوضى فى الساحة العامة للمجتمع.
فالتسامح Tolerance يعنى الاستعداد لاتخاذ الموقف المتسامح. وهو لا يمكن أن يعد فضيلة إلا عندما يمكن للمرء ألا يكون متسامحاً، فهو قريب من مفهوم "العفو" والصفح. فليس فى استطاعتنا أن نتحدث عن موقف متسامح فى حال شخص يضطر، وهو مضطهد وفى موقف الضعيف أن يتحمل الآخرين. لذلك فالمتسامح هو من فى موقف القوة ، سواء كان فى السلطة أو ممثلاً للأغلبية، وهكذا يرتبط التسامح بالسلطة والقوة والغلبة أساساً، وكل حـديث عن التسامح بمعنى قبول الآخرين فى اختلافهم – سواء فى الدين أم العرق أم السياسة – أو عدم منع الآخرين من أن يكونوا آخرين أو إكراههم على التخلى عن آخريتهم Otherness إنما يعنى به فى المقام الأول "التسامح" بالمعنى المتقدم .
من هنا يختلف التسامح تمام الاختلاف عن اللامبالاة أو عدم الاكتراث أو التنازل لشخص كتعبير عن الأدب، باعتبار اشتقاق الكلمة من لفظة (س.م.ح) . فمن غير المعقول أن أعيش دون معتقدات ولا أهتم بمعتقدات الآخرين ثم أدعى أننى أبدى تسامحاً إزاء أندادى فى العقيدة أو المختلفين معى .
حدود التسامح
لم يكن معظم المنادين بالتسامح مستعدين دائماً للسير بهذا المبدأ حتى نهاية الشوط ، أو فى كل الاتجاهات وعلى كافة الصعد. فـ "جون لوك" أكبر المؤيدين لمبدأ التسامح وضع مجموعة من الضوابط، من يتعداها لا يمكن التسامح معه بأى حال من الأحوال:
1- الترويج لمعتقدات وأصول تهدد بنسف المجتمع نفسه.
2- الترويج للإلحاد .
3- الأفعال التى تهدف إلى تدمير الدولة أو التعدى على أموال الآخرين.
4- الولاء للحكام الخارجيين(الخيانة)
الشئ نفسه نجده عند "فولتير" أشهر فلاسفة التنوير، فهو ضد اضطهاد الأفكار والمعتقدات ، ومن أقوى المنادين بحرية الفكر التى لا تحدها حدود ، وصاحب أشهر مقولة فى الحرية وحق الاختلاف فى الرأى، ومع ذلك فإنه جعل حدوداً للتسامح لا يتعداها عندما يتعلق الأمر بشئون "الدولة" والسياسة .. وحسب "راندال" : "فقد كان عصر التنوير مستعداً للتسامح فى أمر الاختلاف الدينى لا السياسى" برغم أنه كان أكثر العصور تقدماً من ناحية الفكر السياسى .
وهنا نستطيع أن نقف على التحول الجديد الذى طرأ على مفهوم التسامح ، إذ لم يكن أحد من دعاة التسامح الدينى مستعدا للذهاب بهذا المبدأ إلى أبعد مما تقتضيه مصلحة الدولة . وبالتالى أخذ التشريع لـ "التسامح" يخضع للمصلحة القومية منذ أن بلغت النزعة القومية فى أوربا عنفوانها
أضف إلى ذلك أن التسامح لا يعنى تقبل الظلم الاجتماعى أو تنحى المرء عن معتقداته والتهاون بشأنها، كما لا يعنى ممارسة دور الحرباء بالتلون بفكر وآخر والقفز من عقيدة إلى عقيدة أخرى، أو المواطنة الجبانة، ذلك لأن التسامح هو التعبير الأكثر كمالاً لحرية الإيمان والتفكير والتعبير، أنه تأكيد لمشاعر الضمير والإحساس .
إن الحوار العقائدى قائم بذاته ، ولا يحتاج إلا إلى استراتيجية كشف واعلان للقواسم المشتركة، والجهد، ما لم يسخر فى سبيل مزيد من المعرفة المتبادلة والاحترام والمحبة المتبادلة بغية توسيع المشروع الأخلاقى الذى يخدم بدوره مشروع السلام العالمى، أى أنه إذا لم يتحول المجتمع العالمى بأسره ساحة للحوار، يبقى الأخير رهن الشعارات العقيمة وجلسات التملق والزيف والمجاملة .
ويفهم من ذلك أن أية محاولة لضغط تنوع الأديان على سرير “بروكرست” للفهم الواحد المشترك يحرم الحوار بين الأديان من بعده الحاسم، وقد يؤدى إلى التعصب. الأمر الثانى أن الحوار منظومة شاملة لا تقتصر على الأديان فقط وإنما تمتد إلى السياسة والمجتمع بجميع فئاته وطوائفه وطبقاته وأحزابه .[6]
لقد عكست الدراما المصرية قيم التسامح وثقافة السلام في العديد من أعمالها وإذا كان يصعب رصد مختلف الأعمال الدرامية فمن الممكن التوقف أمام الأعمال التي مثلت معالم بارزة في تناول هذه المفاهيم والقضايا.
وقد سعت الدراما المصرية لاستلهام واستدعاء الموروث الثري للتسامح والسلام في الخبرات الحضارية المختلفة التي عاشتها مصر منذ فجر الحضارة ففي مسلسل الإمام الشافعي الذي أخرجته شيرين قاسم عن سيناريو وحوار د. بهاء الدين إبراهيم وقام ببطولته إيمان البحر درويش (الأمام الشافعي) ورشوان توفيق ومنى عبد الغنى وعبد الرحمن أبو زهرة يظهر كيف كانت المعرفة قرينة التسامح وكيف اتسعت الجماعة العلمية للخلاف بين أصحاب المذاهب المختلفة وبين أبناء المذهب الواحد وكيف لم يعن التسامح قبول وجود الآخر وحسب بل احترامه والتتلمذ عليه وتقدير اجتهاداته حتى أن الأئمة كانوا يأمرون أتباعهم بمراعاة أحكام مذهب المخالفين لدى التعامل معهم وحتى في أداء العبادات معهم.
ويمثل فيلم الراحل "يوسف شاهين "المصير" عن ابن رشد علامة بارزة في هذا السياق حيث كان ابن رشد أحد رموز التسامح الفكري في الثقافة العربية بل والإنسانية، فقد كان ابن رشد يرى أن هناك حقيقة واحدة لكن دروب الوصول إليها مختلفة وتعدد الطرق التى تفضى إليها هو أساس حرية الفكر والتسامح الفكرى فالأديان والفلسفات والعلوم دروب مختلفة إلى هذه الحقيقة الواحدة. "والحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له" وهو ما يعنى احترام الآخر وقبوله كما هو. لقد طالب "ابن رشد" بالاستفادة من انجازات الفكر، بصرف النظر عما إذا كان المفكر وثنياً، أو يدين بدين آخر ، المعيار عنده هو "صحة المعرفة". والرشدى الحقيقى يمارس التسامح إلى أقصى درجة، ذلك لأن وراء كل حقيقتين متعارضتين فى الظاهر "وحدة" بين طرفيها جهل متبادل .. وحدة فى انتظار من يكتشفها من خلال الحوار.
ويروى أن "ابن رشد" أتاه خبر رجل من أهل الصلاح يشفى المرضى من الرجال والنساء بأن يجعلهم ينفقون من المال ما يساوى ثمن العضو المريض كما يقدره. وبدلاً من أن يسارع (الفقيه وقاضى قضاة قرطبة) بالتنديد بالشعوذة، قال: "هذا رجل يعتقد أن الوجود ينفعل بالجود" .. هكذا كان ابن رشد متسامحاً إلى أقصى درجة.
حاول الفيلم إظهار كيف آمن ابن رشد بضرورة الانفتاح على الآخر كمقدمة لقبوله والتحاور معه بل والتعلم عليه، وكيف واجه قوى التعصب والتطرف التي سعت لإحراق مؤلفاته ظناً منها أن بذلك تحرق أفكاره ناسية أنه كما قال مخرج الفيلم "الأفكار لها أجنحة" وأن الفكر الحر يمكن أن يجمع البشر بغض النظر عن اختلاف الثقافات عندما صور أحد الأوربيين المسيحيين يسعى لإنقاذ كتابات ابن رشد إيماناً بقيمة الإبداع الفكري.
ولم يقتصر استلهام الدراما المصرية للموروث التاريخي للتسامح على تجسيد هذه القيمة من خلال المفكرين و العلماء بل سعت لإظهار كيف كان التسامح نمط حياة وسياسة دولة حتى في أشد حالات التدافع الحضاري والعسكري كما هو الحال في الحروب الصليبية فقد خاض المصريون والعرب الحرب دفاعاً عن أوطانهم وكان أمضى أسلحتهم إيمانهم بعدالة قضيتهم وأنهم يدافعون عن ميراث أكثر من ألف عام من السلام والتعايش في هذه الأراضي المقدسة فكان موقف الأقباط من الغزاة الصليبيين امتداداً لموقف الكنيسة القبطية القومي المستقل وبلغ من شدة غيظ الصليبيين لعدم مساعدة الأقباط لهم أن أصدروا قانوناً يمنع أقباط مصر من زيارة القبر المقدس بدعوى أنهم ملحدون كما كان الصليبيون يعتقدون فيهم الهرطقة لخروجهم عن المذهب الكاثوليكي وتعترف المؤرخة مسز بوتشر بفرح الأقباط بانهزام الصليبيين فرحاً لا يوصف وهو ما تجلى في الفيلم في شخصية عيسى العوام الفدائي الذي قاتل ضمن الجيش العربي دفاعا عن الوطن.[7]
وبقدر ما كان العرب مضطرين لخوض الحرب لرد العدوان بقدر ما حرصوا على إرساء السلام من خلال التسامح حتى مع الصليبيين المعتدين. وفي حوار مبهر على لسان شخصيات الفيلم يظهر أن هزيمة الصليبيين الحقيقية كانت مع انكشاف حقيقة دوافعهم و أطماعهم التي سعت للتستر بالدين فالدين متى كان مجرداً عن الأهواء والأطماع لا يمكن إلا أن يكون نبعاً للسلام واللاعنف.
لقد كانت الدراما المصرية انعكاساً لتنوع خيوط النسيج الاجتماعي المصري دينيا واجتماعيا وسياسيا بما في ذلك اليهود الذين استمروا ينظر إليهم باعتبارهم مصريين وحسب موقعهم الاجتماعي فمنهم الغني ومنهم الفقير وإن كان هذا لا يمنع وجود صهاينة بينهم أو حتى متجنسين بجنسيات أجنبية، ولكن في النهاية لا يتم تصنيفهم خارج الإطار الاجتماعي العام، أي لا يتم تصنيفهم في صورة نمطية خاصة بهم هذا التعامل أدى إلى أن صورة اليهودي في الدراما كالمسرح والسينما كانت هي الصورة التقليدية للموقع الاجتماعي الذي ينتمي إليه، وتجلى هذا في مسرحية "حسن ومرقص وكوهين" لنجيب الريحاني؛ فالثلاثة تجار أحدهم مسلم والثاني مسيحي والثالث يهودي، والصورة التي يعكسونها واحدة فالمقصود أن التاجر يستغل المستخدم لديه، وبالطبع تظهر صفات نفسية خاصة؛ فاليهودي كوهين أكثر دهاء أو المسيحي مرقص أكثر دراية بالأمور المالية والمسلم حسن أكثر شدة في التعامل، وكلها صفات شخصية يتم عكسها على الصورة العامة للفرد المنتمي لدين معين، المهم هو أن الموقع الاجتماعي -أي وجود الآخر اليهودي في النسيج الاجتماعي العام للبلد- كان المحدد الأساسي للصورة الذهنية وبالتالي لانعكاس هذه الصورة في الدراما.
لنأخذ مثالا آخر في فيلم "سلامة في خير" لنجيب الريحاني سنجد أن جيران سلامة منهم النصارى واليهود، فحتى "حارة اليهود" المشهورة لم تكن "جيتو أوربي" أي منطقة عزل لليهود، بل سنجد داخل الحارة مسلمين ونصارى من ذات الموقع الاجتماعي، سنجد أيضا مجموعة أفلام "شالوم" من إنتاج توجو مزراحي، وهي مجموعة أفلام كوميدية من بطولة ممثل يهودي في الثلاثينيات هو "شالوم" تحمل اسمه تقليدا لشخصية شارلي شابلين، ولكن بطريقة مصرية اعتمادا على فكرة البطل الفهلوي الصعلوك. وكان معه دائما بطل مصري مسلم هو "عبده" وتكرر هذا في أفلامه الخمسة.
صورة اليهودي تكررت أيضا في الأدوار الثانوية في أفلام عديدة، مثلا الخياطة اليهودية أو معلمة الرقص أو معلمة البيانو أو غير ذلك من مهن أي أنها كانت تعكس دائما صورة الآخر المرئي الموجود.
ربما كان أوضح مثال على هذا فيلم "فاطمة وماريكا وراشيل" 1949 حيث يلعب محمد فوزي دور "يوسف" المستهتر الذي يوقع الفتيات في غرامه مستخدما ثراءه الفاحش، ويتعرف على راشيل اليهودية فيخبرها بأن اسمه "يوسف حزقيل" ويتعرف على ماريكا اليونانية فيخبرها بأنه رومي أي يوناني، بمعنى أنه يغير جلده حسب الفتاة.
مرة أخرى الآخر موجود أمامنا وبالتالي يتم التعامل معه تعاملا حقيقيا وتنعكس صورته في الدراما بشكل حقيقي ولا يتم تحويله إلى صورة نمطية متكررة غير موجودة إلا في ذهنية القائمين بالعمل الدرامي.
وحتى عندما تطرق الدراما التلفيزيونية لمسألة هجرة بعض الشباب المصريين لإسرائيل وزواجهم بإسرائيليات، في مسلسل الفنار الذي كتبه مجدي صابر وأخرجه خالد بهجت وتولت إنتاجه مدينة الإنتاج الإعلامي فإن المسلسل استهدف توجيه الانتباه لمحاذير هذه الزيجات من إسرئيليات (وليس كيهوديات) على الأمن القومي المصري[8] خاصة في ظل غموض النوايا الإسرائيلية بشأن السلام والخرق الصارخ له بالعدوان المتتالي على الدول العربية.
وإذا كانت المعرفة والحوار والانفتاح هما مقدمات التسامح وقبول الآخر ومن ثم السلام الاجتماعي فإن الدراما المصرية صورت الحياة الواقعية لشركاء الوطن المسلمين والأقباط وامتزاجهما في رحلة الحياة بلا تكلف ولا إدعاء ويمكن الإشارة هنا على العديد من الأعمال الدرامية من بينها مسلسل "خالتي صفية و الدير" قصة بهاء طاهر، الكاتب المصري الحساس، الرقيق، الذي كتب روايات تذكر بغناها وخيالها وقوة شخوصها من الناحية الإنسانية و الفنية، بروايات الكبير "نجيب محفوظ"[9]، وأخرجه من إنتاج قطاع الإنتاج باتحاد الإذاعة والتليفزيون عام 1994 ف"صفية".. الفتاة القروية الجميلة ذات الستة عشر ربيعا.. التي تحيا في كنف بعض أقاربها تتطلع خفية لابن عمها –مجازا- "حربي"..( ممدوح عبد العليم) الشاب القوي الوسيم المليء بالحياة و الكرامة و الكبرياء.. لكن "حربي" لا يفطن لحب "صفية" بل يتوسط كذلك في مسألة زواجها من الباشا الغني.. ورغم أنها توافق على الزواج، بيد أنها لا تغفر أبدا ل"حربي" تجاهله لشعورها.. فتوقع بينه وبين الباشا إلى أن يقضي عليه..ويعرض المسلسل تفاصيل الحياة المشتركة بين المسلمين والمسيحيين.
كما قدم العديد من الأعمال الدرامية الشخصيات المسيحية كجزء لا ينفصم من الواقع المصري بما يتضمنه من قوى التسامح الغالب وتعصب طارئ بفعل بعض التحولات الاقتصادية الاجتماعية ففي فيلم "بحب السيما" الأسرة المسيحية لا في إطار نمطي حتى لو كان مثالياً بل كأسرة مصرية عادية لكنها تعاني الصراع بين الأب المتزمت دينياً والأم والأبناء الذين يضيقون بهذا التزمت الناجم عن تفسير شخصي للدين لا يرى ما فيه من سماحة ويسر.
بينما كتب وحيد حامد مسلسله «أوان الورد» الذي قامت الفنانة يسرا ببطولته ليكون العمل بمثابة «بلسم» يوضع على جرح الفتنة الطائفية فكان يقصد أن يثبت أن المسلمين والأقباط اسرة واحدة، ومستقبل واحد.
وكان حامد يهدف الى تلطيف الأجواء، وفتح حوار حضاري يزيل العديد من جراح الفتنة الطائفية بعد أحداث الكشح، ويخفف التوتر الذي حدث، بتشجيع من وزير الاعلام السابق صفوت الشريف بعد نجاح الفيلم التسجيلي الذي كتبه لقناة النيل للأخبار حاملا نفس الفكرة وبالفعل تناول المؤلف الفكرة وعالجها بكل حرية وجرأة، ولم تتدخل الرقابة التلفزيونية باعتراف المؤلف- في أي شيء. وأبدى العديد من الشخصيات القبطية المستنيرة إعجابها بالمسلسل مثل المفكر والكاتب د. ميلاد حنا، والصحافي سعيد سنبل ود. ليلى تكلا. ولا تنسى ان مخرج المسلسل -سمير سيف- هو قبطي متدين. على الرغم من بعض الانتقادات وهو أمر طبيعي لأن المسلسل قام على فكرة المصارحة والشفافية التي سادت «أوان الورد» أو أوان يعم التسامح والحب كما يذكر مؤلف المسلسل[10]
فالمسلسل يدور حول فتاة مسلمة (أمل) من أم مسيحية وأب مسلم تتزوج من ضابط مسلم ويتم اختطاف ابنها انتقاماً من الأب فتتضافر جهود العم المسلم مع الخال المسيحي لاستعادة الابن.
وبالمثل يناقش مسلسل "بنت من شبرا" في إطار واقعي فترة من فترات التاريخ في حي مصري وهو حي شبرا الذي يتميز بتمازج أبناء الأديان الثلاثة الذين يعيشون به كما أنه كان معقلا للأقليات الأوروبية التي تعيش في مصر.
المسلسل الذي أخرجه جمال عبد الحميد من إنتاج شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات عام:2004 يتناول قصة "ماريا" (ليلى علوي ) القبطية التى تنتمي إلى أصول يونانية وتعيش في حي شبرا في العاصمة المصرية وتتميز بتطلعاتها الكبيرة التي زرعها فيها والدها الذي يعمل "حلاقا" في البلاط الملكي ما يدفعها إلى الخوض في الرذائل حتى تحقق تطلعاتها.
وتتتابع أحداث المسلسل حتى يصبح لماريا حفيد مسلم متطرف دينيا ينتقد سلوك ماريا الفاحش ويدفعها إلى التفكير في الدين في إطار اجتماعي مبهر خلقه مخرج العمل جمال عبد الحميد.
وكان اختيار حي شبرا لإسباغ الواقعية على القصة التي كتبها الكاتب الكبير فتحي غانم حيث يشهد هذا الحي امتزاجا قويا بين أبنائه وقد يحدث أن مسيحية تتزوج من مسلم.[11]
إن المكاشفة والمصارحة استمرت مطمحا أساسياً للدراما المصرية لاجتثاث كل ما يهدد السلام الاجتماعي من تناقضات طبقية واجتماعية تلتقي في "عمارة يعقوبيان" التي استلهمها عباس الأسواني في روايته بهذا الاسم وعنها كانت المعالجة الدرامية السينمائية والتفزيونية التي قدمها في التلفزيون المخرج أحمد صقر من إنتاج شركة كينج توت 2007 فبطلة المسلسل (بثينة) الممثلة روجينا تدفعها البطالة إلى التغاضي عن التحرش الجنسي وأما الفساد - فيتجسد في شخصية السياسي والتاجر (الحاج عزام الذي يقوم بدوره صلاح السعدني) الذي يسعى لدخول السياسة من باب السمسرة والأموال المشبوهة للسياسة- فيدفع الفساد والمحسوبية بطل العمل (آسر ياسين) إلى الانضمام لجماعات الإرهاب المتستر بالدين فيحذر العمل من الأشكال المختلفة من العنف الذي بدأ ينخر بنية العلاقات الاجتماعية بأشكاله المادية والرمزية ليكون عملاً "يفضح العطن" ولكنه أبداً لم يفضح الوطن كما قيل.
[1]http://daccessdds.un.org/doc/UNDOC/GEN/N06/497/11/PDF/N0649711 .pdf?OpenElement
[2] نظريات التأثير الإعلامية (المفسرة لسلوك الجمهور) منتديات المنشاوي، موقع المنشاوي للدراسات والبحوث, Minshawy.com
[3] سـامح فوزي، السلام الاجتماعي في المجتمع المصري www. maatpeace.org
[4] سهير زين منصور الملتقى الدولي حول "دور المرأة في نشر ثقافة السلام" تونس : من 06 إلى 08 جانفي 2005 ورقة عمل حول : "واقع المرأة العربية في عملية نشر ثقافة السلام والحلول المقترحة". اللجنة الوطنية التونسية للتربية والعلم والثقافة (يونسكو – ألكسو – إيسيسكو) http://www.unft.org.tn/paix/pres/3.doc
[5] www.alshabab.gov.eg/pioneers/Book/cluture_peace.pdf -
[6] التسامح وقبول الآخر د.عصام عبد الله إشراف مركز ماعت للدراسات الحقوقية و الدستورية http://www.maatpeace.org/fckeditor/editor/filemanager/browser/default/connectors/aspx/userfiles/File/ Esdaratna 1.doc
[7] سميرة بحر، الأقباط في السياسة المصرية عرض وتقديم عبدالله جاد فودة Mnzoor.blogspot.com
[8] http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=105081&IssueID=1040
[9] http://boutheina.over-blog.com/article-6095772.html
[10] http://www.asharqalawsat.com/details.asp?section=24&article=18738&issueno=8062
[11] http://www.aljazeera.net/News/archive/archive?ArchiveId=97679
0 Comments:
Post a Comment
Subscribe to Post Comments [Atom]
<< Home