Wednesday, July 07, 2010

سوف أظل يساريا ....سوف أظل مسلما!
كان د. إبراهيم صقر رحمه الله رجلا دمث الأخلاق يقف بصدق مع ما يظنه الحق وإلى ذلك كان رقيق الحاشية يأبى إلا ان يقدم لطلبته الذين يتبعونه إلى مكتبه لسؤاله عما غمض عليهم في المحاضرة بعض المثلجات وعرفت فيه هذه العادة حتى أني كنت عندما تتوق نفسي لشئ من هذه المثلجات أتعمد سؤاله في مادة العلاقات الدولية وخاصة عن كتابK. J Holsti... مشاهدة المزيد الذي كان أثيرا لديه فيدعوني إلى مكتبه وأظفر بزجاجة ميراندا وكنت أبتسم عندما يقول لي "انظر زملاءك وكيف يعيشون وأنت ربما لا تغير هذا البلوفر الذي ترتديه" لأني تجاوزت هذا النمط من التفكير من أيام الثانوية نفس الابتسامة التي ارتسمت على وجهي عندما ردت الزميلة عزة جوابا ظنته مُسكتا عندما استغربت كلام البرادعي عن السيارة والفيلا لكل مواطن عندما نعيش الديمقراطية فقالت بأن البرادعي ربما أراد تحقيق العدالة الاجتماعية أو إعادة توزيع الثروة نفس مقولة إعادة توزيع الثروة وجدتها في برنامج الجبهة الشعبية الديمقراطية للتغيير وهي عبارة جذابة فلا شك ان إعادة توزيع الثروة تعني زيادة نصيبي أنا الأقل نصيبا منها لكني أظنها بلا مبالغة تصطدم مع الفطرة لماذا إعادة توزيع الثروة و ليس زيادة الثروة وأن يكون لكل نصيبه العادل منها لماذا ثقافة الندرة ؟ إن الله تعالى خلق الأرض وقدر فيها أقواتها سواء للسائلين ( بالكسب الحلال و ليس للمستغلين ) إن هذا التفكير أثر للنزعة المادية الدنيوية secular materialistic وهي نزعة مدمرة لكل فكر إنساني إيثاري غيري صحيح وجد مفكرون بذلوا أرواحهم لخدمة الطبقات المطحونة برغم أنهم ولدوا ميسورين لكن التفكير الرشيد بالحساب الدنيوي يقول إذا كان الدنيا هي البداية والنهاية بحيث يكون الطبعي أن المادي " لم يرد إلا الحياة الدنيا " فلماذا يجاهد من أجل كرامة الإنسان ومنع استغلاله حتى لربما فقد حياته ؟ أليس الأجدى السعي ليكون جزء من آلة الاستغلال أو على الأقل الرضا بالميسور ولو كان قليلا فهو على أي حال أفضل من مغامرة الجهاد؟ أما الفكر الإيماني فيضع الأمور في نصابها الصحيح عندما يقرر وجود الآخرة فتصبح حياة الإنسان كما عبر إقبال أبلغ تعبير نقطة في حياة ممتدة قبل الميلاد وبعده حتى ما بعد يوم الدين فيجاهد الإنسان ليحارب الظلم ولو لم يبلغ مقصده لأنه كما صور الشهيد سيد قطب أجير عند الله تعالى يسأل عن الأجر و لا يسأل عن نتيجة العمل! كما يضع هذا الفكر توازنا دقيقا عندما يستلهم قول الله تعالى " ليتخذ بعضكم بعضا سخريا" لكنه لا يتوقف حتى يكمل " ورحمة ربك خير مما يجمعون" إن الناس يتفوتون في الملكات والمواهب والقدرات والمركز الاجتماعي الذين وجدوا أنفسهم فيه وهذا أمر طبعي لكن الإسلام لا يسعى أبدا لاستدامة هذا التفاوت بل فتح سلم العمل وقرر الضمانات أن يكون العمل وحده هو معيار التفاضل والكسب المشروع الحلال هو شرط الملكية والمعيار النهائي والحقيقي الذي يضبط الأمور والميزان الذي يضبط سائر الموازين الأخرى هو " ورحمة ربك خير مما يجمعون" فهي الغاية النهائية للجماعة المسلمة فالابتعاد عن رحمة الله علامة بوار العمل وضلال السعي وحرمة الكسب وهو أمر خطير لذلك كان هم آبائنا وأجدادنا ألا يطعموا أبناءهم حراما وكان فخر الواحد منهم لا أنه عمل في خدمة الأمير كذا و لا أن حرفته أشرف من حرفة أخرى بل أنه لم يستبح حراما بل لم يقارب شبهة في كسب ماله.
إن البعد عن هذا الفهم المستقيم وعن رؤية هذه الغاية هو الذي يفسر شطط الفكر المادي حتى ليسأل ما الملكية ويبادر بالإجابة الملكية سرقة بل وقد يرى أن الملكية هي الخطيئة الأولى التي ارتكبها الإنسان ويرى المادي تفاوت رهيبا وظلما مريرا فلا يقبل بغير التسوية بين الناس ويعدها مساواة ! أو قد يسعى لابتكار الحلول العجيبة بناء على افتراضات أعجب مثل جون رولز.
لا نريد اشتراكية الفقر و لا اشتراكية الحقد بل اشتراكية العمل والجهد والعرق !

Tuesday, April 13, 2010

المجتمع المدني واستعادة الفعالية للمجتمع
في منهج النظر ...
كل معرفة لا تنفصل عن تغيير الإنسان للواقع، وعن إبداع الإنسان لواقع جديد.. فهي ممارسة تاريخية تتبدل بتبدل التاريخ ولها تاريخها الخاص، ومعنى ذلك أنه ليس هناك حقيقة نهائية، وكل معرفة هي معرفة عابرة، وصحتها تابعة لعلاقتها الجدلية بممارسة تاريخية لا يجمدها شيء.
لا معنى للمفهوم النظري العام إلا في تمييزه، أي في اختباره على ضوء واقع محدد، والاختبار يوضح المفهوم أو يعدله وينتجه من جديد، فإعادة انتاج المفاهيم النظرية العامة، بشكل يحافظ على عموميتها، يحول النظرية إلى مزيج من الايديولوجيا واللاهوت.
ومنهج العمل...
إن الأزمات بحد ذاتها لا يمكنها أن تنتج مباشرة أحداثاً تاريخية فارقة. إنها قادرة على أن تخلق شرطاً مناسباً لنشر منهج محدد في التفكير، ووضع حل للمسائل التي تحيط بمجمل العملية اللاحقة لتطور الحياة السياسية...
أنطونيو جرامشي
اكتسب مفهوم المجتمع المدني حضوراً متزايداً في الخطاب العربي والإسلامي منذ السبعينات من القرن المنصرم، غير أنه استخدم على نحو أكثر اتساعا في العقد الأخير منه، إذ طغى المصطلح كأحد المفاهيم المستوحاة من الفكر الغربي، على معظم الخطابات السياسية العربية، وذلك بعد أن تبنت أغلب التيارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بمختلف أيديولوجياتها وتوجهاتها، رؤية تعظم من أهمية الحراك داخل المجتمعات العربية، كمدخل رئيس لتفعيل دور المجتمع بل وإعادة الاعتبار والحيوية لهذا المجتمع إن في المشاركة أو المحاسبة أو التطوير شأنه في ذلك شأن مؤسسات الدولة الرسمية.
وقد ازداد هذا التوجه بعد انهيار نظم الحكم الشمولية في أواخر الثمانينات في شرق أوروبا وبعض دول العالم الثالث وتزايد الاتجاه نحو الديمقراطية، فبرزت الدعوة إلى المجتمع المدني كمصطلح جديد في الوطن العربي لم يكن متداولاً من قبل في الخطابات العامة أو يحظى باهتمام الباحثين . فأصبح المفهوم مثار جدل وحوار، وبسببه انقسم المشهد الثقافي والفكري العربي إلى اتجاهات عدة، فثمة من رفض فكرة المجتمع المدني كلياً، وهنالك من تقبلها بدون تحفظ، فيما قبلت اتجاهات أخرى بتحفظ، واتجاهات أخرى قبلت المجتمع المدني كفكرة ولكنها لم تدركها في كامل أبعادها الثقافية.
وفي هذا السياق فإن طرح المفهوم مجددًا جرى فى سياق السجال بين الاسلاميين والتيارت المناهضة لهم باسم الحداثة، فرأى العديد من الإسلاميين أن الشيوعيين والماركسيين ازداد تداولهم لمفهوم المجتمع المدنى بعد أن لجؤوا إليه بعد تردد نتيجة سقوط المشروع الشيوعى بسقوط الاتحاد السوفيتي، فأرادوا أن يجددوا مشروعهم السياسى ويضخوا فيه دماءً جديدة، فكانت الديمقراطية وحقوق الانسان والمجتمع المدنى هى القضايا المرشحة لضخ هذه الدماء. خاصة أن جزءًا كبيرًا منهم رأوا أن هذه القضايا هي أيديولوجية النظام الدولى الجديد، فتجاوبوا معها سريعًا. ومن ناحية أخرى فقد تم استدعاء هذا المفهوم من طرف دعاة الديمقراطية في الوطن العربي علي اختلاف اتجاهاتهم كأداة تحليلية للمأزق السياسي الذي تعيشه الدول العربية المعاصرة، وللحرب ضد النمط الشمولي لهذا النوع من الدول وللتبشير بالنموذج الليبرالي للدولة غالبًا.
وعليه يري البعض أن احتدام النقاش حول المجتمع المدني والدعوة لإعادة تفعيله تعبر عن حالة مرضية عامة لدي المثقفين العرب كانعكاس لأزمتهم الفكرية التي أدت إلى معاناة كثير منهم من مشكلة انصراف الأمة بطوائفها وفئاتها عنهم، ويربط هؤلاء الإسلاميين هذه الأزمة بالتبعية الفكرية للغرب؛ حيث ارتبطت أجندة تفكير الطائفة المتغربة من المثقفين وأولويات اهتمامها بما هو قائم في الغرب بشقيه: الرأسمالي والاشتراكي السابق ووفق هذه الرؤية فإن جزء من مثقفينا ولي وجهة شطر الغرب، فاتخذه قبلة يردد في رجع للصدي ما يتردد في الغرب من قضايا ومفاهيم وإشكالات، فإن قال الغرب ديمقراطية، قالوا: ديمقراطية، وإن قال: مجتمع مدني، قالوا: مجتمع مدني
ومن هذا المنظور فإن طرح مفهوم المجتمع المدنى جاء فى سياق البحث عند الغرب عن وصفة سحرية ستزول بها كل أسقام المجتمع العربى، وتمثلت هذه الوصفة فى السبعينات فى الديمقراطية، وتاليًا فى تفعيل دور المجتمع المدنى الذى تم ربطه بعملية التغيير الحضارى، فجرى عرض مفهوم المجتمع المدنى كمفهوم يقدم حلولاً لمجموعة من الإشكالات الموجودة فى الواقع مع المبالغة فى قيمة المفهوم وتأثيراته فى مواجهة مشاكل الواقع السياسى بكل تنوعاته، ومع إغفال عناصر القابلية للمفهوم التى غالبا ما تتحكم فى فاعليته.
فرأى البعض أنه لم يتم التعامل مع المجتمع المدنى كوصفة سحرية فقط، بل وكموضة من الموضات الفكرية الرائجة التى يجرى تسويقها بعد تعليبها وتغليفها فى اطار صناعة الأفكار والمفاهيم،ومع نقل المفهوم بشكل انتقائى تم التركيز فيه على أبعاد معينة واقتطاعها من سياقها الكلى والتاريخى، أصبح المجتمع المدنى مجالاً للاقتتال بين الفرقاء ومحورًا لتجديد عقيدة سياسية معينة ضمن شعارات الحرب العقائدية والسياسية الراهنة فى المجتمعات العربية. فأصبح مفهوم المجتمع المدنى من أهم المفاهيم السياسية المستخدمة فى الحرب ضد التيار الاسلامى وبالأخص فى مصر وتونس
ومن ثم تساءل البعض: هل تداول هذا المفهوم عربيا يحيل إلى "واقع اجتماعي" وإلى نمط من العلاقات الاجتماعية الفعلية القابلة للملاحظة والتي تعكس نقلة نوعية في الوعي وبالتالي في الممارسة؟ وهل أن تداول منطوق "المجتمع المدني" يحيل إلى مفهوم محدّد قابل للدراسة السوسيو-سياسية أي يحيل إلى قاع نظري ومجال معرفي معيّن؟...
إزاء هذه التحفظات وتلك الاتهامات ثمة حاجة لقراءة المفهوم في منشئه الأصلي وفي رحلة تطوره ، وفي ضوء ما تراكم من آراء الباحثين المهتمين به وبتطبيقاته، باعتباره مفهوماً متطورا مر برحلة طويلة اكتسب فيها أبعادًا جديدة، وجري فيها تهميش أبعاد معينة فيه لحساب أخرى حسب المرحلة التاريخية والمنظومة الفكرية التي جري تناوله في إطارها فالوعي بتاريخية المجتمع المدني يساعد على تجريده من ملابساته التاريخية العارضة علي مضمونه الجوهري، وبذلك يمكن بناء موقف أكثر تركيبًاMORE SoPHISTICATED وعمقا في النظر لمفهوم المجتمع المدني يتأسس علي حقائق التعامل المنهجي القاصد إلي الوضوح والضبط والتنظيم ويتجاوز موقفي التلقي والقبول الساذج للمفهوم وموقف الرفض الحاد له.
لم يظهر مفهوم المجتمع المدني في صورة ناجزة ونهائية تمثل جوهره الخالص مرة واحدة بل ارتبط مفهوم المجتمع المدني في الغرب بسياق تاريخي وعبر فترة طويلة ممتدة من الزمن، فظهر مفهوم المجتمع المدني من خلال تطور تاريخي طويل،
فتاريخ ظهور المجتمع المدني إذن هو تاريخ التطور الجامح للفلسفة والايديولوجية البرجوازية ورؤيتها للعالم الجديد، فضلاً عن أنه تاريخ الإعداد الايديولوجي والسياسي، والثقافي للثورة البرجوازية حيث "كانت العناصر الأساسية للتصور البرجوازي للعالم قد بزغت في أوروبا منذ القرن الرابع عشر فحملت تلك الفترة السمات الجديدة لعقلية وصبوات الطبقة البرجوازية الجديدة التي كانت قيد التكون، ففي إطار المذهب الإنساني، عارض التصور العلماني الجديد للعالم الذي تقدم به المجتمع البرجوازي الوليد، سلطة الكنيسة القوية في ظل الاقطاع بمبدأ حرية تفتح الشخصية الإنسانية، وعارض أخلاق القرون الوسطى التقشفية والمتزهدة، بالتأكيد على حق التنعم بملذات الدنيا وإشباع مختلف الحاجات والأهواء.
وقد جرى ارساء الأسس والمكونات المعرفية والنظرية للمجتمع المدني في عصر النهضة الأوروبية وفلاسفة الأنوار مع تطور الفكر السياسي الليبرالي على مدى القرنين السابع عشر والثامن عشر، الذين شهدا انهيار "النظام القديم"، أي عهد انهيار الحكم المطلق وسلطان البابا الديني والدنيوي المتحكم في ملوك أوروبا باسم سلطة الكنيسة المسيحية، وبداية الهجوم الكاسح عبر الثورات على حكم الملوك، الذين يحكمون بمقتضى الحق الإلهي وإلى بداية سلطان القانون الطبيعي، الذي يقر بحرية الفرد الإنسان باسم العقل والمنطق، فإلى سيادة الشعب، والسيادة القومية، وحقوق الإنسان، التي فجرتها الثورة البرجوازية الانكليزية، وتدعمت بشكل جذري قوى مع اندلاع الثورة البرجوازية الفرنسية.
فجاء بزوغ المجتمع المدني ملازما لوجود الدولة الحديثة وتطورها، والتي قامت على أساس إقرار حق المواطنة والمساواة القانونية للمواطنين وشرعية الحكم. وحاول كل من لوك وروسو وهغيل أن يربطوا نشوء المجتمع المدني بعملية انتقال وخروج التجمع البشري من حال إلى أخرى فقدموا الصياغات الأولى لمفهوم المجتمع المدني بوصفه كل تجمع بشري انتقل أو خرج من حالة الطبيعة الفطرية إلى الحالة المدنية التي تتمثل بوجود هيئة سياسية قائمة على اتفاق تعاقديً.
وقد ظهر مفهوم المجتمع المدني أولا عند المفكر الفرنسي توماس هوبز، الذي لم يفصله عن الدولة، إذ لم يكن يعبر إلا عن انتقال مبدأ السيادة، بمعنى القدرة أو الهيمنة أو السيطرة أو النفوذ من السماء (أي الحكم بالحق الإلهي) إلى الأرض، أي الحكم على أساس العقد الاجتماعي، رغم أن تصور الحكم الذي رافق هوبز كان ديكتاتورياً مطلقاً، وان لم ينفصل المجتمع المدني في هذه الحلقة الأولى عن المجتمع السياسي.
إن المجتمع المدني (السياسي) هو ثمرة مصطنعة لميثاق اختياري لحساب قائم على المنفعة. ويميل منهج هوبز، مثله في ذلك مثل روسو وكانط إلى نظرية العقد الاجتماعي، فنقل الحق الطبيعي المطلق، الذي يملكه كل واحد في كل شيء، إلى شخص ثالث، بعقد يتم "بين كل واحد وكل وغيره: "هو الاصطناع الذي يكون من الناس الطبيعيين مجتمعاً مدنياً (سياسياً)".
ففي حالة الطبيعة لا يوجد بعد أي نوع من أنواع الحكومات، ولهذا فإن العقد الأصلي ليس مبرماً بين الحكومة والمحكومين بل هو مبرم بين سائر مواطني المستقبل في الدولة. وعلى قاعدة ارادتهم المجتمعة، ينقل الأفراد السيادة إلى إنسان واحد أو مجلس يمارس السلطة. فيما بعد بمقتضى هذا العقد "ويمثل الملك، أو رئاسة الجمهورية، التي أحيلت إليه كل سلطات المتعاقدين إرادة الجميع من خلال إرادته. من هنا نفهم أن السلطة تنبع من الشعب باعتبارها مستندة إلى إرادة كل الأفراد الحرة. وحين تتجسد السلطة في إرادة الملك، فإن على الأفراد الخضوع كلياً لقوانينه، باعتبار إن إرادة الملك متطابقة مع إرادة الدولة.
كانت فكرة كون البشر هم صانعوا مجتمعهم في حلف أصلي يمكن أن يزدوج أحياناً إلى حلف مشترك (مدني) وحلف سيطرة (سياسي) حينئذ فكرة ثورية، تمثل في آن واحد احتجاجاً ضد الظلم القديم، وبرنامج من أجل نظام جديد (...) في هذه النظرية حول حالة الطبيعة والعقد الاجتماعي، التي تبدو مجرد تأمل، نشهد نظاماً اجتماعياً وسياسياً يسقط، وأناساً يشيدون النظام الجديد الذي يريدون الدفاع عنه أو بناءه على أسس ومبادىء مبتكرة.
و يتحدد المجتمع المدني عند الفيلسوف الإنجليزي جون لوك بكونه مجالاً مستقلاً عن الدولة، منحصراً في الجماعة الأهلية، وروحها التضامنية من خلال العقد الاجتماعي، فهو يقرر بأن "البشر مستقلون، متساوون، وليس لأحد أن يلحق الأذى بهم، وبحياتهم، وبصحتهم، وبحريتهم أو ممتلكاتهم"، لقد وضع لوك نظريته في جوهر الحكم المدني كنقيض للحكم المطلق، باعتبار أن هذا الأخير لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون شرعياً، ولا يمكن أن يحظى برضى الناس عنه. ويقوم أصل الحكم المدني على الفصل بين السلطات، وهو الفصل الذي تعمق وشق طريقه في خضم الصراعات السياسية، بين الملوك والبرلمان في جميع مراحل الثورة الانكليزية. وبهذا يكون المجتمع المدني وريث الأفراد الأحرار، في حالة الطبيعة، وقد امتلك السلطتين الأساسيتين بدوره. الأولى هي السلطة التشريعية، التي تنظم كيف ينبغي أن يستخدم قوى الدولة من أجل بقاء المجتمع وبقاء أعضائه، والثانية هي السلطة التنفيذية، "التي تؤمن تنفيذ القوانين الوضعية الداخلية". وهكذا فان السلطة التشريعية، التي يكمن دورها في المحافظة على المجتمع المدني مثلها في ذلك مثل القوانين الأساسية في الطبيعة، تصبح السلطة العليا.
وعلى ذات المسار الفكري لجون لوك، سار الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو محددا المجتمع المدني بأنه "البنى الوسيطة بين الحاكم والمجتمع" ميز شارلز منتسكيو بين (كما فعل لوك) المجتمع السياسي (الذي ينظم العلاقات بين المواطنين والحكومة) والمجتمع المدني الذي ينظم العلاقات بين المواطنين، وقدم مقارنة بين هذا الكيانات وأكد على التوازن بين السلطة المركزية والشبكات الاجتماعية، حيث أن السلطة المركزية (الملك \العاهل) يسيطر بقوة القانون ويحث سلطة المنظمات المستقلة المجابهة والتي تعمل داخل وخارج البنيان السياسي.
إن الفلاسفة والمفكرين السياسيين، الذين سبقوا روسو انطلقوا من حالة الطبيعة والعقد الاجتماعي، باعتبارها تشكل نقطة اللقاء المركزية فيما بينهم جميعاً، حيث شكل التعاقد الاجتماعي أيضاً جسر العبور من حالة الطبيعة إلى المجتمع المدني. فيرى الأستاذ حميد كاظم شذر أن مفهوم المجتمع المدني وفق المدرسة الكلاسيكية استعمل في الفكر الغربي، منذ زمن النهضة حتى القرن الثامن عشر، للدلالة على المجتمعات التي تجاوزت حالة الطبيعة والتي تأسست على عقد اجتماعي وحّدَ بين الأفراد وافرز الدولة، فالعبارة كانت تدل طوال هذه الفترة على المجتمع والدولة معاً. وهو يرى أن المجتمع المدني بحسب صياغاته الأولى يدل على كل مجتمع بشري خرج من حالة الفطرية إلى الحالة المدنية التي تتمثل بوجود هيئة سياسية قائمة على اتفاق تعاقدي.
ومن ثم فالمجتمع المدني يعتبر مجتمع منظم تنظيماً سياسياً، يعبر عن كل واحد ولا تمايز فيه يضم المجتمع والدولة معاً. وهو مجتمع الأحرار المستقلين، ومن ثم فان المجتمع المدني لا يعرف المراتب الاجتماعية ولا التدرج الاجتماعي، وتركيبه الداخلي لا يعرف السيطرة ولا التبعية، والعلاقات داخل المجتمع المدني ليست علاقات بين قوى اجتماعية أو طبقات اجتماعية، ولكنها علاقات بين " أحرار متساوين " .
فكان المجتمع المدني يوضع في مقابل المجتمع الطبيعي ويتطابق مع الدولة أوالمجتمع السياسي ويمكن ملاحظة أن الطابع التعاقدي لهذا المجتمع استمر سمة مميزة للمفهوم في مختلف مراحل تطوره التالية بما تثيره هذه السمة من إشكالات.
فمازال الجدل يدور حول ما إذا كانت التشكيلات القائمة على أساس الدين أو الطائفة أو الانتماء الأثني تشكل جزءا من المجتمع المدني أم ينبغي استثناؤها منه. فيرفض البعض عضويتها في المجتمع المدني بحكم القيود التي تضعها على الانتماء إليها، واقترابها، في هذا المجال، من المنظمات الإرثية، ولكونها تتناقض مع مبدأ المواطنة الذي لا يقوم على الدين أو الجنس أو العرق أو الانتماء الجهوي أوالإثني، فلا يمكن مثلاً اعتبار مجتمع القبيلة مجتمع مدنيًا لأن الانتماء إليه وإدارته وحظ الإرادة والعقل والاختيار فيه ضئيل، فهو مجتمع أقرب إلى المجتمع شبه الطبيعى كمجتمعات النحل، على حين أن المجتمع المدني هو المجتمع الذي ينتظم فيه الناس بحرية ويطاوع بعضهم بعضا على أساس القانون الذى يعبر عن إرادتهم
بل إن الأستاذ الطاهر لبيب، يقرّ صراحة بصعوبة الحديث ولو في الحد الأدني عن نواة لـنـشأة مجتـمع مدني عربي إسلامي مؤكـّـدا أنّ مفهوم المجتمع المدني عندنا بلا تاريخ فكيف نبحث عن مجتمع مدني في مجتمع ما قبل مدني".
إن الاستعمال الطارئ لمفهوم المجتمع المدني في بلادنا يعبر – من وجهة نظره - عن حالة طوارئ في الفكر العربي ولا يحيل إلى ممارسة تم تنظيرها ولا إلى تنظير واقع تم ممارسته ، حتى الدولة التي نشأ ضدها تستعمله لتحديد من هم أعضاؤه" ومن هم "خارجون عنه" .
في حين يرى آخرون أن التكوينات التقليدية هي من صلب المجتمع المدني، باعتبارها، في أحيان كثيرة، تسعى إلى التغيير والدفاع عن حقوق وتطلعات فئات واسعة في المجتمع، وتضغط على مراكز القرار، وأحيانا توجه سهامها نحو لاإنسانية السوق الرأسمالي وعجزه عن التنمية الفعلية والعادلة والمتوازنة. ومن منظور مختلف يرى البعض أن الرؤية الإسلامية تمتلك نظرة متميزة للتكوينات المؤسسية السابقة عليها أو ما يسمى بالمؤسسات التقليدية؛ حيث لم تسع الى تكسير هذه المؤسسات، بل سعت إلى إعادة تأسيسها قيمياً. فالانتماءات الأولية فى هذه الرؤية يمكن استثمارها باعتبارها المحاضن الطبيعية للفرد فالإسلام لا يقول بإلغاء رابطة العشيرة أو القرية إنما قرر تنظيمها ووضع حدودها بالنسبة لموقعها فيما يتعلق بالروابط الأدنى والأعلى منها، ضمن التحديد الكلى الذى ترعاه رابطة الاسلام التوحيدية ولا يتناقض هذا مع فكرة التعاقدية و مع ما تتضمنه من طوعية؛ فهذه الانتماءات والروابط وان كانت لا تقوم على الاختيار فى تأسيسها فإنها تقوم على الطوعية فى ممارستها وأنشطتها .
وإذا كان المجتمع المدني قد تحدد قبل الفيلسوف الألماني فردريك هيغل على أنه طرف آخر في مقابل سلطة الكنيسة وسلطة الحكم الاستبدادي وفإنه مع فردريك هيغل بات يعني "مرحلة بين الرابطة الأسرية القائمة على القرابة والتبعية المباشرة وبين الدولة الممثلة للمصلحة العامة".
التمييز بين المجتمعيْن السياسي والمدني يعود أساسا إلى هيغل الذي اعتبر أن المجتمع المدني ليس هو الدولة إلا أنه وبشكل مفارق لا يمكن أن يتجسّد إلا من خلالها. فالعلاقة بينهما علاقة وحدة معقدة من الصراع والتكامل. إنه مجتمع يقترن عند هيغل بدلالات الفردانية والضرورة ويحيل إلى جملة التجمّعات المهنية والحرفية والأسرية الضيّقة التي ليس بإمكانها تحقيق حريتها وإرادتها إلا في ظلّ دولة راعية مطلقة تحميها. فمن المعلوم أنّ هيغل قد نظر إلى المجتمع في توزّعه إلى دوائر ثلاث لكلّ دائرة خاصيتها المميّزة والمعيار الذي يحكمها، فدائرة العائلة محكومة بقيمة الحبّ الذي يشدّ أفرادها بعضهم إلى بعض. أمّا دائرة المجتمع المدني فتسود داخلها قيمة التنافس الاقتصادي بين أفراد متباعدين. في حين أن دائرة المجتمع السياسي(الدولة) محكومة بقيم العقلانية التي توجّه سلوك الأفراد. لكنّ الأهم هو أن هيغل نظر إلي المجتمع المدني باعتباره "وحدة عاجزة" تحتاج بشكل مستمرّ إلى الرقابة من قِبَلِ الدولة ذات "اليد الطولى".
إن الدولة السياسية، من وجهة نظر هيجل ، لا توجد بدون الأساس الطبيعي، الأسرة، والأساس الاصطناعي، المجتمع المدني. ففي داخل الدولة تتطور الأسرة إلى مجتمع مدني، ويتطور بدوره لكي يكون الأساس الاصطناعي للدولة السياسية. فالدولة السياسية تشترط في وجودها الضروري والمنطقي، وجود المجتمع المدني، والأسرة، فالأسرة لا تذوب في المجتمع المدني، مثلما لا يذوب المجتمع المدني في الدولة. فهيغل يقول، إن المجتمع المدني هو "دولة الضرورة والفهم، فهو يتطابق مع لحظة الذاتية.
تمثل تعرف هيغل للمجتمع المدني في تحليله الدقيق للنقابات المهنية، والشركات، وللجمعيات، والمجتمعات المحلية، والطبقات الاجتماعية، والقوى السياسية، والمؤسسات التي شكلت أساس المجتمع المدني" وعلى العموم كان رأي هيغل في المجتمع المدني يتضمن مبدأ سليماً وهو أنه عندما ينظر إلى الفرد على أنه مواطن فحسب، تميل الدولة إلى امتصاص كل أشكال الاجتماع البشري بما يعبر عن نزعة الاستبداد، كما تثبت ذلك كل أشكال الدكتاتورية السياسية. ولعل حجج أنصار مذهب التعددية السياسية في نهاية القرن التاسع عشر كان في الإمكان استخلاصها إلى حد كبير من نظرية هيغل في المجتمع المدني.
وهكذا، فإن المجتمع المدني حسب رأي هيغل، الذي يمثل فضاء للمنافسات والمواجهات بين المصالح الاقتصادية الذرية الخاصة للأفراد، باعتبارها سمة مميزة للاقتصاد البرجوازي، يحتاج إلى دولة سياسية قوية، شمولية وعيانية، منفصلة على طوائف الحرف من طراز القرون الوسطى، وتعلو فوق المجتمع المدني. إن هيغل، وهو إن كان يريد السلطة التشريعية بالمعنى الحديث، إلا أنه يربطها بنظام دولة الطوائف الوسيط، لفرض النظام والتعددية، على المجتمع المدني.
كان مفهوم المجتمع المدني من المفاهيم الأولى التي تناولها ماركس عام 1843 في نقده حقوق الدولة في " الرؤية الهيجلية "، وهدف في نقده إضفاء محتوى مادي أكثر على المفهوم ونشره باعتباره مفهوما ثوريا وليس مجرد مفهوم فلسفي. فالمجتمع المدني هو الفضاء الذي يتحرك فيه الإنسان ويدافع عن مصالحه الشخصية ويضع مقابل ذلك الدولة التي لا تمثل في نظره إلا فضاء بيروقراطيا يتحول فيه الإنسان إلى عضو ضمن جماعة مسيرة.
وكان موقف ماركس فعلا في ذلك قريبا من موقف هيغل تجاه المجتمع المدني باعتباره ساحة المواجهات بين المصالح الاقتصادية طبقا للأخلاق البرجوازية ولكن تأويل ماركس لهيغل ينتهي إلى نتيجة مضادة حيث انتقد ماركس فكرة الدولة عند هيغل.
ولئن تبنّى ماركس التعريف الهيغلي للمجتمع المدني فإنّ نمط العلاقة بين المجتمع المدني والدولة بدا مغايرا في تصوّر ماركس. وربّما يعود ذلك في المقام الأول إلى الحضور المكثف لمفهوم الصراع الطبقي الذي هيمن على التحليل السوسيوتاريخي للماركسية بحيث "همّش الصّراعُ الطبقيُّ مفهومَ المجتمعِ المدنيِّ".
ويرى د.عامر حسن فياض أن تفسير عدول ماركس اللاحق عن استخدام مفهوم المجتمع المدني واستبداله بمفهوم المجتمع البرجوازي في دراسته للاقتصاد الرأسمالي يمكن تلمسه وملاحظته في تأكيد ماركس على أن المجتمع المدني لا يمكن أن يبحث إلا في الاقتصاد السياسي بيد أن التطورات اللاحقة على ما كتبه كارل ماركس قد بينت أن المجتمع المدني يمثل فضاءً للتنافس والصراع بمختلف أشكاله إن الاقتصادية، أو السياسية أو الإيديولوجية أو الثقافية بين الطبقات والفئات الاجتماعية كافة.
أعْجِبَ المفكر والديبلوماسي الفرنسي TOCQUEVILLE إلى حدّ الافتتان بالقدرات الواسعة للمجتمع الأمريكي على خلق الجمعيات في مختلف مناحي الحياة. فلقد تبيّن لتوكفل TOCQUEVILLE أن الأمريكيين يتفنّنون في بعث الجمعيات التي تلعب دور الإطار الذي يسمح بالتعاضد بين الناس من أجل تحقيق أهداف مشتركة على خلاف الفرنسيين مثلا الذين ينتظرون تدخّل الدولة لتحقيق هذه الأهداف أو الإنكليز الذين ينتظرون تدخّل الرّجل الإقطاعيّ من أجل الأهداف نفسها. فالجمعيات، طبقا لما لاحظه ودوّنه TOCQUEVILLE في مؤلفه عن الديمقراطية في أمريكا هي إطار الفعل والمبادرة حتى الثقافية والأخلاقية، حيث يؤكد في هذا المضمار أنّ فنّ إنشاء الجمعيات في البلدان الديمقراطية هو أب التقدّم، إذ أن التقدّم في كلّ المجالات منوط به. فالبلدان الأكثر ديمقراطية هي البلدان التي يجيد فيها الناس فنّ السعي الجماعي نحو تحقيق الرغبات المشتركة على اعتبار وجود علاقة تلازم بين الجمعيات والمساواة. لا بل إن هذا الأخير يذهب أكثر من ذلك حين يعتبر أن فنّ الانتظام ضمن الجمعيات مؤشر تحضّر وأنه فنّ يتنامى بالتوازي مع تنامي شروط المساواة، وأن كل تقدّم في أي مجال هو رهين دفع العمل الجمعياتي.
وبحثا عن المبرّرات الموضوعية التي يمكن أن تساهم في تفسير هذا النزوع نحو الإعجاب بالممارسة الجمعياتية داخل هذا المجتمع وجدها TOCQUEVILLE في آثار الثورة الديمقراطية وما أرسته من تعلـّق بالمساواة ورفض نزوعات الهيمنة لدى الدولة ومنع الناس من ممارسة حرّياتهم. فبعث الجمعيات الفاعلة تمثل إحدى الآليات الضرورية، إلى جانب مبدإ الفصل بين السلط كما أكد عليه مونتسكيو طبعا،التي تمنع الدولة من ممارسة تجاوزات في حق المواطن وحرّياته. فللحدّ من مطلقية سلطة ما لا بدّ من وجود سلطة مكافئة لها.
فكان الكسندر دو توكفيل ممن أكدوا على أن المجتمع المدني هو هيئة أو كيان في ذاته منفصل عن الدولة وأكد على أن مهمة المجتمع المدني هي حماية الأفراد وحقوقهم وممتلكاتهم من الدولة وتدخلاتهم التحكمية.
أما جرامشي فقد نظر إلى المجتمع المدني باعتباره جزءا من البنية الفوقية. هذه البنية تنقسم إلى مجتمع مدني ومجتمع سياسي، الأول وظيفته الهيمنة عن طريق الثقافة والايدولوجيا، ووظيفة الثاني السيطرة والإكراه. أي أن مفهوم المجتمع المدني عند غرامشي ليس مجالاً للتنافس الاقتصادي بل مجالاً للتنافس الإيديولوجي . ذلك أن المجتمع المدني عند غرامشي يشكل مع الدولة ما يعرف بالمنظومة السياسية في المجتمع. ويسميها غرامشي ذاته بـ" الدولة الموسعة أي منظومة سياسية بشقيها المدني والسياسي. وبهذا المعنى يقول غرامشي : "إن الدولة هي المجتمع السياسي زائد المجتمع المدني"، بينما يحتوي المجتمع المدني على التنظيم السياسي للمجتمع بأحزابه ونقاباته وتياراته السياسية، فان الدولة تحتكر السلطة السياسية عبر أجهزتها ومؤسساتها المختلفة. وبهذا المعنى تكون العلاقة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي علاقة جدلية. فيمكن للمجتمع المدني أن يكون مسانداً للدولة أو معارضاً لها. ففي الحالة الأولى يشكل المجتمع المدني مصدر الشرعية لسلطة الدولة عبر مشاركة منظمات المجتمع وفئاته المختلفة في صنع القرار. أما في الحالة الثانية التي تتصدى الدولة بجهازها ومؤسساتها القمعية لكل أشكال الاضطراب والثورة، تبدو الدولة وكأن المجتمع هو الذي وجد من اجلها لا العكس.
فاعتبر جرامشي أن المجتمع المدني يمثل مجالا يضمّ في إطاره المؤسسات الخاصة والحرّة من مثل المدارس والكنائس والنقابات... وتهيمن الدولة بالمعنى الواسع على هذا "الجسم االتعددي"، فإلى جانب كونها جهاز قمع، تهيمن الدولة على مؤسسات متنوعة تفصح عبرها الدولة عن وجودها وهي مؤسسات تتمتع بهامش من الحرية وتساهم في تكريس الايديولوجيا السائدة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا... بحيث تنجح هذه الدولة في ممارسة هيمنتها الإيديولوجية والسياسية ذلك أن الدولة حسب التصوّر الهيغلي هي فكرة مدنية تعاقدية قائمة على مؤسسات هي مؤسسات المجتمع المدني الذي يعدّ بمثابة الرحم الملائم لتنمية النخب والكفاءات.
وإيجازاً فإن المجتمع المدني يمثل المضمون الأخلاقي للدولة، وهو نمط من التنظيم يميل إلى التعدّد وفي إطاره تتحقق دينامية الخلق والتغيير في المجتمعات.
وفيما يتعلق بالمفهوم المعاصر للمجتمع المدني فإن رؤية هابرماس تعد خير منطلق لفهم التعريفات المعاصرة للمجتمع المدني وهى رؤية تقوم على تقسيم المجتمع إلى أربعة مكونات هي الدولة ( السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية) والمجال الخاص (العائلة وجماعات الرفاق) ومجال السوق بما يشمله من عمليات تشارك في عمليات الإنتاج وتستهدف الربح والمجال العام (التنظيمات الطوعية من أحزاب ونقابات واتحادات وحركات اجتماعية وكيانات). ومن هذه الرؤية يذهب كاروثارز إلى أن المجتمع المدني هو مفهوم واسع النطاق يشتمل على كل التنظيمات والروابط التي توجد خارج إطار الدولة وخارج إطار السوق بما فيها الأحزاب السياسية دينية.
ويعرِّف قاموس أكسفورد الوجيز المجتمع المدني بأنه "مجموعة من الروابط (التجمعات) الوسيطة التي تقع بين الدولة والأسرة الممتدة، والتي يقوم الارتباط فيها على الانتماء الطوعي". ويمكن تلمس اشتقاق تعريف المجتمع المدني في قاموس أكسفورد الوجيز من التعريف الذي وضعه فردريك هيغل والذي يعد من أكثر التعريفات الرائجة والمعتمدة بين الباحثين .
أما دياموند فيرى : أن المجتمع المدني يمثل وسطا ما بين المجال الخاص والدولة مستبعدا العائلة والفرد والمشروعات الفردية الهادفة إلى الربح والأحزاب السياسية بوصف أنها تسعى للوصول إلى السلطة ومن ثم تصبح مرتبطة بالدولة.
وعلى الرغم من أنه في الغالب لا يوجد تعريف متفق علية عموما، إلا أن المجتمع المدني هو جزء ومجال الأفعال التطوعية الجماعية. وثمة من يرى المجتمع المدني باعتباره مصطلح واسع يشمل ما يلي : المنظمات غير الحكومية، والنقابات العمالية، والجماعات الدينية، والجمعيات المهنية الحركات الاجتماعية والمنظمات الجماهيرية، والمجتمعات المحلية والمواطنين بالعمل معا بصورة جماعية وفردية.

فيما يعرف والزر المجتمع المدني : بأنه الفضاء الذي يشتمل على ضمانة كافة الظروف التي تكفل الحياة الاجتماعية الجيدة فهو المجال الذي ٌيكون البشر في إطاره شكلا اجتماعيا يتواصلون فيه ويترابطون ببعضهم البعض سواء كان هذا الشكل جماعة أو قبيلة أو نقابة أو رابطة أو دين.
وهناك اتجاهات ترى أن المجتمع المدني يمثل مجموعات غير رسمية منظمة في مجال معين. مثال الجماعات التي تنشا للضغط على الحكومة المحلية إزاء قضية خاصة، وهذه المجموعات تكون أكثر مرونة، وتختفي بعد فترة لتنشا الجماعات كرد فعل فوري نتيجة للظرف التي تنشا من اجلها.
وفي رأي غويلرمو اودونيل وفيليب شميتر يبرز المجتمع المدني مع انبعاث المجال العام. وفي الدولة التسلطية الفاعلة يحاول النظام الحاكم توجيه معظم رعاياه نحو أهداف خاصة ذات طابع حصري. وعندما يأخذ الأفراد والجماعات في تحدي الخطوط المرسومة للسلوك المسموح به مثل المجاهرة بالتهجم على النظام أو المطالبة باستجابة حكومية للاحتياجات الاجتماعية يبدأ المجتمع المدني في التشكل.
لقد توسعت حدود المجتمع المدني كما يلاحظ هابرماس لتشمل من ناحية عملية نشاط جمعياتي بعيد عن العنف بين المواطنين كأفراد من جانب والدولة من جانب أخر. وبهذا التصور للمجتمع المدني كعنصر متوسط أثبت المجال العام المستقل ذاتيا قدرته على البقاء، وتركز الكثير من الاهتمام على تعيين حدود المجتمع المدني. ومن الأمثلة النموذجية على ذلك تصور ادوارد شيلز الذي يقول : " إن فكرة المجتمع المدني هي فكرة جزء من المجتمع المدني الذي يتمتع بنوع من الحياة خاص به ويختلف اختلافا بينا عن الدولة، كما أنه مستقل عنها إلى حد بعيد. ويقع المجتمع المدني وراء حدود الأسرة والعشيرة والمكان لكنه يقصر عن حدود الدولة ". أما بالنسبة إلى للاري دياموند فالمجتمع المدني هو " مجال الحياة الاجتماعية المنظمة الطوعية المتولدة بذاتها والكتفية ذاتيا، والمستقلة عن الدولة والمرتبطة بنظام قانوني أو مجموعة من القواعد المشتركة".
وهناك اتجاه يعتبر أن المجتمع المدني قطاع قائم بذاته. ومع ذلك فإن هناك من يرى أن قطاع الأعمال هو جزء من المجتمع المدني فضلا عن كونه قطاع قائم بذاته . وهناك اتجاه مختلف يؤكد على أن المجتمع المدني ليس قطاع قائم بذاته ولكنة يمثل " حزب " يجمع بين " القطاعات الاجتماعية "، التي تنتمي إلى قطاعات محددة، لكنها تتفاعل في إطار المجتمع المدني. ويمكن تلخيص تعريفات الاتجاهين للمجتمع المدني في التعريفات التالية:
- أن المجتمع المدني هو قطاع الفعل التطوعى في شكل مؤسساتي، والتي تتميز عن مؤسسات الدولة والأسرة والسوق، وفى نطاق الممارسة، فإن حدود هذه القطاعات أحيانا تكون معقدة وممتزجة مع بعضها.
- أن المجتمع المدني يحتوى على مجموعات كبيرة ومتنوعة من المنظمات التطوعية غالبا ما تتنافس مع بعضها البعض، وتتواجد لتحقيق اهتمامات محددة، وهى تضمن وتشتمل على ممثلين من غير الدول أو الحكومات، وإنما هي مؤسسات وهيئات غير حكومية، لا تدفعها الاهتمامات والأهداف اقتصادية (تحقيق ربح) أو مصالح شخصية أو خاصة، وهي غالبا منظمات وتتفاعل مع الجمهور.
- المجتمع المدني مستقل عن الدولة ولكنه يتفاعل مع الدولة بشكل ملاصق في كافة المجالات سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية.
- بالرغم من تفاعل المجتمع المدني مع قطاعات أخرى متعلقة بالدولة، إلا انه يهدف إلى تحسين فعاليتهم واستجاباتهم.
- أن أدوار المجتمع المدني متنوعة، معقدة.

وفيما يتعلق بالمجتمع المدني العالمي فيمكن أن يعرف بأنه يشمل جميع الجمعيات، باستثناء الحكومات، الجهات الفاعلة في القطاع الخاص والأسر، التي تعمل عبر الحدود الوطنية، وقد سهلت عملية العولمة بما توفره من سهولة السفر والاتصال عبر الحدود، تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، الوصول إلى المعلومات. هذه العمليات المختلفة قد مكنت مجموعات التعاون وتنسيق أنشطتها عبر الحدود الوطنية، وذلك في ظل ظهور 'القضايا العالمية' ومثل قضايا تغير المناخ.
جاء التعرف على مفهوم المجتمع المدني عبر الاهتمام المتزايد الذي لاقته مؤلفات غرامشي في المنطقة العربية بعد السبعينات، بيد أن " الاهتمام بمفهوم المجتمع المدني بدأ يتسرب إلى الفكر العربي المعاصر بدءاً من ثمانينيات القرن العشرين خصوصاً في أقطار المغرب العربي، حيث نوقش هذا المفهوم بغرض التفكير في ظروف التحول من الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية لاسيما في تونس والجزائر ".
ويمكن رصد استخدام مفهوم المجتمع المدني بالمعنى الغرامشي، في فصول كتاب " الفلسفة الاجتماعية " للدكتور غانم هنا، الذي ركز اهتمامه على تقصي الفرق بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، وحدد فيه مكونات المجتمع المدني وخصوصية الفهم الغرامشي له من منظور الفلسفة النقدية.
وعليه كان وضع المجتمع المدني إزاء الدولة و فهم المجتمع المدني كساحة للمواجهة الأيديولوجية مع الدولة الذي عنى تعميق ثنائية المجتمع والدولة و إيجاد علاقة تنافر واستبعاد بينها نتيجة اعتماد مفهوم ذي بعد واحد معزول عن سياق محدد تاريخيا ومجتمعيا. فتتجاهل هذه الرؤية حقيقة أنه لا مضمون للمجتمع المدني بدون حضور الدولة وتختزل هذه الرؤية الدولة إلى الحكومة (السلطة التنفيذية)، متجاهلة غياب أو حضور كل من السلطتين التشريعية والقضائية، كما تنظر للدولة كجسم متجانس وموحد دون توترات وصراعات وتباينات وللمجتمع كجسم موحد متناسق الوظائف والمهام دون توترات وصراعات وانقسامات.
ومن ثم لابد من التعامل مع مفهوم المجتمع المدني كمفهوم نسبي وليس كمفهوم مطلق في الزمان والمكان، فمفهوم المجتم المدني مفهوم متطور مر برحلة طويلة اكتسب فيها أبعادًا جديدة، وجري فيها تهميش أبعاد معينة فيه لحساب أخرى حسب المرحلة التاريخية والمنظومة الفكرية التي جري تناوله في إطارها
وفي هذا الصدد يلاحظ المفكر العربي محمد عابد الجابري أن المعطيات الاجتماعية هي بطبيعتها زمانية ومكانية، أي تختلف من زمان إلى آخر، ومن مكان إلى آخر. وهكذا فإذا كان "المجتمع المدني" هو، بالتعريف، مجتمع المدن، فإن ما يحدد وضعه ومكوناته في زمان ومكان معينين هو ما يشكل "الضد" له، (استنادا إلى العبارة المأثورة : "بضدها تتميز الأشياء"). و"أضداد" المجتمع المدني ليست محصورة ولا ثابتة فهي تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن ظرف إلى ظرف، مكانا وزمانا. فعندما ظهر مفهوم "المجتمع المدني" المدني في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر كان "الضد" الذي به يتحدد ويتميز في أذهان مستعمليه هو الكنيسة التي كانت تشكل مجتمعا مستقلا متميزا ودولة داخل الدولة. وفي الحقيقة كان مفهوم المجتمع المدني سلاحا ضد الكنيسة كمفهوم، وبديلا عنها كمشروع. وعندما انسحبت الكنيسة كمنافس للدولة وصارت الدولة وحدها الحقيقة المهيمنة اتخذ مفهوم المجتمع المدني معنى آخر إذ أصبح هذه المرة يتحدد بـ"ضده" الجديد، وصار شعارا يرفع في وجه شمولية الدولة،.. ومن هنا مفهوم "دولة المؤسسات"، ليس المؤسسات الإدارية والسياسية فحسب، بل المؤسسات التجارية والنقابية والصناعية الخ.
فالعودة إلي التجربة التاريخية الغربية يجب أن تقترن بوعي تاريخي لمسار التجربة حتي اللحظة الراهنة، أما الاكتفاء برصد مفهوم المجتمع المدني في نصوص "جرامشي" فيعني استعارة مفاهيم وتجميدها في زمن غير زمنها مع ما يترتب علي ذالك من التباسات تتصل بدعوة قطاعات من النخبة العربية الي القطيعة مع الدين بحجة العمل علي قيام مجتمع مدني في البلاد العربية، في حين أنها تستعدي بذلك مجتمعاتها وتعمق الشرخ بينها وبين شعبها
فمع إغفال هذه الصيرورة التاريخية جرى نقل المفهوم من الخبرة الغربية في صورته في مرحلة تاريخية معينة، بما لذلك من تداعيات سلبية فتم نقل صورة المجتمع المدني التي نشأت في حالة نقض للطابع الديني للدولة وللسياسة، وهي صورة لم تعد صالحة لفهم صورة المجتمع المدني المتشكل مع التحولات العالمية التي قام الدين في ظلها بدور أساسي - في دول الاتحاد السوفيتي السابق - في مناهضة المجتمع لسلطات الدولة وأجهزتها البيروقراطية والحزبية، بل يمكن ملاحظة في تحركات البابا ومواقف كنائس أمريكا اللاتينية، وبعض وسائل الاعلام الكاثوليكي كمجلة ETUDES"" الفرنسية ما يشير الي عودة المسيحية كعامل محرك للمجتمع باتجاه الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان والتصدي للقهر الاجتماعي والطبقي.
كما أن وضع المدني في مقابل الديني كان له تداعياته السلبية على قيام المجتمع المدني بأهدافه؛ فالعلمانية - على سبيل المثال- ان كانت قد حررت الفرد من سلطة الكنيسة، فإنها فى عمقها فكرة مناهضة للمجتمع المدنى
فالحس المدنى عندما يتعمق يكون هو أساس القانون الذى يحترم كما يقول "كانت" انطلاقا من احترام الخير لذاته؛ إذ ينبغى أن يعامل المرء الناس وكأن كل واحد منهم يحمل مثلًا للإنسانية فى ذاته، إلا إن العلمانية لاتدعم هذه الفكرة، فالعلمانية تجعل الدنيا هى البداية والنهاية (إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا)
وعليه لا يلتزم الأفراد بفعل الواجب والخير إلا عندما يجلب منفعة مادية آنية أو دفعا لضرر آنى، الأمر الذى يضاد فكرة التطوعية والغيرية المتطلبة لازدهار المجتمع المدنى، وإلا فأى نفع أجنيه عندما أضحى بملذاتى وأتبرع بأموالى للمجتمع؟! بعبارة أخرى فإنه بقدر ماتتسع فرص الحياة ولا تفتصر على هذا الحيز المحدود فى الدنيا، بقدر ما تتاسس فى المجتمع أخلاقيات المدنية، أى تزداد فرص التضحية والتحرر من الأنانية المركوزة فى طبيعة كل إنسان، وعلى قدر هذا التحرر يزدهر العمل الطوعى فى المجتمع هذا العمل الطوعي الذي يمثل أساس ازدهار المجتمع المدنى عدلاً واستغناءً عن السلطة.
والعلمانية بفصلها القيم وكل ماهو مطلق عن العالم هى فى المحصلة النهائية ضد المجتمع المدنى، بل هى موت الإنسانلانها ضد الغيرية بينما المدنية هى الغيرية ،وهى الإيثار، فهى ثمرة لتصعيد الدوافع والاستعلاء الخلقى والروحى والجمالى. صحيح أن العلمانية حررت العقل الغربى إلى حد كبير من الأساطير والأوهام، ومن تسلط الكنيسة وديكتاتورية الإقطاع، وإعادت للنشاط الدنبوى اعتباره، ونادت بالانسان مركزًا للكون، وبالسيادة الشعبية، وأسست الحداثة، إلا إنها فى الوقت نفسه كان لها آثارها السلبية على المجتمعات الغربية من خلال تهميشها للدين وتفكيكها القديم دون تبصر وإعلائها من شأن القيم المادية، فساهمت إلى حد كبير فى تفجير النزاعات الأنانية والاندفاع المحموم نحو الربح والإشباع الغريزى ونزعات السيطرة الفردية ومركزية الدولة التى لا يمكن إلا أن تنتج الاستبداد، فقد انتهت حركة العلمنة والحداثة فى المحصلة الى التسلط والاستبداد.
لذلك سعى العديد من المثقفين والأكاديميين العرب على بلورة مفهوم بديل للمجتمع المدني بالجمع بين عناصر المفهوم جمعًا متفاعلاً تتسق فيه العناصر، وتتحد فيه العلاقة بين الثوابت والمتغيرات في منظومة تأبي علي التناقض، ولا تتصف بالغموض، ولا تؤول إلي الفوضي في الاستخدام، وتعتمد هذه الصياغة علي تحويل المفهوم إلي مجموعة من الظواهر والشروط الجوهرية المتضمنة فيه.
ويمكن اجمالي هذه الظواهر والعناصر والشروط في:
* الطوعية باعتبارها إحدي الأفكار التي تشير إلي مجموعة من الظواهر المهمة في تكوين التشكيلات الاجتماعية.
* المؤسسية وفكرة المؤسسات الوسطية التي تشير الي ضرورة توظيفها في سياق العلاقة السياسية والعلاقة الاجتماعية.
* أما العنصر الثالث فيتعلق بالغاية والدور، فهذه التكوينات المؤسسية يجب أن تتسم وفق شروط مفهوم المجتمع المدني بالاستقلال عن السلطه السياسية
وتمثل هذه العناصر الحد الأدنى للمفهوم والتي يمكن انطلاقاً منها صياغة رؤى قد تتنوع أثراً لتنوع وجهات النظر دون أن تتضارب أو تتناقض ومن هذه الصياغات تعريف الدكتور سعد الدين إبراهيم للمجتمع المدني بأنه: مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة، التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفردها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف . وللمجتمع المدني عناصر يمكن إيجازها فيما يلي:
أ- إن المجتمع المدني رابطة طوعية يدخلها الأفراد باختيارهم .
ب- يتكون المجتمع المدني من مجموعة من التنظيمات والروابط في عدة مجالات كالمؤسسات الإنتاجية والدينية والتعليمية والاتحادات المهنية والنقابات العمالية والأحزاب السياسية
جـ- المجتمع المدني يعد مجتمع الاختلاف والتنوع والالتزام بإدارة الاختلاف داخل وبين قطاعاته المختلفة بالوسائل السلمية المتحضرة، وهو مجتمع يرتكز على قيم الاحترام والتعاون والتسامح .
د- للمجتمع المدني امتدادات خارج حدوده، تتمثل في توسع مؤسساته وانتقال فعالياتها إلى مجتمعات أخرى. وتتبلور هذه العناصر بصورة جلية بـ" التجربة المقياس".
وفي معرض تعريفه للمجتمع المدني يشير الدكتور عامر حسن فياض إلى إن المجتمع المدني يعبر عن : " جملة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة منها، أغراض سياسية كالمشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني، ومثل ذلك الأحزاب. ومنها أغراض نقابية كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة، ومنها أغراض مهنية كما هو الحال في النقابات للارتفاع بمستوى المهنة والدفاع عن مصالح أعضائها. ومنها أغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي وفقاً لاتجاهات أعضاء كل جمعية. ومنها أغراض اجتماعية للإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية. ومن الأمثلة البارزة لمؤسسات المجتمع المدني هي: الأحزاب السياسية، النقابات العمالية، النقابات المهنية، الجمعيات الاجتماعية والثقافية " ويبين التحليل النقدي للتعريف الإجرائي السابق الذكر، أن جوهر المجتمع المدني ينطوي على أربع عناصر رئيسية هي :
ـ العنصر الأول ويتمثل بفكرة التطوعية التي تميز تكوينات المجتمع المدني عن باقي التكوينات الاجتماعية المفروضة تحت أي اعتبار.
ـ العنصر الثاني ويشير إلى فكرة المؤسسية التي تستغرق مجمل الحياة الحضارية تقريباً، والتي تشمل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ـ العنصر الثالث ويتعلق بفكره الغاية والدور، الذي تقوم به هذه التنظيمات والأهمية الكبرى لاستقلالها عن السلطة السياسية وعن هيمنة الدولة من حيث هي تنظيمات اجتماعية مستقلة تعمل في سياق روابط تشير إلى علاقات التماسك والتضامن الاجتماعيين.
ـ العنصر الرابع ويكمن في ضرورة النظر إلى مفهوم المجتمع المدني بوصفه جزءاً من منظومة مرتبطة به تشتمل على مفاهيم مثل. المواطنة، حقوق الإنسان، التنمية، المشاركة السياسية الشرعية..الخ .
الدكتور حسنين توفيق يرى أن مفهوم المجتمع المدني أنه : مجموعة من الأبنية السياسة والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية تنتظم في إطارها شبكة معقدة من العلاقات والممارسات بين القوى والتكوينات الاجتماعية في المجتمع، ويحدث ذلك بصورة ديناميكية ومستمرة خلال مجموعة من المؤسسات التطوعية التي تنشأ وتعمل باستقلالية عن الدولة .
وقد استقر الرأي من خلال الدراسات الأكاديمية والميدانية والمتابعة التاريخية لنشأته وتطوره أن المجتمع المدني هو "مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، أي بين مؤسسات القرابة ومؤسسات الدولة التي لا مجال للاختيار في عضويتها"هذه التنظيمات التطوعية الحرة تنشأ لتحقيق مصالح أفرادها أو لتقديم خدمات للمواطنين أو لممارسة أنشطة إنسانية متنوعة، وتلتزم في وجودها ونشاطها بقيم ومعايير الاحترام والتراضى والتسامح والمشاركة والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف.
ويفرق الدكتور عبد الغفار شكر بين مفاهيم المجتمع، المجتمع السياسي، المجتمع المدني. بقوله أن : المجتمع هو الإطار الأشمل الذي يحتوى البشر وينظم العلاقة بينهم في إطار اقتصادي اجتماعي محدد ويتطور من خلال علاقة فئاته ببعضها وصراعاتها. في حين أن المجتمع السياسي هو مجتمع الدولة الذي يتكون من الدولة وأجهزتها والتنظيمات والأحزاب السياسية التي تسعى للسيطرة عليها أو الضغط عليها. والمجتمع المدني هو الأفراد والهيئات غير الرسمية بصفتها عناصر فاعلة في معظم المجالات التربوية والاقتصادية والعائلية والصحية والثقافية والخيرية وغيرها.
ويتكون المجتمع المدني حسب رؤيته من الهيئات التي تسمى في علم الاجتماع بالمؤسسات الثانوية مثل الجمعيات الأهلية والنقابات العمالية والمهنية وشركات الأعمال والغرف التجارية والصناعية وما شابهها من المؤسسات التطوعية. وهكذا يستبعد من المفهوم المؤسسات الاجتماعية الأولية كالأسرة والقبيلة والعشيرة والطائفة الإثنية أو المذهبية أو الدينية. كما يستبعد منه المؤسسات السياسية والحكومية، ويبقى بذلك في نطاق المجتمع المدني المؤسسات والمنظمات غير الحكومية التي يقوم نشاطها على العمل التطوعى.
وهناك أكثر من تعريف ومفهوم للمجتمع المدني يقول د.عزمي بشارة : "المجتمع المدني هو نتاج الديمقراطية وليس قاعدتها" ويقول أيضا "لا شك أن اللامساواة الحادة اجتماعيا لا تسمح بمشاركة سياسية أو اجتماعية فاعلة عوضا عن ذلك مجتمع مدني نخبوي، أي مناقضا لذاته لآن مدنيته لا تقوم على المواطنة، وإنما على الموقع الطبقي، ولذلك "فإن مرحلة تشييد المجتمع المدني في عالمنا العربي اليوم، تعني تحقيق الديمقراطية، إذ لا يجوز أن نقفز عن المراحل الضرورية مثل تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية من أجل تحقيق مفهوم معاصر للمجتمع المدني".
ويقول د.محمد عابد الجابري "أن المجتمع المدني هو المجتمع الديمقراطي الذي تتوفر فيه حقوق المواطن والتعددية واستقلال القضاء". ويرى الجبري أنه إذا كان من الجائز، أو حتى من الطبيعي أو الضروري، أن يختلف الباحثون حول تعريف المجتمع المدني، فإن هناك واقعة أساسية وبديهية لا يمكن أن تكون موضوع خلاف، وهي أن المجتمع المدني هو، أولا وقبل كل شيء، مجتمع المدن، وأن مؤسساته هي تلك التي ينشئها الناس بينهم لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وذلك على النقيض تماما من مؤسسات المجتمع البدوي القروي التي تتميز بكونها مؤسسات طبيعية، يولد الفرد منتميا إليها مندمجا فيها، لا يستطيع الانسحاب منها، مثل القبيلة والطائفة.
أما عبد القادر الزغل فيعرف المجتمع المدني بأنه "مطلب البرجوازية في مرحلة التحول الكبير لأوروبا الذي كانت تدعمه الأيديولوجية الليبرالية، وأنه مفهوم وقع في القرن الثامن عشر لمجابهة التراث الاستبدادي للدولة الأوروبية"
هذا فيما تبنت ندوة المجتمع المدني التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في 1992 تبنت تعريفا للمجتمع المدني على أنه يقصد به " المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المستقلة عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة كالمشاركة في صنع القرار السياسي على المستوى الوطني عبر الأحزاب السياسية، والدفاع عن مصالح العمل النقابي والمساهمة في العمل الاجتماعي والتنمية إلى جانب نشر الوعي الثقافي …"
وهناك تعريفات أخرى تتفق على أن المجتمع المدني هو " المجتمع الذي يقوم فيه النظام السياسي أو سلطة الدولة نتيجة اتفاق أفراد هذا المجتمع بإرادتهم الحرة" أو هو "المجتمع الذي تقوم فيه دولة المؤسسات الديمقراطية بالمعنى الحديث للمؤسسة (برلمان-قضاء مستقل-أحزاب-نقابات وجمعيات …الخ)، أو هو "المجتمع الذي تتوفر فيه حقوق المواطن ،بمعنى توفر قيم المدينة ضد قيم التخلف" أو هو "المجتمع القادر بصورة ديمقراطية على مواجهة مظاهر الخلل والفساد والتعسف من قبل الدولة" وكل هذه التعريفات –كما عبر عنها غازي الصوراني - تأتي في إطار المجتمع الرأسمالي وهي لا تلغي صحة التعريف الماركسي الذي يرى في المجتمع المدني هو مجتمع الصراع الطبقي في إطار الديمقراطية البرجوازي.
أما الأستاذة نادية أبو زاهر، فترى : أن مفهوم المجتمع المدني هو مفهوم " زئبقي " أو " ضبابي " كما يحلو لبعض الكتّاب أن يطلق عليه أو كما يحلو لآخرين أن يسميه، أو مفهوم المجتمع المدني واحد من أكثر المفاهيم جدلية. وقد احتل هذا المفهوم الجدلي حيزا كبيرا في المناقشات الفكرية، وحظي باهتمام وسائل الإعلام المختلفة، وهو ما عبر عنه بعض المؤلفين، مثل بنيامين بارت Benjamin Bart عندما قال: " كلما ازداد استعمال مفهوم المجتمع المدني في السنوات الأخيرة، يقلّ فهمه
من جهته يرى الأستاذ حميد كاظم شذر أن المجتمع المدني يمثل نمطاً من التنظيم الاجتماعي والسياسي والثقافي خارجاً قليلاً أو كثيراً عن سلطة الدولة، وتمثل هذه التنظيمات في مختلف مستوياتها وسائط تعبير ومعارضة بالنسبة إلى المجتمع تجاه كل سلطة قائمة فهو إذن مجمل البنى والتنظيمات والمؤسسات التي تمثل مرتكز الحياة الرمزية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي لا تخضع مباشرة لهيمنة السلطة وينتج فيه الفرد ذاته وتضامناته ومقدساته وإبداعاته.
وعلى الرغم مما يبدو من خلاف بين المفكرين العرب حول مفهوم المجتمع المدني، إلا أنه هناك اتجاه غالب يرى " أن المجتمع المدني عبارة عن مجموعة من التنظيمات التطوعية المستقلة نسبيا والتي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها أو تحقيق منفعة جماعية للمجتمع ككل، وهي في ذلك ملتزمة بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والإدارة السلمية للتنوع والخلاف. ومن ثم ينطوي مفهوم المجتمع المدني على ثلاثة أركان أساسية هي ، أولا: الفعل الإرادي الحر (مبادرات أهلية مجتمعية). ثانيا: وجود إطار تنظيمي، وتوافر تراض واتفاق بخصوصه. ثالثا: ركن أخلاقي سلوكي يشير إلى الثقافة المدنية (قبول الاختلاف، والتسامح، والتعاون، والإدارة السلمية للخلافات والصراعات.

Tuesday, February 02, 2010

قراءات عن العدالة الانتقالية



Mccalpin, Jermin O., Justice under constraints: The nature of transnational justice in deeply divided societies, unpublished dissertation( Rhode Island: Brown university, 2006).
تهدف هذه الدراسة لبحث العدالة الانتقالية في المجتمعات المنقسمة في حالة جنوب أفريقيا وتحديدا تسعى لتطوير أنموذج يمكن إعماله بشكل جيد في هذه الحالة الدراسية (جنوب أفريقيا) دون أن تقتصر تضميناته للعدالة الانتقالية عليها ويقوم هذا النموذج على المذهب الليبرالي باعتبار أن النظرية الليبرالية للعدالة التي تتمحور حول العدالة الديمقراطية تقدم النموذج المثالي للعدالة وعليه فإن تقييم الأطروحة للنظريات المختلفة للعدالة الانتقالية (عدالة التجديد والتعافي و العدالة الجزائية والنموذج الذي تتبناه الأطروحة للعدالة التعويضية ) لا يجري استناداً لحيويتها وقابليتها للاستدامة وحسب بل حسب مدى مساعدتها في تقدم المفهوم الليبرالي للعدالة الديمقراطية.
وتعالج الأطروحة النظريات الليبرالية المختلفة حول العدالة الاقتصادية والتي تتمحور إما حول السوق كمدخل لتحقيق العدالة أو المدخل الأكثر مساواة الذي يدعو لتدخل الدولة في المجال الاقتصادي لتنظيم وإعادة توزيع المنافع والأعباء وتحاج الأطروحة بأن هذا المدخل الأخير هو الأنسب للعدالة التعويضية باعتبارها تستهدف تجاوز فترات التفاوت الاقتصادي والاجتماعي التي كرستها سياسة الأبارتهايد فالعدالة التعويضية تتبنى إجراءات تهدف لا لتأمين الوصول العادل للموارد المشتركة لمن حرموا منها سابقاً وحسب بل للتسوية العادلة بين الأنصبة من هذه الموارد . لكن هذا المدخل يجب أن يبقى ذا طابع انتقالي بحيث يمكن العدول عنه حالما تتوطد العدالة الديمقراطية ويمكن الاعتماد على مدخل السوق لتحقيق العدالة الاقتصادية فإذا عاد التوزيع لحالة الاختلال الشامل يمكن للحكومة أن ترجع لمدخل المساواة وهكذا.
وتتمثل الأطروحة الأساسية التي تدافع عنها هذه الدراسة أن العدالة الانتقالية تظل غير مكتملة وغير فعالة في المجتمعات عميقة الانقسام ما لم يضف إليها عنصر أساسي هو التعويضات باعتبارها محور تركيز الإجراءات التي تتعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان في هذه المجتمعات.
تعرض مقدمة الدراسة الأهمية النظرية والعملية لموضوع الدراسة والمدخل المقترح لمعالجتها وهو مدخل معياري بالأساس وإن كان يستفيد من المقترب الوصفي لدراسة الحالة (جنوب أفريقيا) أما الفصل الأول فيقدم شرحاً مفصلاً للعدالة الديمقراطية باعتبارها مثالاً وفي الوقت نفسه أنموذجاً واقعياً للعدالة وهو نموذج ضروري للمجتمعات عميقة الانقسام والعدالة الديمقراطية في أبسط معانيها أنها تعطي الأولوية والصدارة للتصور الديمقراطي للحياة لسياسية وهو بدوره يقدم تصوراً للديمقراطية يعزز العدالة ويقدم الفصل بيناً للكيفية التي يمكن أن تعمل بها العدالة الديمقراطية في المجتمعات شديدة الانقسام بالاستعانة بأدبيات منظرو النظرية الديمقراطية مثل شابيرو وجوتمان.
ويسعى الفصل الثاني للإجابة على التساؤل: أي نماذج العدالة الانتقالية يمكن أن يعمل على تمهيد الطريق للعدالة الديمقراطية وليس كنموذج فعال مؤقت فقط فيشرح هذا الفصل الأسس الأخلاقية للعدالة الديمقراطية والمشكلات المعنوية التي تعاني منها المجتمعات شديدة الانقسام وكيف يمكن أن تعالجها العدالة الديمقراطية ويقدم مجموعة من المعايير لتقييم نماذج العدالة الانتقالية(الجزائية وعدالة التجديد والتعافي و العدالة التعويضية ) ويناقش النموذج المثالي الليبرالي ويقارن نماذج العدالة الانتقالية به.
ويقيم الفصل الثالث النموذج الأول للعدالة الانتقالية وهو عدالة التجديد والتعافي كما تم تطويره وتطبيقه في جنوب أفريقيا بناءاً على تعيين لجنة الحقيقة والمصالحة فيها للمفهوم ويرى أن هذا النموذج مع أهميته فإن قابليته للحياة والتطبيق كنموذج للعدالة الانتقالية في جنوب أفريقيا ضعيفة نظراً لإخفاقه في تقديم نموذج للعدالة التعويضات كآلية أساسية للحفاظ على العدالة في جنوب أفريقيا فهذا النموذج وإن كان يقر بقيمة التعويضات فإنها لا تمثل فيه أحد أعمدته الأساسية كما أن دعوى عدالة التجديد والتعافي بتحقيق التجديد من خلال المصالحة تفتقر لنقطة وَسَط هي أنه لا يمكن تحقيق المصالحة دون عدالة ولا يمكن تحقيق العدالة دون تعويضات ومع ذلك فإن نموج عدالة التجديد والتعافي يطرح عدداً من النقاط يستفيد منها نموذج التعويضات.
ويناقش الفصل الرابع ويتناول بالتقييم أنموذج العدالة الجزائية واستكشاف إمكانات تطبيقه في جنوب أفريقيا نظراً لشعور البعض بالحاجة لأن تكون العدالة الانتقالية فيها أقوى أي ان تصبح جزائية فيستعرض الفصل النظريات المختلفة للعدالة الجزائية ويحاج بان العدالة الجزائية غير مؤهلة الأن تكون النموذج الأساسي للعدالة الانتقالية في جنوب أفريقيا لأسباب عديدة أهمها طبيعة عملية الانتقال في جنوب إفريقيا التي تمت من خلال التفاوض لذلك جرت التضحية بالمقاضاة والمعاقبة الجزائية في سبيل انتقال سلمي وحتى لو تم الخذ بهذا الأنموذج فإن انشغاله الشديد بالماضي سيؤثر على إمكاناته كنموذج شامل للعدالة الانتقالية فمثل هذا النموذج الشامل لابد أن يلتفت للماضي ويتطلع للمستقبل في آن واحد مع هذا تبقى العدالة الجزائية كأحد الملامح الضرورية لأي مجتمع منظم لكن فعاليته في حالة مثل جنوب أفريقيا محدودة.
ويعرض الفصل الخامس نموذج العدالة التعويضية الذي تدافع عنه الأطروحة باعتباره أكثر نظريات العدالة الانتقالية قابلية للبقاء والتطبيق فهذا النموذج يمتاز عن نموذج العدالة الجزائية وعدالة التجديد والتعافي بأنه يعنى بالمساواة المادية وتصحيح آثار سياسات الأبارتهايد (الفصل العنصري) حيث يرى هذا النموذج أن الأقل حظاً من بين أفراد الجماعات المضارة لابد أن تكون لهم الأولية في تطبيقات العدالة ويناقش هذا الفصل الأسس الليبرالية التي يشترك فيها نموذج التعويضات مع العدالة الديمقراطية
ويعرض الفصل الأخير لبض النتائج والاستخلاصات بشأن مستقبل العدالة الانتقالية ومدى إمكانية تطبيق نموذج التعويضات على المجتمعات الأخرى شديدة الانقسام وبالأخص بالنسبة للولايات المتحدة على الرغم من أن البعض قد لا يرى أنها تنطوي تحت تلك المجتمعات لكن الأطروحة تحاج بأنها تعاني انقساماً عميقاً بالنظر للتفرقة العنصرية وعلاقات الأجناس التي لازالت تمتد آثارها إلى اليوم.

Coll Murphy, The nature and moral importance of political reconciliation, unpublished dissertation, Chapel Hill, 2004.
تواجه المجتمعات التي تنتقل من حكم قمعي أو صراع أهلي إلى نظام اجتماعي عادل تحديات متميزة، ويحاج العديد من الباحثين أن الاستقرار طويل الأمد للنظم الديمقراطية حديثة النشأة يعتمد على قدرة الفرقاء السابقين على المصالحة، ويفترض هؤلاء الباحثون - بشكل نمطي- صحة هذه الدعوى دون محاولة إثبات حقيقتها، ومن ثم يفترضون قيمة أخلاقية للمصالحة السياسية، فمن الممكن الربط بشكل حدسي إقامة صلة بين نجاح عملية المقرطة والمصالحة السياسية لكن المهم هو تفسير طبيعة هذه الصلة، وبيان لماذا يتوقف أداء العملية الديمقراطية على المصالحة بين الفرقاء السابقين.
وعلى الرغم من المكانة البارزة التي يتبوأها مفهوم المصالحة في أدبيات العدالة الانتقالية فإنه لم يتم تطويره، كما أن ثمة افتراضات مشابهة تكمن خلف المناظرات حول إمكانية التبرير الأخلاقي لقيام لجان الحقيقة بالعفو عن مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان، فالقضية المحورية في هذه المناظرات هي هل تكون الأولوية للمصالحة أم للجزاء وحتى يمكن تقويم كلا الموقفين لابد من الإجابة على سؤالين الأول إمبريقي هل تعزز لجان الحقيقة المصالحة دائما ً أم أحياناً أم أنها لا تعززها مطلقا؟ والثاني أخلاقي هل من المهم للمجتمعات في حالة انتقال أن تعزز المصالحة أم العدالة الجزائية ؟
وعلى هذا النحو فإن ثمة ميل لاستخدام مفاهيم محورية مثل المصالحة دون تقديم فهم ملائم ودقيق لمضامينها العملية والأخلاقية، فإلى أن نفهم بشكل دقيق مفهوم المصالحة ستظل أهداف السياسات والقضايا محل اهتمام المناظرات الأخلاقية غير واضحة، فعلى سبيل المثال ثمة إجماع ناشئ بين من يتناولون المصالحة السياسية على أنها تنطوي على مداواة العلاقات السياسية المضارة لكنهم يختلفون حول ما تستتبعه هذه المداواة فالبعض يفسر المداواة بمعنى إنهاء الكراهية والبعض يفهمها على أنها توطيد الاحترام المتبادل في حين يؤكد آخرون على ضرورة التوصل لتوافق حول الأمور التي لا يمكن التسامح فيها دون ان يقوم أي منهم بتفسير اختياره لهذا التحديد للمفهوم.
وعليه تسعى هذه الرسالة لتقديم فهم جديد للمصالحة السياسية وتحاج بأن مفهوم المصالحة السياسية يدل ضمنا على الأهداف والوسائل الواجب اتباعها فمفهوم معين للمصالحة يبرز دلالاتها الأخلاقية وأهميتها لعمل الديمقراطية وجدواها العملية.
فحالة المصالحة هي الهدف الذي تعززه بشكل نموذجي عملية المصالحة، وفي سياق العدالة الانتقالية يتمثل هذا الهدف في إنشاء علاقات سياسية ديمقراطية صحية، وتحلل الأطروحة هذه العلاقات السياسية حسب مفاهيم المثل الأساسية لخلقيات السياسة: احترام حكم القانون، ومساوة الفاعلين السياسيين، وذلك من خلال تحليل الجوانب الإشكالية في العلاقات السياسية التي تعد ملمحاً نمطياً للمجتمعات في حالة صراع أو تحت حكم قمعي بناء على المعطيات الإمبريقية لأدبيات علم السياسة، ثم تطوير مثال فلسفي لتقديم تفسير جديد للعلاقات السياسية في هذه المجتمعات.
وبناءً على فهم حالة المصالحة تقدم الأطروحة مجموعة من المعايير للحكم على فعالية العمليات المختلفة لتعزيز المصالحة السياسية.
في الفصل الأول تشرح الأطروحة مجموعة من الاعتبارات التي يجب الأخذ بها لدى تقويم دقة وملاءمة مفهوم معين للمصالحة السياسية، ومنها فهم المصالحة على أنها عملية قيد الاكتمال تتمثل في "حالة" قائمة حالياً، أي أنه يمكن التمييز بين "حالة" المصالحة و"عملية" المصالحة: فالأولى هي الخطوط العريضة للغاية التي تتوجه إليها عملية المصالحة، والأخيرة هي مسارات عمل متنوعة للوصول إلى هذه الغاية، فلابد لأي تحليل للمصالحة من أن يتناول هذين الجانبين، كما أن المفهوم لابد أن يجيب على عدد من الأسئلة المتصلة بالقيمة المعنوية للمصالحة، وأهميتها لعمل النظام الديمقراطي، وشروط تحققها عملياً في المجتمعات الانتقالية. ومن هذه الاعتبارات أيضاً السياق الذي يطبق فيه المفهوم، فتجلي الأطروحة في هذا الفصل الملامح الأساسية للمجتمعات الانتقالية الخارجة من حكم قمعي أو صراع أهلي، والتي يتمثل أهمها في: الطبيعة الخاصة لدور الأيديولوجيا – كنظام فكري – فيها حيث تستند النظم الشمولية في دعواها بالشرعية بأيدلوجية معينة يحتكر الحكام تفسيرها وتصبح أي معارضة لهذا التفسير غير قانونية، وتستقصي الأطروحة أثر الأيديولوجيا على المواطن العادي بالإشارة لحالة الأرجنتين والأبارتهايد في جنوب أفريقيا السمة الثانية هي المشاركة السياسية المقيدة حيث تقوم هذه النظم على التعبئة السياسية ويدور التنافس السياسي على السلطة بين النخب السياسية داخل الحزب أو الفئة الحاكمة وليس بين الأحزاب وتضمن سيطرة النخبة على التنظيمات الأهلية وضعف الأحزاب عدم وجود تنافس حقيقي على السلطة وغياب المعارضة السلمية الفعالة السمة الثالثة هي التحكم في المعلومات وفي إمكانية وصول المواطن العادي إليها غالباً من خلال الرقابة وغياب مصادر مستقلة للمعلومات وهو ما ينعكس في شيوع حالة من عدم التأكد في المجتمع وبروز دور الإشاعات بما لذلك من انعاكسات على التحقق من انتهاكات حقوق الإنسان والسمة الرابعة هي شيوع اللجوء للإرهاب والسمة الخامسة هي شيوع الإفلات من العقاب والمساءلة.
وتركز الأطروحة على طبيعة الصراعات في المجتمعات الانتقالية وطبيعة الموقف قبيل الانتقال موضحة لآثار السلبية للصراع الأهلي الممتد وآثار سمات المجتمعات الانتقالية على المواطن العادي، ففهم طبيعة هذه الآثار يوضح كيف أضرت بالعلاقات السياسية، وهي التي تدعو للقول بأن الديمقراطيات الناشئة لن تعمل إلا بعد تحقيق المصالحة.
ثم تعرض الأطروحة المفاهيم المختلفة للمصالحة في الأدبيات وتقويمها فتميز بين مفهومين للمصالحة السياسية: الأول يربط المصالحة بتماسك وترابط الحكاية، فحالة المصالحة توجد حينما يستطيع الأفراد إدماج الأحداث المربكة والمخربة في فهمهم لحكايتهم، فالخبرات المؤلمة تؤدي بالإنسان (والجماعات) لإعادة تفسيره لماضيه ورؤيته لمستقبله وتتحقق المصالحة عندما يتم استيعاب هذه الخبرة ضمن الإدراك الذاتي. والمفهوم الآخر ينطوي على استعادة وتجديد ومداواة العلاقات المضارة، وتتحقق حالة المصالحة عندما يقوم نوع معين من العلاقات السياسية حيث يتعلم الفرقاء السابقون العمل معاً دون عنف ويسعون للتغلب على عدم الثقة المتبادل، وفي إطار هذا الفهم للمصالحة يمكن التمييز بين صياغتين لمفهوم المصالحة: صياغة مشددة تؤكد على أن المصالحة تعني اختفاء الكراهية والعداء لذلك فهي تنطوي على الصفح من جانب من انتهكت حقوقهم الإنسانية وإقرار المنتهكين بمسئوليتهم عن هذه الانتهاكات بما يحقق نوعاً من التناغم والتوافق الاجتماعي، وهناك صياغة مخففة ترى المصالحة تتحقق لا بانعدام الكراهية بل بتحقق الاحترام المتبادل بين أفراد وفئات وجماعات المجتمع، بل وأحياناً بمجرد القبول المتبادل بالتعايش.
وتحاج الأطروحة بأن كلا المفهومين غير مكتمل ولا مرض لكن كليهما يتضمن أبعاداً هامة لابد لأي فهم للمصالحة أن يأخذ بها، وعليه تسعى الأطروحة لبحث نوعين من العلاقات السياسية: العلاقة بين المواطنين والمسئولين الرسميين والعلاقة بين المواطنين ببعضهم بعضاً وتناقش هذه العلاقات من خلال بعدين أساسيين: الأول هو ما تدعوه الأطروحة المكون المؤسسي للعلاقات السياسية فبقدر التأثير المتعاظم للقوانين على سلوك المواطنين ماذا يجب أن تكون عليه القواعد الديمقراطية والإجراءات السياسية والبعد الثاني هو جانب الاتجاهات والانفعالات في العلاقات السياسية والذي يثير أسئلة من قبيل:هل تتوافق العلاقات السياسية الديمقراطية مع مشاعر الكراهية بين المواطنين تجاه بعضهم بعضاً أوتجاه المسئولين الحكوميين ما الاتجاهات التي يجب أن يتبناها المواطنون لدى نظرهم في الدعاوى التي يدعيها المواطنون الآخرون وثمة مسألة تتصل بعضوية المجتمع السياسي: هل لابد للمواطنين الديمقراطيين أن يتشاركوا هوية قوية كما يتشاركون الهوية القومية هل لابد لأعضاء المجتمع السياسي أن يكون لهم تاريخ مشترك.
ويسعى الفصل الثاني "المصالحة السياسية وحكم القانون" لتطوير مفهوم للمصالحة بالإجابة على هذه الأسئلة بالتركيز على "حالة المصالحة" فيبحث العلاقة السياسية بين مسئولي الحكومة والمواطنين ويناقش أهمية الاحترام المتبادل - كأحد سمات العلاقة السياسية الصحية بينهما – لحكم القانون الذي يعد أحد العناصر الأساسية للديمقراطية التي تعد بدورها غاية الحالة الانتقالية.
وتحاج الأطروحة بأنه لابد لفهم العلاقات السياسية الصحية بين المواطنين ومسئولي الحكومة من التركيز على بنية خاصة يقيمها حكم القانون باعتباره يقتضي متطلبات معينة يتعين على صانع القانون احترامها وعندما يخضع المجتمع (المحكومون ومسئولي الحكومة ) لحكم القانون توجد قواعد واضحة تحدد السلوك السليم الذي يجب أن يسلكه المواطنون ومسئولو الحكومة وتحدد هذه القواعد شكل العلاقة السياسية ومن ناحية أخرى فإن احترام حكم القانون يتأسس على قيمة التبادل التي ترسي أساس قيام علاقة سليمة بين مسئولي الحكومة والمواطنين وتوظف الأطروحة مفهوم لون فولر لحكم القانون وقيمته الأخلاقية باعتباره السياق الذي ضمنه يمكن فهم الدور التأسيسي لمفهوم التبادل حيث حدد فوللر 8 متطلبات لقيام حكم القانون هي علنية القوانين وعدم رجعيتها والوضوح وعدم التناقض والثبات النسبي والاتساق بين القواعد المكتوبة وتنفيذها في الواقع وبطبيعة الحال قد لا يفي صانع القاعدة القانونية بكل هذه المتطلبات لكن الطابع القانوني لا ينسحب على القواعد التي لا تستجيب لغالبية هذه المتطلبات ولا يستحق النظام القانوني الذي يخرج بشكل نظامي عليها هذا الوصف ومن ثم يفقد الأساس المعياري لطاعة المواطنين له ويعم بينهم الاستياء منها وتطبق الدراسة هذا التحليل على انتهاكات حقوق الإنسان في حالتي الأرجنتين وجنوب أفريقيا حيث أدت هذه الانتهاكات إلى تقويض قاعدة التبادل التي تؤسس لالتزامات المواطنين ومسئولي الحكومة ويختتم الفصل بدفع اعتراضين يردان على هذا التحليل الأول يحاج بأنه لا يشرح بشكل سليم القيمة الأخلاقية لمتطلبات حكم القانون فاحترام حكم القانون له قيمة فقط من الناحية الأداتية الذرائعية ويرى الاعتراض الثاني أن التفسير الوارد لاحترام حكم القانون غير واف.
أما الفصل الثالث "المصالحة السياسية والمساواة" فينطلق من مقولة عدم كفاية احترام حكم القانون لوصف سمات العلاقة السياسية وبالأخص العلاقة بين المواطنين وبعض البعض والتي تتعرض للضر قبيل الانتقال في المنظم القمعية أو التي كانت في صراع لذلك تفترض الأطروحة أن العلاقات السياسية السليمة هي ضرورة علاقة بين متساوين مع تقديم فهم محدد للمساواة فالمواطنون يترابطون كمتساوين فقط إذا كانوا قادرين بشكل متساو على ممارسة فاعليتهم بشكل متساو في علاقاتهم السياسية فهي مساواة في الفاعلية agency تقوم على مفهوم للمواطنين كفاعلين أخلاقيين، وبهذا الوصف يملك المواطنون قدرة على تطوير واتباع مفهومهم الخاص لما هو خير وعلى تطوير معنى خاص للعدالة و التصرف وفقه فالمواطنزن يدخلون في علاقات متساوية فيما بينهم عندما يكونو قادرين بشكل متساو على تطوير وممارسة فاعليتهم في المجال السياسي والمدني وترى الأطروحة أن هذا الإطار يشرح كيف أن سمات العلاقات السياسية قبل الانتقال تقوض سلامتها وأهمية فهم المساواة بهذا النحو لصحة وسلامة العلاقات السياسية وفي هذا الصدد فإن هذا المفهوم – كما تحاج الأطروحة - أكفأ من مفهوم المساوة التوزيعية الليبرالي في فهم العلاقات السياسية بين المواطنين.
فالعلاقات التي تقوم على قمع أفراد مجموعة معينة بشكل نظامي تحبط قدرة أعضاء الجماعة المقموعة على ممارسة فاعليتهم وهذا القمع المنظم هو نتاج العديد من العوامل منها إنكار الحقوق والظروف المادية والحرمان من التعليم وعدم الوفاء بالاحتياجات الأساسية والاتجاهات التمييزية. وثمة ثلاثة متطلبات أساسية لتحقق علاقات المساواة في الفاعلية فلكي يترابط الموطنون كفاعلين متساوين لابد أن 1- يكونوا قادرين على التأثير على صياغة شروط التعاون الاجتماعي و 2- على اختيار من سيتفاعلون معهم وبأية شروط ويجب أن تعزز هذه الشروط أو على الأقل ألا تقوض قدرة المواطنين على العيش كفاعلين بشكل عام و 3- وأن تكون العلاقات السياسية مفضية إلى اتباع المرء لتصوره عما هو جيد وتطوير مفهومه للعدالة كما تضمن البنى المؤسسية والمعايير الاجتماعية واتجاهات المواطنين أن لهم اختيار حقيقي للكيفية التي سيتفاعلون بها ومع من يتفاعلون وأن يكون للمواطنين تأثير على عملية تشكيل قواعد التفاعل وأن يكونوا قادرين على اتباع مفهوم للخير والحفاظ على حسهم بالعدالة ضمن هذه التفاعلات. وكما يقر منظرو المساواة التوزيعية فإنه من المهم أن تقوم المؤسسات القانونية بتصنيف وحماية الحقوق المدنية والسياسية لكل المواطنين بشكل متساو. ويشرح هذا الفصل كيف يضر تحديد من يتمتعون بالحقوق السياسية العلاقات السياسية على مستويات عدة سواء بتقييد قدرة جماعة معينة على التأثير على شروط التعاون الاجتماعي أو بتقييد الطرق التي يتفاعل بها أفراد جماعة معينة مع أعضاء الجماعات الأخرى أو بتقويض إحساس الفرد باحترامه لذاته وهو الشرط المسبق للممارسة الفاعلية وبتقويض معنى العدالة والاحترام المتبادل وغيرها من العوامل المؤسسة للعلاقات السياسية الصحية على حين أن تترابط حرية الأفراد في ممارسة فاعليتهم في مختلف المجالات السياسية
وتعتمد فعالية الحقوق المدنية والسياسية التي يتمتع بها المواطنون على تصرفات واتجاهات المواطنين فالمواطنون قد لا يستخدمون أو غير قادرين على استخدام حقوقهم المدنية والسياسية نظراً لعوائق غير قانونية وبالإضافة إلى ذلك فإنه بقدر ما يتم استبعاد أعضاء جماعات معينة من عمليات تشكيل شروط التعاون بقدر ما تقل قدرتهم على اختيار من يتفاعلون معهم وقدرتهم على العمل وفق تصورهم لما هو خير.
ويسعى الفصل الرابع للإجابة على السؤال كيف يمكن تقييم قدرة الآليات المختلفة على تعزيز علاقات سياسية أكثر صحية حيث يدور أغلب المناظرات حول أي آليات العدالة الانتقالية أشد تعزيزاً للمصالحة هل المحاكمات أم التعويضات أم لجان الحقيقية لكن هذه المناظرات لا تشرح كيف تدعم الأسباب المطروحة الدعاوى المتنافسة بآثار معينة لهذه الآليات على المصالحة فمثلاً يحاج البعض يأن لجان الحقيقة والمصالحة تدعم المصالحة لأن افراد المجتمع يتعلمون حقيقة ونطاق الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان دون أن يكون إيضاح لماذا تشجع معرفة الحقيقة تطوير علاقات المساواة والاحترام المتبادل لحكم القانون
لكن لابد لتقييم تأثير لجان الحقيقة والمحاكمات على المصالحة لابد أولاً من وضع معايير لعمليات المصالحة وعملية وضع المعايير هذه بدورها محكومة بعدد من الاعتبارات منها ضرورة أن تتضمن جانبي العلاقات السياسية أي احترام حكم القانون ومساواة الفاعلين كما يجب أن تتضمن الاتجاهات والسلوكيات والمؤسسات الداعمة لحكم القانون
وتتمثل أهم هذه المعايير بالنسبة لحكم القانون في الاحترام المتبادل لحكم القانون و إقرار المسئولين بقيمة التبادل والثقة المتبادلة بين مسئولي الحكومة والمواطنين أما بالنسبة لمساواة الفاعلين فلابد من استيفاء الشروط المؤسسية مثل سماح هيكلية صنع القرار السياسي للمواطنين بممارسة التأثير على عملية صنع القرار وأن تحدد الانتخابات التي تجري بشكل مؤسسي ونزيه من يتولى السلطة وشكل ممارسته لها ولابد – ثانيا- من وجود اتجاهات معينة لدى المواطنين تجاه العملية السياسية وتجاه أقرانهم من قبيل قبول الحلي السلمي للخلافات السياسية دون عنف والتزامهم بتبرير رؤاهم السياسية للمواطنين الآخرين وقبول اختلاف رؤية المواطنين الآخرين.
وقياساً إلى هذه المعايير تطرح الرسالة تقييمها لأثر لجان الحقيقة والمصالحة والمحاكمات في الخبرات العملية وتخلص إلى أنه مع جدوى هذه المعايير فإنها تظل محكومة بالسياق الذي تطبق فيه.

Thursday, July 23, 2009

Monday, July 13, 2009

ثقافة السلام والتسامح في الدراما المصرية
عانت الإنسانية على مدار قرون طويلة من ويلات الحروب، فاصطلت بنار حربين عالميتين وعشرات الحروب الإقليمية والأهلية التي زادت من المعاناة الإنسانية، وأخرت تطور الحضارة الإنسانية؛ حيث شهدت هذه الحروب إهداراً لكافة الحقوق الإنسانية وعلى رأسها الحق في الحياة، وكانت سبباً مباشراً في انتشار الفقر والمرض والبؤس.
وقد لفت إخفاق الجهود المتتابعة لإرساء السلام انتباه العالم إلى أن العامل الأهم وراء هذا الإخفاق هو إهمال حقيقة كون الحرب تتولد في عقول البشر، لذا يجب أن تبنى في عقولهم حصون السلام، فهذا الفهم الذي اتخذته اليونسكو شعاراً لها يقوم على حقيقة أن السلام الذي يقوم على أساس الترتيبات التي تتفق عليها الحكومات فقط لن يحظى بالتأييد الإجماعي والمخلص من كافة الشعوب ومن ثم يصعب استدامته فلابد لنجاح السلام من أن يؤسس على التضامن الفكري والمعنوي للبشرية.
[1]
فالمسألة لم تعد تلافيًا لمظاهر الحرب إنما اجتثاث لجذورها العميقة في الثقافة والفكر بحيث تتحول ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام، وبهذا المعنى تنطوي ثقافة السلام على عملية مجتمعية مستمرة process تعزز المعارف والمهارات والقيم والمواقف والتصرفات التي تنسجم وتدعم ثقافة السلام، وتقوم هذه العملية على تآزر وشراكة قوية بين جهود المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب، وتقوم وسائل الإعلام الجماهيري بدور مهم في هذا الصدد لما أظهرته البحوث العلمية من تأثيرها في قطاعات عريضة من فئات المجتمع التي تتعرض لها حتى أن بعض النظريات ترى وسائل الإعلام تؤثر تأثيراً مباشراً، وسريعاً في الجمهور، وأن الاستجابة للرسائل الاتصالية مثل رصاصة البندقية تؤثر بعد انطلاقها مباشرة، في حين ترى نظرية الغرس الثقافي أن الجمهور يتأثر بوسائل الإعلام في إدراك العالم المحيط به، وتزيد معارفهم، وترى نظرية ثالثة أن الإعلام يقوم بترتيب اهتمامات الجمهور من خلال إبراز القضايا التي تستحق، وإهمال قضايا أخرى. فيبدي الجمهور اهتمامه بهذه القضايا دون غيرها. [2]
وتكتسب الدراما – خاصة التليفزيونية- كأحد أشكال الرسائل الاتصالية أهمية خاصة في دعم ثقافة السلام باعتبارها وسيطاً تحول من مجرد اختراع ذى طابع علمى قائم على خدعة بصرية إلى كونه واحدا من أهم وسائل التعبير ذي الشعبية الواسعة فهي شكل يقوم على تصوير الواقع المعيش اعتماداً على عناصر التشويق والتعبير البصري الحركي بما يجعله قريبا من المتلقي وقادراً على مخاطبة قطاعات عريضة من المجتمع.
وتقتضي محاولة تتبع مدى تعبير الدراما التلفزيونية المصرية عن ثقافة السلام والتسامح و معالجتها للقضايا المتعلقة بهذه الثقافة تحديداً أدق لمفاهيم ثقافة السلام والتسامح. فعلى الرغم ما تبدو عليه هذه المفاهيم من وضوح بدهي فإن النزول بها إلى عالم الواقع يظهر قدر الاختلاف في الرؤية بصددها.
فالمعنى الشائع للسلام هو غياب الحرب، لكن هل يستغرق هذا المعنى كافة أبعاد السلام؟ ألا يمكن أن يخفي غياب الحرب حالة من القهر تنطوي على عدم تكافؤ حاد في القوى بين المعتدي والمعتدى عليه؟ ويحاول البعض تقديم مفهوم أوسع للسلام باعتباره "غياب العنف" بحيث يعني غياب كل ما له علاقة بالعنف، مثل – إضافة إلى الحرب - الجرائم الكبرى المنظمة كالإرهاب، أو النزاعات العرقية أو الدينية أو الطائفية أو المناطقية (أي تلك التي تنشب بين مناطق جغرافية في مواجهة مناطق أخري داخل إقليم الدولة ذاته) والتي تتنوع أسبابها بين اعتبارات اقتصادية (مثل الصراع علي الثروات الطبيعية كما هو الأمر في العديد من بلدان أفريقيا)، أو سياسية (مثل احتكار مناطق جغرافية معينة للسلطة السياسية مثلما هو النزاع الجاري حاليا في دارفور) أو عرقية (مثل النزاعات بين الأعراق المختلفة التي تقطن مناطق جغرافية في مواجهة بعضها بعضا كما كان الحال حتى وقت قريب في الصراع بين شمال وجنوب السودان).
ويلاحظ أن هذا التعريف للسلام تعريف بالسلب، أي أنه يوجد متى غابت حالات معينة فهو لا يتطرق إلى جوهر السلام وحقيقته لذلك لابد من تكميله بتعريف إيجابي حيث يمكن تعريف السلام بأنه "الاتفاق، الانسجام، الهدوء...". وفق هذا التعريف فإن السلام- عكس التعريف السابق- لا يعني غياب العنف بكافة أشكاله فقط، ولكنه يعني صفات ايجابية مرغوبة في ذاتها مثل الحاجة إلي التوصل إلي اتفاق، الرغبة في تحقيق الانسجام في العلاقات بين البشر، سيادة حالة من الهدوء في العلاقات بين الجماعات المختلفة...إلخ. السلام- إذن- هو حالة إيجابية في ذاتها (الاستقرار والهدوء مثلا)، أكثر من كونه غيابا لحالة سلبية مرفوضة (العنف، الحرب، القتل مثلا).
يفتح هذا التعريف المجال أمام التفكير في مستويات مختلفة للتعامل مع مفهوم "السلام". هناك سلام بين دول، وهناك سلام بين جماعات بشرية، وهناك سلام في داخل الأسرة، وهناك سلام بين المرء وذاته. وهذه المستويات تشكل وحدة متكاملة، لا يمكن فصل أحدها عن الآخر، بل قد يشكل كل منها منطلقاً لوجود الآخر.
ـ السلام الذاتي أو الشخصي
وتتمثل في العيش في أجواء سلام ذاتي، فتكون علاقة الإنسان بذاته مفعمة بمشاعر الرضى والطمأنينة والأمان وعدم الخوف والاطمئنان على المستقبل.
إن توافر العوامل والضمانات الإيجابية يقيم حالة استقرار داخلي لدى الإنسان يجعله مؤهلاً للاضطلاع بدوره على صعيد السلام في محيطه وفي العالم.
وهناك العديد من العوامل التي يمكن أن تؤثر سلباً على السلام الذاتي منها الشعور بعدم القدرة على إثبات الذات بسبب عدم المساواة جراء المعتقدات والعادات الاجتماعية
الشعور بالإجحاف جراء القوانين الجائرة على حقوق الإنسان فهذه العوامل تجعل الإنسان يشعر إلى حد ما بالعجز عن العيش في ظل استقرار ذاتي يمكِّنه من الانطلاق إلى العالم الخارجي بثقة وفاعلية.
2ـ السلام الأُسري والعائلي
ويتجلى في سيادة التوافق بين أفراد الأسرة وحياتها في أجواء من الاحترام المتبادل ومما يؤثر سلباً على هذا السلام العنف المنزلي وسوء المعاملة (الإيذاء الجسدي، الإيذاء الجنسي...)، والإجحاف الناتج عن عدم الرعاية الصحية، وعدم الحماية من الأمراض والأوبئة، والحرمان من حق التعلم.
3 ـ السلام الاجتماعي الوطني
[3]
يتكون كل مجتمع من مجموعة من البشر، مختلفون بالضرورة عن بعضهم بعض، سواء في انتمائهم الديني، أوالمذهبي، أوموقعهم الاجتماعي، أوالوظيفي، فمن الثابت أن المجتمعات تقوم علي التعددية الثقافية والدينية والنوعية والسياسية، كل طرف لديه ما يشغله، وما يود تحقيقه. القاسم المشترك بين الجماعات المختلفة هو أساس بناء المجتمعات ويعني السلام الاجتماعي سيادة الوفاق بين هذه المجموعات المختلفة من خلال ما يمكن أن نطلق عليه "عقدا اجتماعيا"، أي التزام غير مكتوب بينهم، يتناول حقوق وواجبات كل طرف في المجتمع. الخروج علي هذا العقد يمثل انتهاكا لحقوق طرف، وإخلالا بالتزامات طرف آخر مما يستوجب التدخل الحاسم لتصحيح الموقف ليس بالعنف بل بالإجراءات القانونية.
هناك عدة أركان للسلام الاجتماعي في أي مجتمع، لا تتصل فقط بالتاريخ، لكنها تقترب أكثر فأكثر من الإدارة السياسية للمجتمعات، منها:
1- الإدارة السلمية للتعددية.
بطريقة تحفظ للجماعات المتنوعة التي تعيش مع بعضها بعضا مساحة للتعبير عن تنوعها في أجواء من الاحترام المتبادل.
2- الاحتكام إلي القانون
يمثل "حكم القانون" في المجتمع الحديث أحد أهم عوامل تحقيق المساواة والعدالة في العلاقات بين الأفراد، والجماعات ويؤدي إلى ما يمكن أن نطلق عليه "التوقع الاجتماعي" ويعني ذلك أن الأفراد يتوقعون نظاما قانونيا في المجتمع، يحكم علاقات بعضهم بعضا، يقوم علي وضوح القوانين، وشفافية عملية التقاضي، والحزم في تنفيذ الأحكام القضائية النهائية واجبة النفاذ. غياب بعض هذه المعايير أو جميعها يؤدي إلي إهدار لمفهوم المساواة بين المواطنين في المجتمع، ويدفع الأفراد إلي الاستناد إلي أعراف من صنعهم، مثل البلطجة والرشوة وجميعها تعبر عن اهتزاز مفهوم "حكم القانون" في نفوس الأفراد، وهو ما يؤثر علي السلام الاجتماعي في المجتمع.
3- الحكم الرشيد
الحفاظ علي السلام الاجتماعي في أي مجتمع يحتاج إلي حكم رشيد. كثير من القلائل والإضرابات تحدث من جراء غياب المشاركة وسرقة المال العام. من هنا يحتاج السلام الاجتماعي إلي ديمقراطية.
ويعني الحكم الرشيد Good Governance مجموعة من المفاهيم الأساسية، يمكن تعريفها بإيجاز المساءلة Accountability والشفافية Transparency وتعنى العلنية في مناقشة الموضوعات، وحرية تداول المعلومات في المجتمع. تساعد الشفافية في تداول المعلومات علي تحقيق المساءلة الجادة حين تتوفر الحقائق أمام المواطنين في المجتمع.
التمكين Empowerment ويعنى توسيع قدرات الأفراد، ومساعدتهم على تطوير الحياة التي يعيشونها. ويشمل تمكين المواطنين وتحويلهم من "متلقين" سلبيين إلى مشاركين" فاعلين، يكون ذلك من خلال رفع قدراتهم، ومساعدتهم علي تنمية أنفسهم، والارتقاء بنوعية الحياة. المشاركة Participation وتعنى تشجيع الأفراد علي المشاركة في العمل العام وإزالة العقبات من أمامهم. محاربة الفساد Corruption أو سوء استخدام الموقع الوظيفي من أجل تحقيق مكاسب شخصية.
4- حرية التعبير وهي من مستلزمات عملية بناء السلام الاجتماعي في أي مجتمع.. ولا يتحقق السلام الاجتماعي دون أن تتمتع كل مكونات المجتمع من مساحات متساوية في التعبير عن آرائها، وهمومها، وطموحاتها. في مناخ عقلاني يسوده الانفتاح يمكن الاستماع إلي كل الأطراف، وتفهم كل الآراء، دون استبعاد لأحد، بهدف الوصول إلي الأرضية المشتركة التي يلتقي عندها الجميع
5- و تعد العدالة الاجتماعية ركنا أساسيا من أركان السلام الاجتماعي حيث لا يمكن أن تحتكر كل شيء، وغالبيته تفتقر إلي كل شيء. الصراع بين الطرفين سيكون السمة الغالبة. ولا يقتصر مفهوم العدالة الاجتماعية علي المشاركة في الثروة، وتوسيع قاعدة الملكية لتشمل قطاعات عريضة من المجتمع، والحصول علي نصيب عادل من الخدمات العامة، ولكن يمتد ليشمل ما يمكن أن نطلق عليه "المكانة الاجتماعية"، التي تتحقق من خلال مؤشرات واضحة مثل التعليم.
يحتاج السلام الاجتماعي إعلاما يجد فيه المواطن العادي مساحة تعبير ملائمة عن همومه المتنوعة حسب موقعه الاجتماعي والديني والسياسي بحيث يصبح إعلاماً يعزز المواطنة
4- السلام الإقليمي والدولي
[4]
بغياب الصراعات والحروب وقيام نظام دولي يحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها وسيادة الدول وخصوصياتها الحضارية والثقافية مع شروط تبادل اقتصادي متكافئ بين الدول المتقدمة والنامية .
نخلص إذاً إلى أن السلام ليس مجرد غياب للحروب بل عملية إيجابية تشاركية ترتبط بتحقيق الديمقراطية والعدالة والتنمية للجميع بما يكفل احترام الاختلافات وتشجيع الحوار وتحويل النزاعات بفضل وسائل اللاعنف على سبل جديدة للتعاون
واستناداً إلى هذا المعنى الأوسع والأكثر إيجابية للسلام تصبح ثقافة السلام مجموعة من القيم والمواقف والتقاليد والعادات وأنماط السلوك وأساليب الحياة بحيث تجسد في مجموعها تعبيراً وطموحاً إلى احترام الحياة واحترام البشر وحقوقهم مع رفض العنف بكل أشكاله والاعتراف بالحقوق المتساوية للرجل والمرأة والاعتراف بحق كل فرد في حرية التعبير والإعراب عن الرأي والحصول على المعلومات والتمسك بمبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية والتنمية للجميع والتسامح والتضامن والتعددية وقبول الاختلافات والتفاهم بين الأمم والفئات العرقية والدينية والثقافية وغيرها من الفئات والمساهمة في منع الصراعات من خلال عمليات بناء السلام
وإيماناً بالسلام ودور المرأة في تحقيقه انطلقت أول مبادرة سلمية للمرأة في المنطقة العربية
[5] هي " حركة سوزان مبارك الدولية للمرأة من أجل السلام " كمنظمة دولية غير حكومية تستهدف تفادي العنف على كافة المستويات وتطوير البدائل الناجحة للصراعات المسلحة وتقوية روح التسامح بين الناس وتعزيز دور المرأة في عمليات السلام الرسمية وغير الرسمية وضمان مشاركتها في السياسات والإجراءات الدولية لتحقيق السلام.
إن ثقافة السلام بالمعنى المشار إليه تقتضي إطاراً فكريا وسلوكيا يعد التسامح أهم مقوماته فالتسامح – كما أشار إعلان اليونسكو – هو الفضيلة التي تيسر قيام السلام وإحلال ثقافة السلام محل الحرب.
وللوقوف على معنى التسامح يجب الرجوع على أصوله اللغوية والفكرية: فالتسامح فى "لسان العرب" لابن منظور ، ثرى المعانى ، ومعظم هذه المعانى مشتق من (سمح) . السماح والمسامحة: أى الجود والعطاء عن كرم وسخاء، وليس تسامحاً عن تنازل أو منة .
والمسامحة: المساهلة . وتسامحوا : تساهلوا ، لأن "السماح رباح" كما جاء فى الحديث الشريف ، بمعنى أن المساهلة فى الأشياء تربح صاحبها. وبمعنى حقوقى حديث أن تتسامح مع الآخر يعنى أنك تعترف بحقه . وهذا ليس تنازلاً أو خسارة، لأن "السماح رباح" .. لك وللآخر .
وتقول العرب: "عليك بالحق فإن فيه لمسمحاً ، أى متسعاً " فالتسامح حق يتسع للمختلفين، أو قل أنه استواء فى الاختلاف
وذكر عبد الرحيم بن عبد الكريم صفى بور فى "منتهى الارب فى لغة العرب" ساهل : تساهل معه، وأبدى ليونة فى الطلب. تسامح: تساهل فيه(3) . ربما لأن التساهل والتسامح واللين والرفق، يشير فى الواقع إلى أسلوب معين فى التعامل، يراد له أن يسود، ذلك أن الدين سمح والشريعة سهلة، وهما أسلوب حياة . فلم يشأ الله تعالى أن يكون المؤمنون فى حرج ومشقة وضيق فى دينهم، لذا جعل الدين يسيراً وخاطب النبى (ص) بقوله "ونيسرك لليسرى"(4) .
وفى اللغة الانجليزية هناك مقابلان لكلمة تسامح، الأول Tolerance والثانى Toleration ، وهذا أدى إلى تعدد الاجتهادات فى إبراز الفروق بينهما . ففى معجم "وبستر" تعنى كلمة Toleration سياسة التسامح المتبعة مع كل الآراء الدينية وأشكال العبادة المناقضة أو المختلفة مع المعتقد السائد ، بينما تعنى لفظة Tolerance استعداد المرء لتحمل معتقدات وممارسات وعادات تختلف عما يعتقد به .
وقد حاول بعض الكتاب التمييز بين هذين اللفظين، بما يتيح لهم تعيين الأوجه المختلفة للتسامح، فاقترح "كريك" Crick كلمة Tolerance لوصف فعل التسامح نفسه، وكلمة Toleration لوصف المبدأ المعلن والقائل بأن على المرء أن يكون متسامحاً ، وقد لاحظ أن (Tolerance) وجدت أولاً من الناحية التاريخية قبل أن تصك كلمة (Toleration) يقول : "أن ما اعتقده هو أن Toleration تعنى فى الاستعمال العادى فعل ممارسة التسامح، وأنه من السهل تمييزها عن مبدأ التسامح دون الاستعانة بأى تعبير آخر".
وقد ظهرت كلمة Tolerance أولآ فى كتابات الفلاسفة فى القرن السابع عشر، أو قل زمن الصراع بين البروتستانت والكنيسة الكاثوليكية. حيث نادى "جان بودان" و "مونتينى" و"اسبينوزا" فى "البحث اللاهوتى الفلسفى"، و"روجر وليمز" فى رسالتيه" العقيدة الدموية للاضطهاد بسبب الضمير" 1644 و "العقيدة الأكثر دموية" 1652، و"جون ميلتون" و"جون لوك" فى كتابه "رسالة فى التسامح" 1689 – 1692، وغيرهم، بضرورة التسامح بين المخالفين فى الرأى والعقيدة ، وحق الاجتهاد ، واتخاذ العقل ميزاناً وحكماً .
وإذا كان التسامح يعرف بضده وهو “التعصب”، فإن التعصب فى تاريخ الاجتماع البشرى هو عصب الفكرة الشمولية الأحادية سواء كانت دينية أم وضعية، كما كان الحال فى أنظمة التعصب الكنسي في العصور الوسطى، ثم أنظمة التعصب الأيديولوجي في العصر الحديث (الفاشية والشيوعية والنازية والصهيونية)، واليوم الحركات الأصولية فى الشرق والغرب: إسلامية ويهودية ومسيحية وهندوسية وسنهالية وتاميلية وصربية ونازية جديدة .. الخ .
والتعصب فى اللغة هو عدم قبول “الحق” عند ظهور الدليل بناء على ميل إلى جهة أو طرف أو جماعة أو مذهب أو فكر سياسي أو طائفة. وهو من “العصبية” وهى ارتباط الشخص بفكر أو جماعة والجد فى نصرتها والانغلاق على مبادئها .
والشخص المتعصب Fanatical هو الذي يرفض الحق الثابت والموجود ويصادر الفكر الآخر أو الدين الآخر، أو لا يعترف بوجود كل ما هو آخر أصلاً، سواء في الدين أو المذهب أو الطائفة أو العرق أو الحزب، وإن ارتبط التعصب فى أذهان الناس بـ “الدين” أساساً ربما لخطورته، لذا انصب “هم” الفلاسفة على تقويض التعصب أساسا حتى يفسحوا المجال للتسامح
وقد حدد "إعلان مبادئ التسامح" الصادر عن اليونسكو فى سنة 1995، أن التسامح: "ليس فقط مجرد التزام أخلاقي وإنما أيضاً ضرورة سياسية وقانونية". وهكذا فإن التسامح فضيلة وممارسة تجعل السلام ممكناً بين الشعوب، باستبدالها الصريح للحرب باللاعنف بحيث يتحول إلى تسامح نشيط يمتلك حق العمل علي تحييد الشعوب ووقايتها وحمايتها وتربيتها، فى ممارستها السياسية والمؤسسات الاجتماعية، وخصوصاً عن طريق الأسرة والتربية وثقافة السلام.
إن ممارسة التسامح مبدأ للتعايش ولاحترام الآخر، سواء حدد كصديق أو كخصم أو غير ذلك ، فإنه يشارك مثلنا تماماً فى الحياة العامة حيث تتقابل الآراء والمبادئ عن طريق "المسافة المناسبة" التى يهيئها العقد الاجتماعي أو الميثاق الوطنى، وحسب الفيلسوف الفرنسى "ادجار موران" فإن التسامح ضرورة ديمقراطية ، لأن الديمقراطية تتغذى من صراع الأفكار ، وتندثر بصراع الأجساد .
والديمقراطية هى ذلك النظام الذى يحترم عملياً ثلاثة مبادئ أساسية:
أما المبدأ الأول فهو مبدأ "التسامح"، ويلزم الدولة بأن تضمن على أرضها حرية التعبير عن المعتقدات السياسية، والفلسفية والدينية، بشرط ألا تؤدى هذه المعتقدات إلى إشاعة الاضطراب أو الفوضى فى الساحة العامة للمجتمع.
فالتسامح Tolerance يعنى الاستعداد لاتخاذ الموقف المتسامح. وهو لا يمكن أن يعد فضيلة إلا عندما يمكن للمرء ألا يكون متسامحاً، فهو قريب من مفهوم "العفو" والصفح. فليس فى استطاعتنا أن نتحدث عن موقف متسامح فى حال شخص يضطر، وهو مضطهد وفى موقف الضعيف أن يتحمل الآخرين. لذلك فالمتسامح هو من فى موقف القوة ، سواء كان فى السلطة أو ممثلاً للأغلبية، وهكذا يرتبط التسامح بالسلطة والقوة والغلبة أساساً، وكل حـديث عن التسامح بمعنى قبول الآخرين فى اختلافهم – سواء فى الدين أم العرق أم السياسة – أو عدم منع الآخرين من أن يكونوا آخرين أو إكراههم على التخلى عن آخريتهم Otherness إنما يعنى به فى المقام الأول "التسامح" بالمعنى المتقدم .
من هنا يختلف التسامح تمام الاختلاف عن اللامبالاة أو عدم الاكتراث أو التنازل لشخص كتعبير عن الأدب، باعتبار اشتقاق الكلمة من لفظة (س.م.ح) . فمن غير المعقول أن أعيش دون معتقدات ولا أهتم بمعتقدات الآخرين ثم أدعى أننى أبدى تسامحاً إزاء أندادى فى العقيدة أو المختلفين معى .
حدود التسامح
لم يكن معظم المنادين بالتسامح مستعدين دائماً للسير بهذا المبدأ حتى نهاية الشوط ، أو فى كل الاتجاهات وعلى كافة الصعد. فـ "جون لوك" أكبر المؤيدين لمبدأ التسامح وضع مجموعة من الضوابط، من يتعداها لا يمكن التسامح معه بأى حال من الأحوال:
1- الترويج لمعتقدات وأصول تهدد بنسف المجتمع نفسه.
2- الترويج للإلحاد .
3- الأفعال التى تهدف إلى تدمير الدولة أو التعدى على أموال الآخرين.
4- الولاء للحكام الخارجيين(الخيانة)
الشئ نفسه نجده عند "فولتير" أشهر فلاسفة التنوير، فهو ضد اضطهاد الأفكار والمعتقدات ، ومن أقوى المنادين بحرية الفكر التى لا تحدها حدود ، وصاحب أشهر مقولة فى الحرية وحق الاختلاف فى الرأى، ومع ذلك فإنه جعل حدوداً للتسامح لا يتعداها عندما يتعلق الأمر بشئون "الدولة" والسياسة .. وحسب "راندال" : "فقد كان عصر التنوير مستعداً للتسامح فى أمر الاختلاف الدينى لا السياسى" برغم أنه كان أكثر العصور تقدماً من ناحية الفكر السياسى .
وهنا نستطيع أن نقف على التحول الجديد الذى طرأ على مفهوم التسامح ، إذ لم يكن أحد من دعاة التسامح الدينى مستعدا للذهاب بهذا المبدأ إلى أبعد مما تقتضيه مصلحة الدولة . وبالتالى أخذ التشريع لـ "التسامح" يخضع للمصلحة القومية منذ أن بلغت النزعة القومية فى أوربا عنفوانها
أضف إلى ذلك أن التسامح لا يعنى تقبل الظلم الاجتماعى أو تنحى المرء عن معتقداته والتهاون بشأنها، كما لا يعنى ممارسة دور الحرباء بالتلون بفكر وآخر والقفز من عقيدة إلى عقيدة أخرى، أو المواطنة الجبانة، ذلك لأن التسامح هو التعبير الأكثر كمالاً لحرية الإيمان والتفكير والتعبير، أنه تأكيد لمشاعر الضمير والإحساس .
إن الحوار العقائدى قائم بذاته ، ولا يحتاج إلا إلى استراتيجية كشف واعلان للقواسم المشتركة، والجهد، ما لم يسخر فى سبيل مزيد من المعرفة المتبادلة والاحترام والمحبة المتبادلة بغية توسيع المشروع الأخلاقى الذى يخدم بدوره مشروع السلام العالمى، أى أنه إذا لم يتحول المجتمع العالمى بأسره ساحة للحوار، يبقى الأخير رهن الشعارات العقيمة وجلسات التملق والزيف والمجاملة .
ويفهم من ذلك أن أية محاولة لضغط تنوع الأديان على سرير “بروكرست” للفهم الواحد المشترك يحرم الحوار بين الأديان من بعده الحاسم، وقد يؤدى إلى التعصب. الأمر الثانى أن الحوار منظومة شاملة لا تقتصر على الأديان فقط وإنما تمتد إلى السياسة والمجتمع بجميع فئاته وطوائفه وطبقاته وأحزابه .
[6]
لقد عكست الدراما المصرية قيم التسامح وثقافة السلام في العديد من أعمالها وإذا كان يصعب رصد مختلف الأعمال الدرامية فمن الممكن التوقف أمام الأعمال التي مثلت معالم بارزة في تناول هذه المفاهيم والقضايا.
وقد سعت الدراما المصرية لاستلهام واستدعاء الموروث الثري للتسامح والسلام في الخبرات الحضارية المختلفة التي عاشتها مصر منذ فجر الحضارة ففي مسلسل الإمام الشافعي الذي أخرجته شيرين قاسم عن سيناريو وحوار د. بهاء الدين إبراهيم وقام ببطولته إيمان البحر درويش (الأمام الشافعي) ورشوان توفيق ومنى عبد الغنى وعبد الرحمن أبو زهرة يظهر كيف كانت المعرفة قرينة التسامح وكيف اتسعت الجماعة العلمية للخلاف بين أصحاب المذاهب المختلفة وبين أبناء المذهب الواحد وكيف لم يعن التسامح قبول وجود الآخر وحسب بل احترامه والتتلمذ عليه وتقدير اجتهاداته حتى أن الأئمة كانوا يأمرون أتباعهم بمراعاة أحكام مذهب المخالفين لدى التعامل معهم وحتى في أداء العبادات معهم.
ويمثل فيلم الراحل "يوسف شاهين "المصير" عن ابن رشد علامة بارزة في هذا السياق حيث كان ابن رشد أحد رموز التسامح الفكري في الثقافة العربية بل والإنسانية، فقد كان ابن رشد يرى أن هناك حقيقة واحدة لكن دروب الوصول إليها مختلفة وتعدد الطرق التى تفضى إليها هو أساس حرية الفكر والتسامح الفكرى فالأديان والفلسفات والعلوم دروب مختلفة إلى هذه الحقيقة الواحدة. "والحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له" وهو ما يعنى احترام الآخر وقبوله كما هو. لقد طالب "ابن رشد" بالاستفادة من انجازات الفكر، بصرف النظر عما إذا كان المفكر وثنياً، أو يدين بدين آخر ، المعيار عنده هو "صحة المعرفة". والرشدى الحقيقى يمارس التسامح إلى أقصى درجة، ذلك لأن وراء كل حقيقتين متعارضتين فى الظاهر "وحدة" بين طرفيها جهل متبادل .. وحدة فى انتظار من يكتشفها من خلال الحوار.
ويروى أن "ابن رشد" أتاه خبر رجل من أهل الصلاح يشفى المرضى من الرجال والنساء بأن يجعلهم ينفقون من المال ما يساوى ثمن العضو المريض كما يقدره. وبدلاً من أن يسارع (الفقيه وقاضى قضاة قرطبة) بالتنديد بالشعوذة، قال: "هذا رجل يعتقد أن الوجود ينفعل بالجود" .. هكذا كان ابن رشد متسامحاً إلى أقصى درجة.
حاول الفيلم إظهار كيف آمن ابن رشد بضرورة الانفتاح على الآخر كمقدمة لقبوله والتحاور معه بل والتعلم عليه، وكيف واجه قوى التعصب والتطرف التي سعت لإحراق مؤلفاته ظناً منها أن بذلك تحرق أفكاره ناسية أنه كما قال مخرج الفيلم "الأفكار لها أجنحة" وأن الفكر الحر يمكن أن يجمع البشر بغض النظر عن اختلاف الثقافات عندما صور أحد الأوربيين المسيحيين يسعى لإنقاذ كتابات ابن رشد إيماناً بقيمة الإبداع الفكري.
ولم يقتصر استلهام الدراما المصرية للموروث التاريخي للتسامح على تجسيد هذه القيمة من خلال المفكرين و العلماء بل سعت لإظهار كيف كان التسامح نمط حياة وسياسة دولة حتى في أشد حالات التدافع الحضاري والعسكري كما هو الحال في الحروب الصليبية فقد خاض المصريون والعرب الحرب دفاعاً عن أوطانهم وكان أمضى أسلحتهم إيمانهم بعدالة قضيتهم وأنهم يدافعون عن ميراث أكثر من ألف عام من السلام والتعايش في هذه الأراضي المقدسة فكان موقف الأقباط من الغزاة الصليبيين امتداداً لموقف الكنيسة القبطية القومي المستقل وبلغ من شدة غيظ الصليبيين لعدم مساعدة الأقباط لهم أن أصدروا قانوناً يمنع أقباط مصر من زيارة القبر المقدس بدعوى أنهم ملحدون كما كان الصليبيون يعتقدون فيهم الهرطقة لخروجهم عن المذهب الكاثوليكي وتعترف المؤرخة مسز بوتشر بفرح الأقباط بانهزام الصليبيين فرحاً لا يوصف وهو ما تجلى في الفيلم في شخصية عيسى العوام الفدائي الذي قاتل ضمن الجيش العربي دفاعا عن الوطن.
[7]
وبقدر ما كان العرب مضطرين لخوض الحرب لرد العدوان بقدر ما حرصوا على إرساء السلام من خلال التسامح حتى مع الصليبيين المعتدين. وفي حوار مبهر على لسان شخصيات الفيلم يظهر أن هزيمة الصليبيين الحقيقية كانت مع انكشاف حقيقة دوافعهم و أطماعهم التي سعت للتستر بالدين فالدين متى كان مجرداً عن الأهواء والأطماع لا يمكن إلا أن يكون نبعاً للسلام واللاعنف.
لقد كانت الدراما المصرية انعكاساً لتنوع خيوط النسيج الاجتماعي المصري دينيا واجتماعيا وسياسيا بما في ذلك اليهود الذين استمروا ينظر إليهم باعتبارهم مصريين وحسب موقعهم الاجتماعي فمنهم الغني ومنهم الفقير وإن كان هذا لا يمنع وجود صهاينة بينهم أو حتى متجنسين بجنسيات أجنبية، ولكن في النهاية لا يتم تصنيفهم خارج الإطار الاجتماعي العام، أي لا يتم تصنيفهم في صورة نمطية خاصة بهم هذا التعامل أدى إلى أن صورة اليهودي في الدراما كالمسرح والسينما كانت هي الصورة التقليدية للموقع الاجتماعي الذي ينتمي إليه، وتجلى هذا في مسرحية "حسن ومرقص وكوهين" لنجيب الريحاني؛ فالثلاثة تجار أحدهم مسلم والثاني مسيحي والثالث يهودي، والصورة التي يعكسونها واحدة فالمقصود أن التاجر يستغل المستخدم لديه، وبالطبع تظهر صفات نفسية خاصة؛ فاليهودي كوهين أكثر دهاء أو المسيحي مرقص أكثر دراية بالأمور المالية والمسلم حسن أكثر شدة في التعامل، وكلها صفات شخصية يتم عكسها على الصورة العامة للفرد المنتمي لدين معين، المهم هو أن الموقع الاجتماعي -أي وجود الآخر اليهودي في النسيج الاجتماعي العام للبلد- كان المحدد الأساسي للصورة الذهنية وبالتالي لانعكاس هذه الصورة في الدراما.
لنأخذ مثالا آخر في فيلم "سلامة في خير" لنجيب الريحاني سنجد أن جيران سلامة منهم النصارى واليهود، فحتى "حارة اليهود" المشهورة لم تكن "جيتو أوربي" أي منطقة عزل لليهود، بل سنجد داخل الحارة مسلمين ونصارى من ذات الموقع الاجتماعي، سنجد أيضا مجموعة أفلام "شالوم" من إنتاج توجو مزراحي، وهي مجموعة أفلام كوميدية من بطولة ممثل يهودي في الثلاثينيات هو "شالوم" تحمل اسمه تقليدا لشخصية شارلي شابلين، ولكن بطريقة مصرية اعتمادا على فكرة البطل الفهلوي الصعلوك. وكان معه دائما بطل مصري مسلم هو "عبده" وتكرر هذا في أفلامه الخمسة.
صورة اليهودي تكررت أيضا في الأدوار الثانوية في أفلام عديدة، مثلا الخياطة اليهودية أو معلمة الرقص أو معلمة البيانو أو غير ذلك من مهن أي أنها كانت تعكس دائما صورة الآخر المرئي الموجود.
ربما كان أوضح مثال على هذا فيلم "فاطمة وماريكا وراشيل" 1949 حيث يلعب محمد فوزي دور "يوسف" المستهتر الذي يوقع الفتيات في غرامه مستخدما ثراءه الفاحش، ويتعرف على راشيل اليهودية فيخبرها بأن اسمه "يوسف حزقيل" ويتعرف على ماريكا اليونانية فيخبرها بأنه رومي أي يوناني، بمعنى أنه يغير جلده حسب الفتاة.
مرة أخرى الآخر موجود أمامنا وبالتالي يتم التعامل معه تعاملا حقيقيا وتنعكس صورته في الدراما بشكل حقيقي ولا يتم تحويله إلى صورة نمطية متكررة غير موجودة إلا في ذهنية القائمين بالعمل الدرامي.
وحتى عندما تطرق الدراما التلفيزيونية لمسألة هجرة بعض الشباب المصريين لإسرائيل وزواجهم بإسرائيليات، في مسلسل الفنار الذي كتبه مجدي صابر وأخرجه خالد بهجت وتولت إنتاجه مدينة الإنتاج الإعلامي فإن المسلسل استهدف توجيه الانتباه لمحاذير هذه الزيجات من إسرئيليات (وليس كيهوديات) على الأمن القومي المصري
[8] خاصة في ظل غموض النوايا الإسرائيلية بشأن السلام والخرق الصارخ له بالعدوان المتتالي على الدول العربية.
وإذا كانت المعرفة والحوار والانفتاح هما مقدمات التسامح وقبول الآخر ومن ثم السلام الاجتماعي فإن الدراما المصرية صورت الحياة الواقعية لشركاء الوطن المسلمين والأقباط وامتزاجهما في رحلة الحياة بلا تكلف ولا إدعاء ويمكن الإشارة هنا على العديد من الأعمال الدرامية من بينها مسلسل "خالتي صفية و الدير" قصة بهاء طاهر، الكاتب المصري الحساس، الرقيق، الذي كتب روايات تذكر بغناها وخيالها وقوة شخوصها من الناحية الإنسانية و الفنية، بروايات الكبير "نجيب محفوظ"
[9]، وأخرجه من إنتاج قطاع الإنتاج باتحاد الإذاعة والتليفزيون عام 1994 ف"صفية".. الفتاة القروية الجميلة ذات الستة عشر ربيعا.. التي تحيا في كنف بعض أقاربها تتطلع خفية لابن عمها –مجازا- "حربي"..( ممدوح عبد العليم) الشاب القوي الوسيم المليء بالحياة و الكرامة و الكبرياء.. لكن "حربي" لا يفطن لحب "صفية" بل يتوسط كذلك في مسألة زواجها من الباشا الغني.. ورغم أنها توافق على الزواج، بيد أنها لا تغفر أبدا ل"حربي" تجاهله لشعورها.. فتوقع بينه وبين الباشا إلى أن يقضي عليه..ويعرض المسلسل تفاصيل الحياة المشتركة بين المسلمين والمسيحيين.
كما قدم العديد من الأعمال الدرامية الشخصيات المسيحية كجزء لا ينفصم من الواقع المصري بما يتضمنه من قوى التسامح الغالب وتعصب طارئ بفعل بعض التحولات الاقتصادية الاجتماعية ففي فيلم "بحب السيما" الأسرة المسيحية لا في إطار نمطي حتى لو كان مثالياً بل كأسرة مصرية عادية لكنها تعاني الصراع بين الأب المتزمت دينياً والأم والأبناء الذين يضيقون بهذا التزمت الناجم عن تفسير شخصي للدين لا يرى ما فيه من سماحة ويسر.
بينما كتب وحيد حامد مسلسله «أوان الورد» الذي قامت الفنانة يسرا ببطولته ليكون العمل بمثابة «بلسم» يوضع على جرح الفتنة الطائفية فكان يقصد أن يثبت أن المسلمين والأقباط اسرة واحدة، ومستقبل واحد.
وكان حامد يهدف الى تلطيف الأجواء، وفتح حوار حضاري يزيل العديد من جراح الفتنة الطائفية بعد أحداث الكشح، ويخفف التوتر الذي حدث، بتشجيع من وزير الاعلام السابق صفوت الشريف بعد نجاح الفيلم التسجيلي الذي كتبه لقناة النيل للأخبار حاملا نفس الفكرة وبالفعل تناول المؤلف الفكرة وعالجها بكل حرية وجرأة، ولم تتدخل الرقابة التلفزيونية باعتراف المؤلف- في أي شيء. وأبدى العديد من الشخصيات القبطية المستنيرة إعجابها بالمسلسل مثل المفكر والكاتب د. ميلاد حنا، والصحافي سعيد سنبل ود. ليلى تكلا. ولا تنسى ان مخرج المسلسل -سمير سيف- هو قبطي متدين. على الرغم من بعض الانتقادات وهو أمر طبيعي لأن المسلسل قام على فكرة المصارحة والشفافية التي سادت «أوان الورد» أو أوان يعم التسامح والحب كما يذكر مؤلف المسلسل
[10]
فالمسلسل يدور حول فتاة مسلمة (أمل) من أم مسيحية وأب مسلم تتزوج من ضابط مسلم ويتم اختطاف ابنها انتقاماً من الأب فتتضافر جهود العم المسلم مع الخال المسيحي لاستعادة الابن.
وبالمثل يناقش مسلسل "بنت من شبرا" في إطار واقعي فترة من فترات التاريخ في حي مصري وهو حي شبرا الذي يتميز بتمازج أبناء الأديان الثلاثة الذين يعيشون به كما أنه كان معقلا للأقليات الأوروبية التي تعيش في مصر.
المسلسل الذي أخرجه جمال عبد الحميد من إنتاج شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات عام:2004 يتناول قصة "ماريا" (ليلى علوي ) القبطية التى تنتمي إلى أصول يونانية وتعيش في حي شبرا في العاصمة المصرية وتتميز بتطلعاتها الكبيرة التي زرعها فيها والدها الذي يعمل "حلاقا" في البلاط الملكي ما يدفعها إلى الخوض في الرذائل حتى تحقق تطلعاتها.
وتتتابع أحداث المسلسل حتى يصبح لماريا حفيد مسلم متطرف دينيا ينتقد سلوك ماريا الفاحش ويدفعها إلى التفكير في الدين في إطار اجتماعي مبهر خلقه مخرج العمل جمال عبد الحميد.
وكان اختيار حي شبرا لإسباغ الواقعية على القصة التي كتبها الكاتب الكبير فتحي غانم حيث يشهد هذا الحي امتزاجا قويا بين أبنائه وقد يحدث أن مسيحية تتزوج من مسلم.
[11]
إن المكاشفة والمصارحة استمرت مطمحا أساسياً للدراما المصرية لاجتثاث كل ما يهدد السلام الاجتماعي من تناقضات طبقية واجتماعية تلتقي في "عمارة يعقوبيان" التي استلهمها عباس الأسواني في روايته بهذا الاسم وعنها كانت المعالجة الدرامية السينمائية والتفزيونية التي قدمها في التلفزيون المخرج أحمد صقر من إنتاج شركة كينج توت 2007 فبطلة المسلسل (بثينة) الممثلة روجينا تدفعها البطالة إلى التغاضي عن التحرش الجنسي وأما الفساد - فيتجسد في شخصية السياسي والتاجر (الحاج عزام الذي يقوم بدوره صلاح السعدني) الذي يسعى لدخول السياسة من باب السمسرة والأموال المشبوهة للسياسة- فيدفع الفساد والمحسوبية بطل العمل (آسر ياسين) إلى الانضمام لجماعات الإرهاب المتستر بالدين فيحذر العمل من الأشكال المختلفة من العنف الذي بدأ ينخر بنية العلاقات الاجتماعية بأشكاله المادية والرمزية ليكون عملاً "يفضح العطن" ولكنه أبداً لم يفضح الوطن كما قيل.

[1]http://daccessdds.un.org/doc/UNDOC/GEN/N06/497/11/PDF/N0649711 .pdf?OpenElement
[2] نظريات التأثير الإعلامية (المفسرة لسلوك الجمهور) منتديات المنشاوي، موقع المنشاوي للدراسات والبحوث, Minshawy.com
[3] سـامح فوزي، السلام الاجتماعي في المجتمع المصري www. maatpeace.org





[4] سهير زين منصور الملتقى الدولي حول "دور المرأة في نشر ثقافة السلام" تونس : من 06 إلى 08 جانفي 2005 ورقة عمل حول : "واقع المرأة العربية في عملية نشر ثقافة السلام والحلول المقترحة". اللجنة الوطنية التونسية للتربية والعلم والثقافة (يونسكو – ألكسو – إيسيسكو) http://www.unft.org.tn/paix/pres/3.doc
[5] www.alshabab.gov.eg/pioneers/Book/cluture_peace.pdf -

[6] التسامح وقبول الآخر د.عصام عبد الله إشراف مركز ماعت للدراسات الحقوقية و الدستورية http://www.maatpeace.org/fckeditor/editor/filemanager/browser/default/connectors/aspx/userfiles/File/ Esdaratna 1.doc
[7] سميرة بحر، الأقباط في السياسة المصرية عرض وتقديم عبدالله جاد فودة Mnzoor.blogspot.com
[8] http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=105081&IssueID=1040

[9] http://boutheina.over-blog.com/article-6095772.html
[10] http://www.asharqalawsat.com/details.asp?section=24&article=18738&issueno=8062
[11] http://www.aljazeera.net/News/archive/archive?ArchiveId=97679

Wednesday, May 21, 2008

دور الشركات متعددة الجنسيات فى التنمية مع إشارة خاصة للشركات الأسيوية
رضا محمد هلال
إزاء تطور دور الشركات المتعددة الجنسيات و الانتشار المكثف لنشاطها فى مختلف دول العالم ، خاصة فى مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار المعسكر الاشتراكى وانتصار المعسكر الرأسمالى الداعم لعمل ونشاط هذه الشركات فى ظل مرحلة العولمة ، تجدد مرة أخرى الجدال الفكرى حول دور هذه الشركات فى التنمية بالدول النامية.
فعلى الرغم من قيام الشركات الأوربية والأمريكية الضخمة متعددة الجنسيات المتخصصة فى قطاع الصناعات الاستخراجية بإنشاء شركات تابعة لها فى البلاد الأجنبية ، فإن تطور عمليات وأنشطة تلك الشركات فى عقدى الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين فى دول جنوب شرق آسيا لتشمل كافة الصناعات والقطاعات الاقتصادية وظهور بعض النتائج الإيجابية لعمل ونشاط البعض من هذه الشركات على معدلات النمو الاقتصادية وتشغيل العمالة ونقل التكنولوجيا، دفع دولاً أخرى فى أوربا الشرقية – عقب انهيار المعسكر الشرقى وتفكك الاتحاد السوفيتى السابق – إلى تبنى نظام السوق الحر بجميع سياساته وأدواته ومنها: جذب الشركات متعددة الجنسيات للاستثمار فيها وتحقيق معدلات نمو مرتفعة لاقتصادها بدلا من نظام الاقتصاد الموجه الذى يرفض السماح لهذه الشركات بالاستثمار والعمل فى الدول التى تتبناه. وهو الأمر الذى حفز عدداً من الشركات متعددة الجنسيات من الدول النامية لنقل جزء من استثماراتها وأنشطتها وعمليات الإنتاج والتصنيع الخاصة بها إلى خارج حدود دولها الأم، بحيث لم تعد هناك شركة متعددة الجنسيات ذات وزن فى الدول المتقدمة والنامية لا تضع العالم كله فى إطار خططها الإنتاجية والاستثمارية بالإضافة إلى خططها للتسويق والمبيعات .
فإلى أى مدى تسهم‏ ‏الشركات‏ ‏متعددة‏ ‏الجنسيات‏ ‏فى‏ ‏التنمية‏ بالدول النامية المضيفة لهذه الشركات. ويرتبط بذلك جملة من التساؤلات حول طبيعة دور الشركات متعددة الجنسيات منها::‏
1- ‏ما‏ ‏آليات‏ ‏العـلاقة‏ ‏بين‏ ‏الشركات‏ ‏متعددة‏ ‏الجنسيات‏ ‏وبين‏ ‏إحداث‏ ‏التنمية‏ ‏فى الدول النامية‏ ‏فى‏ ‏المجالات‏ ‏المختلفة‏.
‏2- ‏قضية‏ ‏مـاهية‏ ‏الشروط‏ ‏التى‏ ‏يمكن‏ ‏فى‏ ‏إطـارها‏ ‏أن‏ ‏يتعاظم‏ ‏الـتأثير‏ ‏الايجابي‏ ‏لهذه‏ ‏الشركات‏ ‏فى‏ ‏التنمية‏ ‏فى‏ الدول النامية‏ ‏.
‏3- ما ‏السياســـات‏ ‏التى‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تتبعها‏ ‏الدول‏ ‏النامية‏ ‏لتعظيم‏ ‏الدور‏ ‏الإيجابى‏ ‏للشركات‏ ‏فى‏ ‏التنمية‏ ؟‏. ‏


أولاً مفاهيم الدراسة
مفهوم التنمية : اختلط مفهوم التنمية بمصطلحات كثيرة والتى تستخدم كمترادفات له مثل النمو و التقدم و التغريب والتحديث ، ولا شك أن هذه المصطلحات تعكس وجهة نظر مستخدمها سواء كان يجد فى النموذج الغربى هدفه، والاعتقاد بأن التنمية تعكس الخلفية التقنية فى التعريف، أو النظرة التاريخية حيث التحديث عكس التخلف حيث إن المجتمعات القديمة هى المتخلفة، وغير ذلك تكون حديثة.
ويبقى اختلاط مصطلح التنمية بمصطلح النمو مهما اتفقت آراء المفكرين على شكل نموذج التنمية المتبنى، ويجب التفرقة بين هذين المصطلحين، فالنمو يشير إلى تحقيق معدلات مرتفعة فى المتغيرات الكلية كالدخل القومى والناتج القومى والعمالة والاستهلاك والادخار وتكوين رأس المال بما يحقق الرفاهية لأفراد هذا الاقتصاد ([1]).
أما التنمية الاقتصادية فهى أسلوب التوصل لهذا النمو وتستهدف دخول الاقتصاد فى مرحلة النمو السريع المطرد مستهدفا تحقيق زيادة تراكمية دائمة فى كل من معدل الدخل القومى ومتوسط نصيب الفرد منه عبر فترة من الزمن، يرتبط فيها نمو هذا الدخل بتطورات اقتصادية وسياسية واجتماعية وتكنولوجية تساهم فى تدعيمه، وهو يساهم فى تحقيقها مع العمل على إزالة كل ما يعوق هذا الاتجاه،بالإضافة إلى توفير فرص العمل للباحثين عنها ،علاوة على نقل وتوطين التكنولوجيا فى قطاعات الاقتصاد القومى. وبناء على ذلك فإن عملية التنمية عملية شاملة متشابكة وترتبط بالبنيان الاقتصادى والاجتماعى التى تقوم بتطويره، ويمكن القول أن مفهوم التنمية يعنى انبثاق ونمو كل الإمكانيات والطاقة الكامنة فى كيان معين بشكل كامل وشامل ومتوازن سواء كان هذا الكيان هو فرد أو جماعة أو مجتمع.
بالإضافة إلى ما سبق يمكن القول أن هناك عنصرين فى أى سياسة تنموية هما:
- إزاحة المعوقات التى تحول دون إنبثاق الإمكانيات الذاتية الكامنة داخل الكيان الاقتصادى، ولا شك أن المعوق الرئيسى للتنمية هو الإستغلال بكافة صوره، سواء كان إستغلال مجتمع لآخر، أو إستغلال طبقة لطبقات أخرى، أو الحضر للريف، ويقصد بالإستغلال هنا هو سلب كيان لكيان آخر من فرصته لتنمية إمكانياته الذاتية الكامنة، ومعنى تحقيق هذا العنصر، هو تحقيق مزيد من المساواة فى فرص الحياة.
- توفير الترتيبات المؤسسية التى تساعد على نمو هذه الإمكانيات، أى توسيع فرص الحياة وذلك بالتحكم فى البيئة المادية والاجتماعية المحيطة بالإنسان بواسطة العلم والتكنولوجيا والتنظيم الاجتماعى، أى توسيع فرص الحصول على الطعام والمسكن والتعليم والعمل، أو بمعنى أكثر شمولا توسيع فرص إشباعه المادى والروحى.
نخلص مما سبق إلى أن هناك إطارا للتنمية يجب أن يكون ذاتياً ، ويعاونه فى ذلك عناصر خارجية كالاستثمارات الأجنبية ونقل التكنولوجيا لإحداث دفع للاقتصاد القومى فى وقت أقصر، وعندما يكون الاقتصاد القومى قادرا على الإستمرار فى إحداث هذه التنمية، وذلك من خلال استخدامه لطاقاته الكامنة وقدراته الذاتية، فإن هذا يتطلب إزالة معوقات التنمية وإعادة ترتيب هياكله الاقتصادية بحيث يسمح بايجاد فرص حياة أفضل، وتوسيع هذه الفرص باستخدام العلم والتكنولوجيا الوطنية.
أى أن الاستثمارات الأجنبية ونقل التكنولوجيا سيؤديان فى المدى القصير والمتوسط إلى المساعدة فى تحقيق التنمية، ثم بعد فترة وبتأصل التنمية فى الكيان الاقتصادى، واستخدام العوامل المساعدة فى أنشطة اقتصادية يؤدى كل ذلك إلى إحداث التنمية المستهدفة، وبالتدريج يمكن الاستغناء عن بعض هذه العناصر وتطويع التكنولوجيا المنقولة لخدمة البيئة واستنباط تكنولوجيا محلية ملائمة وفى سبيل ذلك يمكن الاعتماد على أكثر من نموذج إقتصادى للتنمية وانتقاء المناسب منها لظروف البيئة المحيطة. وستعتمد الأطروحة فى قياسها للتنمية على عدة مؤشرات من قبيل :
أ) رأس المال :فبالنسبة للاقتصاديات المضيفة يضيف الاستثمار الداخلى التأسيسى الذى تقوم به هذه الشركات من خلال قيامها بعمليات الشراء للشركات المحلية التى يتم خصخصتها، مما يزيد من قدرة الشركات المحلية التى نقلت ملكيتها للشركات متعددة الجنسيات على المنافسة العالمية. علاوة على ما سبق فإن الاستثمارات التى تقوم بها الشركات متعددة الجنسيات من الممكن أن تؤدى إلى تحرير عوامل الإنتاج المحلية، واستخدامها على نحو يزيد من الإنتاجية، مما يسهم فى تحسين الأداء الاقتصادى الطويل الأجل من خلال إعادة التنظيم.
ب) زيادة القدرات الابتكارية والتكنولوجية والمهارات فى الصناعات والأنشطة التى تعمل فيها هذه الشركات فى مصر . وستعتمد الدراسة فى إطار تحليلها أو اختبارها لذلك على مؤشر عملى وقابل للقياس وهو مدى ثبات أو زيادة المكون المحلى فى الصناعات التى تقوم بإنتاجها الشركات متعددة الجنسيات فى مصر.
جـ) إدخال وتطوير الممارسات التنظيمية والإدارية .
د) توفير فرص عمل جديدة فى مجالات نشاط الشركات متعددة الجنسيات.
2- تعريف الشركات متعددة الجنسيات : تضاربت الآراء حول تعريف وتسمية تلك الشركات، ولم يتوصل السياسيون ولا الاقتصاديون ولا اللغويون إلى وضع تعريف شامل ومختصر أو إسم واحد واضح يكون محل إتفاق يرضى كل الأطراف. وذلك يرجع أساسا إلى إختلاف النظرة إلى تلك الشركات التى قد تنعت بكونها متعددة الجنسيات أو عابرة للحدود القومية أو الدولية أو الوطنية ذات الأفق الدولى .. كما أطلقت عليها عدة تعريفات منها: أنها هى التى تمارس نشاطاتها فى أكثر من بلد – أنها هى التى تسيطر على عدة وحدات إنتاجية للعديد من السلع والخدمات وتسيطر على منافذ التوزيع فى كثير من البلدان. أو هى التى تستثمر مباشرة فى عدة بلدان أو هى التى يكون المساهمون فى رأسمالها وفى إدارتها ينتمون إلى عدة جنسيات، إلى آخره من التعريفات. وللربط بين كل تلك التعريفات التى هى صحيحة فى جوهرها، يمكن الإنطلاق من نقطتين هما([2]) :
1 – الحجم : وهو غير كاف بمفرده فى جعله مقياسا للشركات المتعددة الجنسيات. فمع أن أغلب تلك الشركات هى ذات أحجام عملاقة، مثل "أكسون" و"جنرال موتورز" و"فورد"، وكل شركات النفط وغيرها، فإن هناك شركات صغيرة الحجم نسبيا، إلا أنها متعددة الجنسيات.
2 – الطبيعة متعددة الجنسية لعمل تلك الشركات : بالنسبة للذين لا يعتبرونها قومية أو وطنية فإنهم يركزون على أنها تتجاوز فى عملها حدود الدولة الأم التى تنطلق منها ، سواء فيما يتعلق برأسمالها التأسيسى الذى يملكه مساهمون ينتمون إلى كثير من البلدان، أو فيما يتعلق بمسيريها الذين لهم جنسيات مختلفة، وكذلك فيما يتعلق ببنيتها التنظيمية وإستراتيجيتها وتخطيطها التى توضع على المستوى العالمى. وبذلك فإن تلك الشركات فى نظر هؤلاء أصبحت مستقلة تماما عن بلدها الأصلى، وعن البلدان المضيفة، وبالتالى فهى ليست ذات ولاء قومى وتعتبر العالم بأسره ميدانا لمختلف نشاطاتها. أما الذين يعتبرونها قومية، فإنهم يركزون على أنها شركات وطنية كبرى إضطرت إلى عبور الحدود القومية وإنشاء شركات فرعية فى عدة بلدان بسبب التطور الهائل الذى بلغه إقتصاد بلدها الأصلى من ناحية، ولخدمة ذلك الاقتصاد نفسه من ناحية أخرى، بحيث يظل ولاؤها النهائى لبلدها الأصلى.
ولتقريب مفهوم الشركات المتعددة الجنسيات وتوضيحه بشكل أقرب إلى الحقيقة يزيل التناقض الظاهرى الذى قد يبدو للقارئ فى التعريفين السابقين، رأى البعض من الباحثين ضرورة ذكر أنواع الشركات المتعددة الجنسيات وأسباب إنتشارها، فقسمها إلى عدة أنواع منها([3]) :
أ- الشركات متعددة الجنسيات "الأولية" : سميت هذه الشركات بالأولية "لأن أغلب نشاطاتها ينحصر أساسا فى القطاعات الأولية المنجمية أو الزراعية، مثل إستخراج النفط ومختلف المعادن أو الانتاج الزراعى. وهذه الشركات هى الشكل الأول والمبسط للشركات المتعددة الجنسيات، ويرجع وجودها إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر، وبعضها ما زال حتى الآن يقف على رأس أقوى الشركات متعددة الجنسيات .
ب - الشركات متعددة الجنسيات ذات الاستراتيجية التجارية : وهى الشكل السائد حاليا فى العالم، حيث أن الانتاج فى البلد المضيف بواسطة الشركات الفرعية الإنتاجية يرمى إلى تزويد الأسواق المحلية (الوطنية والإقليمية لتلك البلدان) بالسلع المشابهة للسلع التى تنتجها الشركات الأم . فقرار الاستثمار الخارجى لهذه الشركات يعتمد على طاقة الطلب الموجودة أو الكامنة فى تلك الأسواق، وهذا الشكل يعتبر أبسط شكل لتدويل الإنتاج.
جـ- الشركات متعددة الجنسيات ذات الاستراتيجية الإنتاجية : وتتميز عن سابقتها بكونها تعتمد على إنشاء وحدات إنتاجية بكل ما فى الكلمة من معنى على النطاق الدولى، وذلك بتنظيم الانتاج دوليا مثلما هو الحال مثلا بالنسبة لتنظيم إنتاج السيارات والناظمات الألكترونية والتلفزة وغيرها بين عدة شركات فرعية، يختص كل منها بصنع جزء من المنتج النهائى، وبتركيب العناصر المتكاملة التى تقدمها مختلف الوحدات الإنتاجية التابعة للشركة الأم. وفى هذه الحالة فإن غاية الإنتاج فى البلدان المضيفة ليست التسويق والمتاجرة فى تلك البلدان، وإنما تصدير الأجزاء المنتجة فيها لتركب فى البلد الأصل، أى بالقرب من الأسواق التى يتوافر فيها الطلب القوى على المنتج النهائى الذى يحظى عند ذلك بميزة "علامة الصنع" للدول المتقدمة صناعيا ، وبذلك تكون تلك الشركات قد خلقت نظاما للإنتاج تنتقل فيه المنتوجات المجزأة، وليس السلع النهائية، حسب أسعار تحددها الدوائر المختصة فى الشركة الأم وهى "أسعار التحويل" وبذلك تفلت نسبة كبيرة من التجارة الدولية من قانون السوق، لأن انتقال رؤوس المال والرجال والتقانة (التكنولوجيا)، يتم فقط بين الوحدات التابعة لنفس الشركة المتعددة الجنسيات وضمن نطاق نشاطها، فالمنتجات تعبر حدود الأمم وتساهم فى المبادلات الدولية.
د-الشركات متعددة الجنسيات ذات الاستراتيجية التكنولوجية والمالية : وهى شركات المستقبل التى ستكون لها الهيمنة خلال السنوات العشر القادمة حسب تقدير الخبراء الاقتصاديين. والفكرة الأساسية لهذه الشركات تعتمد على فرضية أن الشركات المتعددة الجنسيات ستخرج شيئا فشيئا من بوتقة الإنتاج بسبب أن الدول المتقدمة صناعيا ستركز خططها فى المستقبل على قطاع الخدمات والفروع التى تتطلب رصيدا عاليا من العلم والتقنية المتطورة جدا، لأن الدول المضيفة التى هى فى غالبيتها العظمى دول نامية ستعمل تدريجيا على السيطرة قوميا على عملية الإنتاج الصناعى. لذا فإن تلك الشركات ستتحول إلى مؤسسات لبيع المهارة والخبرة التقنية (Know-how) وبراءات الاختراع والتسيير الإدارى. كما أن نشاطات ما يسمى بـ "الشركات الهندسية الاستشارية" (Ingenierie-conseil) ستتطور بشكل أسرع من النشاطات الصناعية، وكما أن تمويل الاستثمارات الصناعية فى الخارج خاصة باليورو الأوروبى ستقوى المكانة المالية للشركات المتعددة الجنسيات وعلاقاتها بالقطاع المصرفى، وستخصص تلك التجمعات فى تقديم الخدمات والإشراف غير المباشر على العمليات الإنتاجية الدولية، خاصة فى الدول النامية، بواسطة تقديم التمويلات والتقانة (التكنولوجيا) طبعا غير المتطورة، من خلال الأسواق المالية والنقدية الدولية التى لا تستطيع الدول مراقبتها إلا فى حدود ضيقة.
أما توجندات Tu gendhat فيعرفها بأنها ( الشركات الصناعية التى تنتج وتبيع منتجاتها فى أكثر من دولة واحدة ) ([4]).
وهذا التعريف معيب لأنه يحصر صفة " تعدد الجنسيات " على الشركات الصناعية. فهناك عديد من الشركات الضخمة التى تقوم بالاستثمار فى مجال الخدمات: السياحة والمؤسسات المالية والإعلان والتسويق والنقل البحرى والجوى ، وفى مجال المرافق العامة ، السكك الحديدية مثلاً وفى مجال الزراعة واستغلال الغابات ، وفى مجالات عديدة أخرى غير صناعية وينبغى أن أى تعريف كامل هذا النشاطات الاقتصادية. ويستخدم جون دننج مصطلح مشروع enterprise ليعرف الشركات متعددة الجنسيات بأنها " مشروع يملك أو يسيطر على تسيهلات إنتاجية ( مصانع ، منشآت تعدين ، مكاتب تسويق وإعلان ...وغيرها فى أكثر من دولة ([5]). ويرى كلاوذند ايجاز التعريف إلى أى شركة تستمد قسما هاماً من استثماراتها ومواردها وسوقها وقوة العمل بها خارج البلد الذى يوجد فيه مركزها الرئيسى([6]) وهنا يتسع التعريف ليشمل كافة الشركات العاملة فى القطاعات الاقتصادية المختلفة من إنتاج السلع والخدمات فى الخارج .
ويستخدم روبرت جيلبن مصطلع المؤسسة متعددة الجنسيات ليعنى به أى مؤسسة أعمال تمتد فيها الملكية والإدارة والإنتاج والتسويق إلى تشريعات وطنية عديدة ([7]) . وسوف نرى بعد ذلك ما يكتنف هذا التعريف من غموض .
ويلجأ بعض الكتاب إلى تقييد التعريف بحدود كمية ، بحيث يلزم أن يكون للشركة الأصلية التى تقوم بالاستثمار فى الخارج حد أدنى من الضخامة. ويرى ريمون فرنون أن الشركة متعددة الجنسيات هى " شركة أم تسيطر على تجمع كبير من المؤسسات فى قوميات عديدة ، وهى المؤسسة التى تجعل كل تجمع يبدو كما لو أن له مدخلاً لمصب مشترك من الموارد المالية والبشرية ، ويبدو حساساً لعناصر استراتيجية مشتركة ، كذلك فللحجم أيضاً أهميته ، فتجمع من هذا النوع بأقل من 100 مليون دولار من المبيعات قليلاً ما يستحق الانتباه ، وفوق ذلك فطبيعة نشاطاتها كمجموعة خارج بلادها الأم ذات أهمية فالمصدرين فقط حتى ذوى مراكز البيع حسنة التجهيز فى الخارج ضئيل الأهمية ، وأخيرا فالشركات المذكورة يجب أن يكون لها قدر معين من الانتشار الجغرافى فالشركات صاحبة الشركات التابعة فى بلد واحد أو بلدين فقط خارج موطنها الأم لا توجد غالباً فى قائمة المشروعات متعددة الجنسية " ([8]) .
وعلى الرغم مما يحمله هذا التعريف من دلالة على ضخامة أغلب الشركات متعددة الجنسيات فهو يقتصر على وصف واحد من أنماطها فقط ، فإذا ما اتفق على وجوب أن يكون جزء من الأصول الرأسمالية للشركة الأم فى الخارج فلا ينبغى أن نستبعد عددا هائلا من الشركات بسبب صغر حجمها نسبيا .
و يبدى بهرمان تشدداً أقل فى الحجم واهتماما أوفر بتكييف الحدود الكمية يعرف الشركة متعددة الجنسية بأنها تلك ذات المحتوى الأجنبى 25% أو يزيد ، والمحتوى الأجنبى هو نسبة من المبيعات أو الاستثمار أو الأنتاج أو التشغيل فى الخارج ، غير أن ذلك لا يكفى . فالمشروع متعدد الجنسيات لا يعمل كتراكم من الشركات المحلية تدار بطريقة مفككة بواسطة أصحاب الأسهم ، بل كمشروع واحد منضبط بصرامة يتوطن فى أسواق بينها الحدود الوطنية وتعمل فى ظل حكومات وطنية عديدة ([9]) .
ونتيجة لذلك فقد لجأت أمانة المجلس الاقتصادى الاجتماعى التابع للأمم المتحدة عند وضع تقريرها الذى فوضها به السكرتير العام ، إلى التمييز بين تعريف ضيق ، وأخر واسع .
فبالمعنى الواسع يمكن وصف " المؤسسة " متعددة الجنسيات بأنها أى مؤسسة ذات فرع أو شركة منتسبة أو شركة تابعة أجنبية واحدة أو أكثر وتنخرط فى الاستثمار فى أصول إنتاجية أو مبيعات أو إنتاج أو تشغيل الفروع والتسهيلات الأجنبية ، وهذا التعريف يتخلص من قيود الحجم والتضييق فى مضمون النشاط ومدى المحتوى الأجنبى ليشمل بذلك كافة المشروعات التى تستثمر مباشرة خارج بلادها الأصلية ( أى البلاد التى يوجد بها المركز الرئيسى للشركة الأم ).
أما التعريف الضيق فيتجه إلى استيفاء شروط معينة لأحكام التعريف مثل نمط النشاط ، فهى شركات إنتاجية ، أو حد أدنى من الشركات ـ المنتسبة affiliates وليكن 6 شركات أو حد أدنى من المساهمة الأجنبية فى النشاط وليكن 25% من إجمالى الأصول أو المبيعات أو العمالة ([10]) .
والواقع أن ما هو جوهرى فى مهمة التعريف هو تحديد مدلول صفة " تعدد الجنسية " التى تتمتع بها تلك الشركات والتى تنصرف من وجهة نظرنا إلى أن هذه الشركات قد تخلصت من بعدها القومى واكتسبت جنسيات عديدة بقدر ما تمتلك وتسيطر على المشروعات والشركات فى بلاد العالم . وستتبنى الدراسة التعريف الواسع لهذه الشركات والذي قدمه المجلس الاقتصادى والأجتماعى والذي يمكننا من تحليل وتقييم دور الشركات الآسيوية متعددة الجنسيات بكافة صورها وأشكالها سواء كانت فروعا مملوكة بالكامل للشركة الأم أو شركات مساهمة بين الشركة الأم متعددة الجنسيات ومستثمرين وشركات محلية أو توكيلات تجارية لإحدى الشركات المحلية من خلال استخدام العلامة التجارية للشركة متعددة الجنسيات نظير مقابل مالى محدد تؤديه الشركات المحلية للشركات متعددة الجنسيات.
تتوقف علاقة التأثير بين المتغيرين المستقل والتابع على عدد من المتغيرات الوسيطة التى تنبع مما يأتى:
1- البيئة الداخلية لعملية جذب الشركات متعددة الجنسيات للاستثمار فى الدول النامية : يرتبط‏ ‏القرار‏ ‏الذي‏ ‏تتخذه‏ ‏الشركات‏ ‏متعددة‏ ‏الجنسيات‏ ‏لتفضيل‏ ‏الاستثمار‏ ‏فى‏ ‏دولة‏ ‏عن‏ ‏غيرها‏ ‏من‏ ‏الدول‏ ‏بعدة‏ ‏عوامل‏ ‏تشكل‏ ‏أسس‏ ‏السياسات‏ ‏التي‏ ‏تتبعها‏ ‏هذه‏ ‏الدولة‏ ‏لجذب‏ ‏الاستثمارات‏ ‏الأجنبية‏ , ‏ومن‏ ‏أبرز‏ ‏هذه‏ ‏العوامل‏ ‏ما‏ ‏يلى‏ :‏
‏أ- ‏توافر‏ ‏مناخ‏ ‏الاستثمار‏ ‏الجيد‏ Investment climate , ‏والذى‏ ‏يعرفه‏ ‏البعض‏ ([11]) ‏بأن‏ ‏مجمل‏ ‏الأوضـاع‏ ‏السياسية‏ ‏والاقتصاديــة‏ ‏والإدارية‏ ‏والقانونية‏ ‏التي‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تؤثر‏ ‏علي‏ ‏فرص‏ ‏نجاح‏ ‏مشروع‏ ‏استثمـارى‏ ‏فى‏ ‏بلد‏ ‏معين‏ . ‏بينما‏ ‏يذهب‏ ‏البعض‏ ‏إلى‏ ‏تعريفه‏ ‏بأنه‏ ‏درجة‏ ‏الثقة‏ ‏فى‏ ‏سياسات‏ ‏الدولة‏ ‏تجاه‏ ‏الاستثمار‏ , ‏وارتباط‏ ‏ذلك‏ ‏بالتشريعات‏ ‏السارية‏ ‏والممارسات‏ ‏العملية‏ , ‏والظروف‏ ‏الداخلية‏ ‏والدولية‏ , ‏التي‏ ‏تؤثر‏ ‏فى‏ ‏النشاط‏ ‏الاستثمارى‏ , ‏وتتأثر‏ ‏بها‏ ([12]) .‏
وتهتم‏ ‏الشركات‏ ‏متعددة‏ ‏الجنسيات‏ ‏عند‏ ‏دراسة‏ ‏مناخ‏ ‏الاستثمار‏ ‏لدولة‏ ‏معينة‏ ‏بعدد‏ ‏من‏ ‏العناصر‏ , ‏لعل‏ ‏من‏ ‏أبرزها‏ : ‏نوع‏ ‏النظام‏ ‏السياسي‏ ‏للدولة‏ فكلما كان النظام السياسى للدولة مستقرا ولا يعانى من حدوث مشكلات داخلية أو نزاعات مسلحة أو حروب محلية أو نزاعات طائفية أو دينية كلما زاد توجه الشركات للاستثمار فى هذه الدولة , ‏وطبيعة‏ ‏النظام‏ ‏الاقتصادى‏ حيث تشير التوجهات العامة للشركات متعددة الجنسيات إلى تفضيلها الاستثمار فى الدول التى تتبنى نظام اقتصاد السوق الحر وسياسة فتح الأسواق أمام الاستثمار الأجنبى بدون قيود , ‏وتيسير الإجراءات‏ ‏الإدارية‏ الخاصة بعمل ونشاط الشركات حيث يتأثر حجم استثمارات الشركات متعددة الجنسيات فى الدول النامية بعدد الإجراءات الإدارية التى تقوم الشركات عند تأسيسها لنشاطها فى الدول النامية فكلما قل عدد هذه الإجراءات وقل عدد الساعات والأيام الخاصة بإنهائها كلما زاد توجه الشركات للاستثمار فى هذه الدولة .‏
‏ب- ‏توفير‏ ‏ضمانات‏ ‏الاستثمار‏ , ‏تواجه‏ ‏الشركات‏ ‏متعددة‏ ‏الجنسيات‏ ‏وهي‏ ‏تزاول‏ ‏نشاطها‏ ‏نوعين‏ ‏من‏ ‏المخاطر‏ , ‏هما‏ : ‏المخاطر‏ ‏التجارية‏ ‏وهي‏ ‏التي‏ ‏تنشأ‏ ‏عن‏ ‏نشاط‏ ‏المشروع‏ ‏وتعرضه‏ ‏لعدة‏ ‏تقلبات‏ ‏تتعلق‏ ‏بإدارته‏ ‏أو‏ ‏بظروف‏ ‏السوق‏ ‏واحتياجات‏ ‏المشروع‏ ‏من‏ ‏التمويل‏ ‏الطويل‏ ‏والمتوسط‏ ‏والقصير‏ ‏الأجل‏ , ‏وتعمل‏ ‏الشركات‏ ‏حسابها‏ ‏عليها‏ ‏عند‏ ‏اتخاذها‏ ‏القرار‏ ‏الاستثماري‏ , ‏وتبذل‏ ‏قصاري‏ ‏جهدها‏ ‏لتوفيرها‏ , ‏وتتحمل‏ ‏مسئولية‏ ‏حدوثها‏ , ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏لا‏ ‏تسأل‏ ‏الدولة‏ ‏التي‏ ‏تعمل‏ ‏فيها‏ ‏الشركات‏ ‏متعددة‏ ‏الجنسيات‏ ‏عن‏ ‏المخاطر‏ ‏التجارية‏ ‏التي‏ ‏يتعرض‏ ‏لها‏ ‏المشروع‏ . ‏أما‏ ‏النوع‏ ‏الثاني‏ ‏من‏ ‏المخاطر‏ , ‏فهو‏ ‏المخاطر‏ ‏غير‏ ‏التجارية‏ ‏ويقصد‏ ‏بها‏ ‏تلك‏ ‏المخاطر‏ ‏التي‏ ‏تنتج‏ ‏عادة‏ ‏عن‏ ‏الإجراءات‏ ‏التي‏ ‏تتخذها‏ ‏الدولة‏ ‏وتتصل‏ ‏بالأوضاع‏ ‏السياسية‏ ‏والاقتصادية‏ ‏والأمنية‏ ‏العامة‏ , ‏وتخرج‏ ‏هذه‏ ‏الإجراءات‏ ‏بطبيعتها‏ ‏عن‏ ‏إرادة‏ ‏الشركات‏ ‏متعددة‏ ‏الجنسيات‏ , ‏ولا‏ ‏تستطيع‏ ‏فى‏ ‏الظروف‏ ‏العادية‏ ‏التأثير‏ ‏عليها‏ ‏أو‏ ‏تجنب‏ ‏آثارها‏ ‏وانعكاساتها‏ ‏علي‏ ‏مشروعاتها‏ ‏الاستثمارية‏, ‏ومن‏ ‏أهم‏ ‏صورها‏: ‏مخاطر‏ ‏التأميم‏ ‏والمصادرة‏ ‏والحرب‏ ‏والاضطرابات‏ ‏العامة‏، ‏وخطر‏ ‏عدم‏ ‏التمكن‏ ‏من‏ ‏تحويل‏ ‏رأس‏ ‏المال‏ ‏والأرباح‏ ‏من‏ ‏الدولة‏ ‏التي‏ ‏تستثمر‏ ‏فيها‏ ‏إلى‏ ‏الخارج‏ ‏بعملة‏ ‏قابلة‏ ‏التحويل([13]). ‏وإذا‏ ‏استطاعت‏ ‏الدولة‏ ‏أن‏ ‏تضمن‏ ‏للمستثمر‏ ‏الأجنبي‏ ‏عامة‏ ‏أو‏ ‏الشركات‏ ‏متعددة‏ ‏الجنسيات‏ ‏خاصة‏ ‏حمايته‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏المخاطر‏ ‏فيما‏ ‏لو‏ ‏تحققت‏ ‏لكان‏ ‏ذلك‏ ‏دافعا‏ ‏لأن‏ ‏يتخذ‏ ‏قراره‏ ‏بالاستثمار‏ ‏فى‏ ‏هذه‏ ‏الدولة‏ .‏
ويمكن‏ ‏أن‏ ‏ينص‏ ‏علي‏ ‏هذه‏ ‏الضمانات‏ ‏فى‏ ‏القوانين‏ ‏الداخلية‏ ‏التي‏ ‏تصدرها‏ ‏الدولة‏ ‏بإرادتها‏ ‏المنفردة‏ ‏أو‏ ‏فى‏ ‏العقود‏ ‏والاتفاقيات‏ ‏الثنائية‏ ‏التي‏ ‏تبرمها‏ ‏الدولة‏ ‏مع‏ ‏مشروع‏ ‏استثماري‏ ‏أو‏ ‏دولة‏ ‏معينة‏ . ‏ومن‏ ‏أهم‏ ‏هذه‏ ‏الاتفاقيات‏ ‏فى‏ ‏هذا‏ ‏الصدد‏ ‏ما‏ ‏يعرف‏ ‏باتفاقيات‏ ‏تشجيع‏ ‏وحماية‏ ‏الاستثمارات‏ ‏التي‏ ‏تتضمن‏ ‏عددا‏ ‏من‏ ‏النصوص‏ ‏التي‏ ‏توفر‏ ‏سبل‏ ‏الحماية‏ ‏للمستثمر‏ ‏الأجنبى‏ .‏
‏جـ- ‏تقديم‏ ‏حوافز‏ ‏للاستثمار‏ ; ‏تتنوع‏ ‏الحوافز‏ ‏التي‏ ‏تمنحها‏ ‏التشريعات‏ ‏المقارنة‏ ‏لحفز‏ ‏الشركات متعددة الجنسيات‏ ‏للعمل‏ ‏فى‏ ‏الدولة‏ ‏وفق‏ ‏التوجهات‏ ‏والقواعد‏ ‏التي‏ ‏تضعها‏ ‏هذه‏ ‏التشريعات‏, ‏ومن‏ ‏أهم‏ ‏صور‏ ‏هذه‏ ‏الحوافز‏ : ‏الحوافز‏ ‏الضريبية‏ , ‏وغيرها‏ ‏من‏ ‏الصور‏ ‏المالية‏ ‏التي‏ ‏تتمثل‏ ‏فى‏ ‏تقديم‏ ‏الدعم‏ ‏المالية‏ ‏أو‏ ‏منحها‏ ‏الحق‏ ‏فى‏ ‏تحويل‏ ‏الأرباح‏ ‏أو‏ ‏رد‏ ‏رأس‏ ‏المال‏ , ‏وغيرها‏ ‏مما‏ ‏يضمن‏ ‏للمستثمر‏ ‏تحقيق‏ ‏عائد‏ ‏أو‏ ‏ربح‏ ‏مجز‏ ‏لمزاولة‏ ‏النشاط‏ , ‏دون‏ ‏المساس‏ ‏بهذا‏ ‏العائد‏ ‏أو‏ ‏أصل‏ ‏رأس‏ ‏المال‏ ‏المستثمر‏ .‏
2- البيئة الدولية ، والتى تشمل: الإطار القانونى الدولى المنظم لنشاط الشركات متعددة الجنسيات فى دول العالم ومنها مصر، حيث كانت‏ ‏إجراءات‏ ‏الاستثمار‏ ‏المتعلقة‏ ‏بالتجارة‏ ‏محل‏ ‏شد‏ ‏وجذب‏ ‏فى‏ ‏جولة‏ ‏أوروجواي‏ , ‏فقد‏ ‏قدم‏ ‏مشروع‏ ‏لإطار‏ ‏عام‏ ‏يحكم‏ ‏هذه‏ ‏الإجراءات‏ ‏تحفظت‏ ‏عليه‏ ‏الدول‏ ‏المتقدمة‏ ‏باعتباره‏ ‏غير‏ ‏كاف‏ ‏لحماية‏ ‏المستثمر‏ ‏الأجنبي‏ ‏الذي‏ ‏غالبا‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏أحد‏ ‏مواطنيها‏ . ‏كما‏ ‏تحفظت‏ ‏عليه‏ ‏الكثير‏ ‏من‏ ‏الدول‏ ‏النامية‏ ‏باعتبار‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الإطار‏ ‏يمس‏ ‏سيادتها‏ ‏الوطنية‏ ‏ويغل‏ ‏يدها‏ ‏فى‏ ‏رسم‏ ‏سياستها‏ ‏الاقتصادية‏ ‏وفقا‏ ‏لمصالحها‏ . ‏ولكن‏ ‏وجهة‏ ‏نظر‏ ‏مقدمي‏ ‏المشروع‏ ‏كانت‏ ‏تتلخص‏ ‏فى‏ ‏أن‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏الإجراءات‏ ‏الخاصة‏ ‏بالاستثمار‏ ‏تؤدي‏ ‏إلى‏ ‏تشويه‏ ‏التجارة‏ , ‏وبالتالى‏ ‏كانوا‏ ‏يستهدفون‏ ‏عدم‏ ‏الأخذ‏ ‏بالإجراءات‏ ‏التى‏ ‏من‏ ‏شأنها‏ ‏الحد‏ ‏من‏ ‏حرية‏ ‏التجارة‏ ‏أو‏ ‏التناقض‏ ‏مع‏ ‏مبدأ‏ ‏تعميم‏ ‏المعاملة‏ ‏الوطنية‏، ‏أو‏ ‏قد‏ ‏تؤدى‏ ‏إلى‏ ‏وضع‏ ‏قيود‏ ‏كمية‏ ‏تتعارض‏ ‏ومباديء‏ ‏الاتفاقية‏ ‏العامة‏ ‏للتعريفة‏ ‏والتجارة‏ ([14]) . ‏ولضمان‏ ‏ذلك‏ ‏تم‏ ‏وضع‏ ‏قوائم‏ ‏إيضاحية‏ ‏مرفقة‏ ‏بالاتفاق‏ ‏تتضمن‏ ‏إجراءات‏ ‏الاستثمار‏ ‏المتعلقة‏ ‏بالتجارة‏ ‏والتي‏ ‏تتسق‏ ‏مع‏ ‏مواد‏ ‏الاتفاقية‏ ‏العامة‏ ‏للتعريفة‏ ‏والتجارة‏ ‏والتي‏ ‏يجب‏ ‏إلغاؤها‏ ‏فى‏ ‏غضون‏ ‏سنتين‏ ‏بالنسبة‏ ‏للدول‏ ‏المتقدمة‏ ، ‏وخمس‏ ‏سنوات‏ ‏بالنسبة‏ ‏للدول‏ ‏النامية‏ , ‏وسبع‏ ‏سنوات‏ ‏بالنسبة‏ ‏للدول‏ ‏الأقل‏ ‏نموا‏ , ‏مع‏ ‏إنشاء‏ ‏لجنة‏ ‏تتولي‏ ‏هذه‏ ‏المهمة‏ , ‏وأهم‏ ‏الحالات‏ ‏التي‏ ‏تتعرض‏ ‏لها‏ ‏هذه‏ ‏الاتفاقية‏ ‏حالتان‏ :‏
أ- ‏إن‏ ‏بعض‏ ‏الدول‏ ‏المضيفة‏ ‏للاستثمار‏ ‏الأجنبي‏ ‏تشترط‏ ‏أن‏ ‏يستخدم‏ ‏مالا‏ ‏يقل‏ ‏عن‏ ‏نسبة‏ ‏معينة‏ ‏من‏ ‏المكون‏ ‏المحلي‏ ‏كمادة‏ ‏خام‏ ‏لإنتاج‏ ‏سلعته‏ ‏للحصول‏ ‏علي‏ ‏مزايا‏ ‏ضريبية‏ ‏أو‏ ‏جمركية‏ .‏
ب- ‏إن‏ ‏الدول‏ ‏المضيفة‏ ‏تشترط‏ ‏علي‏ ‏المستثمر‏ ‏الأجنبي‏ ‏حد‏ ‏أدني‏ ( ‏سواء‏ ‏قيمة‏ ‏أو‏ ‏كمية‏ ‏أو‏ ‏نسبة‏ ‏مئوية‏) ‏من‏ ‏إنتاجه‏ ‏للتصدير‏ ‏حتي‏ ‏يستطيع‏ ‏الاستفادة‏ ‏من‏ ‏مزايا‏ ‏معينة‏ ‏فى‏ ‏قانون‏ ‏الاستثمار‏.‏
ولاشك‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الإجراءات‏ ‏قد‏ ‏ارتبطت‏ ‏بسياسات‏ ‏استثمارية‏ ‏فى‏ ‏فترات‏ ‏معينة‏ ‏لرأب‏ ‏العجز‏ ‏فى‏ ‏الميزان‏ ‏التجاري‏ ‏أو‏ ‏إعطاء‏ ‏مزايا‏ ‏تنافسية‏ ‏للمشروعات‏ ‏المقامة‏ ‏علي‏ ‏أراضي‏ ‏الدول‏ ‏النامية‏. ‏ولا‏ ‏يخفى‏ ‏أن‏ ‏الغاءها‏ ‏يفتح‏ ‏الأسواق‏ ‏الوطنية‏ ‏علي‏ ‏مصراعيهــا‏ ‏للاستثمـــارات‏ ‏الأجنبيــــة‏ ‏بجوانبهـــا‏ ‏الايجابية‏ ‏والسلبية‏ , ‏ويمثل‏ ‏تدخلا‏ ‏فى‏ ‏السياســــات‏ ‏الوطنية‏. ‏ولكن‏ ‏يخفف‏ ‏من‏ ‏وطأة‏ ‏الأمر‏ ‏الفترة‏ ‏الانتقالية‏ ‏المعطاة‏ ‏لهذه‏ ‏الدول‏ ‏النامية‏ ‏لتحرير إجراءات‏ ‏الاستثمار‏ ‏من‏ ‏القيــــود‏ ، ‏بحيــــث‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تدخل‏ ‏حلبة‏ ‏المنافسة‏ ‏الدولية‏ ‏بعد‏ ‏اكتمال‏ ‏مقومات‏ ‏السوق‏ ‏المفتوحة‏ .‏
علاوة على طبيعة ومستوى العلاقات السياسية والاقتصادية التى تربط بين دول الشركات متعددة الجنسيات والدول المضيفة لهذه الشركات ومنها مصر ، فكلما توثقت هذه العلاقات وازدادت التفاعلات بين هذه الدول كلما كان ذلك دافعا للشركات متعددة الجنسيات لضخ استثماراتها لهذه الدول .بالإضافة إلى ارتباط الدول المضيفة بشبكات من العلاقات والتحالفات السياسية والاقتصادية الدولية والإقليمية التى تمكن الشركات التابعة فى هذه الدول من النفاذ بصادراتها لهذه الدول .
3- آليات إدارة الشركات متعددة الجنسيات لنشاطها فى الدول النامية: إن دور الشركات متعددة الجنسيات فى التنمية يتأثر بطرق وأساليب هذه الشركات فى إدارة مشروعاتها وأنشطتها فى الدول النامية ، والتى تشمل : نظم تشغيل وتوظيف العمالة ، وطرق ومجالات نشاط عمل هذه الشركات والضوابط الحاكمة لذلك من استخدام نسب معينة من المكونات المحلية ، وسياسات تطوير المنتج وتوسيع نشاط عمل هذه الشركات ، وسياسات الإنتاج والتسويق لمنتجاتها سواء المحلية أو الخارجية وتفاعلات علاقاتها بأجهزة الدولة أثناء عمليات التشغيل والإنتاج .
4- نتائج وآثار نشاط الشركات متعددة الجنسيات فى الدول النامية : يتأثر نشاط الشركات فى الدول النامية بقيامها بعد فترة من عملها فى الدول النامية بتقييم أدائها ونشاطها الاستثمارى فى هذه الدول والذي يشتمل على مجموعة من المردودات والآثار الإيجابية أو السلبية لنشاط وعمل هذه الشركات فى التنمية.

ثانيا : عرض نقدى للدراســات‏ ‏السابقة‏ :‏
يعد‏ ‏موضوع‏ ‏الشركات‏ ‏متعددة‏ ‏الجنسيات‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏الموضوعات‏ ‏التى‏ تزايد الاهتمام بطرحها وتناولها‏ ‏على‏ ‏الساحة‏ ‏الفكرية‏ ‏السياسية‏ ‏والاقتصادية ‏بعد‏ ‏انهيار‏‏الاتحاد‏ ‏السوفيتى‏ ‏فى‏ ‏عام‏ 1991, ‏وبزوغ‏ ‏وانتشــار‏ ‏ظاهرة‏ ‏العولمة‏. ‏لذا‏ ‏فقد‏ ‏حفل‏ ‏هذا‏ ‏الموضوع‏ ‏بالعديد‏ ‏من‏ ‏الكتابات‏ ‏سواء‏ ‏باللغة‏ ‏العربية‏ ‏أو‏ ‏الأجنبية‏،‏وهى‏ ‏تلك‏ ‏الدراسات‏ ‏التى‏ ‏تناولت‏ ‏الشركات‏ ‏متعددة‏ ‏الجنسيات‏ ‏بشكل‏ ‏عام‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏تعريفها‏ ‏للمفهوم‏ ‏وكيفية‏ ‏دراسة‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ، ‏بالإضافة‏ ‏إلى‏ ‏قيام‏ ‏بعضها‏ ‏بتقديم‏ ‏تصور‏ ‏لدور‏ ‏هذه‏ ‏الشركات‏ ‏فى‏ ‏التنمية‏ ‏سواء‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏الدور‏ ‏إيجابيا‏ ‏بمعني‏ ‏أنها‏ ‏تسهم‏ ‏مع‏ ‏بقية‏ ‏المتغيرات‏ - ‏التى‏ ‏تضم‏ ‏الدولة‏ ‏أو‏ ‏القطاع‏ ‏الخاص‏ ‏والموارد‏ ‏الخارجية‏ ‏لتمويل‏ ‏الاقتصاد‏ ‏من‏ ‏صندوق‏ ‏نقد‏ ‏وبنك‏ ‏دولي‏ .. ‏وغيرها‏ - ‏فى‏ ‏تحقيق‏ ‏التنمية‏ ‏المستدامة‏ ‏فى‏ ‏الدول‏ ‏النامية‏ , ‏أو‏ ‏سواء‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏الدور‏ ‏سلبيا‏ ‏بمعني‏ ‏أنها‏ ‏عنصر‏ ‏استنزاف‏ ‏واستغلال‏ ‏لموارد‏ ‏الدولة‏ ‏الطبيعية‏ ( ‏مواد‏ ‏خام‏ ‏وبترول‏ ) ‏أو‏ ‏البشرية‏ ( ‏أيدى ‏عاملة‏ ‏رخيصة‏ ) ‏أو‏ ‏المالية‏ ( ‏قروض‏ ‏بفائدة‏ ‏مخفضة‏) . ‏علاوة‏ ‏على‏ ‏دراسة‏ ‏بعضها‏ ‏لدور‏ ‏الدولة‏ ‏ودور‏ ‏هذه‏ ‏الشركات‏ ‏فى‏ ‏التنمية‏ , ‏وهل‏ ‏هناك‏ ‏تعارض‏ ‏أم‏ ‏تكامل‏ ‏بينها‏ ‏؟‏ ‏وفيما‏ ‏يلي‏ ‏عرض‏ ‏لبعض‏ ‏هذه‏ ‏الدراسات‏ وفقا للنظريات والاقترابات التى تنطلق منها فى تفسير سلوك الشركات متعددة الجنسيات فى تدويل أنشطتها ودورها فى التنمية:

أ- النظريات الاقتصادية : تضم قائمة هذه النظريات عددا من الاقترابات والأفكار والرؤى التى طرحها أو أسهم بها بعض الأكاديميين والمتخصصين فى الدراسات الاقتصادية عامة ودراسات الاقتصاد السياسى بصفة خاصة لتفسير السلوك الخاص لهذه الشركات عامة ودورها فى التنمية على وجه الخصوص. ومن أبرز هذه الإقترابات :
1) نظرية التبادل الدولى: اعتنقت غالبية الكتابات حتى وقت قريب جدا (بل وما يزال الكثيرون من أنصار هذه النظرية) وجهة النظر التقليدية التى ترى أن تدفقات استثمارات الشركات متعددة الجنسيات دوليا وإقامة فروع خارجية لها، تخضع لنفس القواعد العامة التى تحكم تدفقات التجارة الخارجية والتحركات الدولية لرؤوس الأموال. وبمزيد من الإيضاح، يرى أنصار النظرية أن تدفق استثمارات الشركات متعددة الجنسيات ما هى إلا صورة من تدفقات رأس المال دوليا تتم إستجابة للفروق فى عناصر النفقة والوفرة والإنتاجية الحدية لرأس المال، بمعنى اإتجاه الاستثمارات المباشرة من البلاد التى تتسم بوفرة رأس المال إلى أخرى تتسم بندرته النسبية حيث (من زاوية الأصول النظرية الاقتصادية) تكون الإنتاجية الحدية لرأس المال أعلى فى الدول الأخيرة عنها فى الدول الأولى. فالشركات متعددة الجنسيات بمثابة "مراجع مالى" يصدر قراراته فى هدى مبادئ المزايا والنفقات النسبية والقواعد المستقرة لتحركات رأس المال الدولى([15]).
وفى مجال دور الشركات متعددة الجنسيات فى التنمية ، يرى أنصار هذه النظرية أن للشركات دوراً فى تنمية الدول المضيفة من خلال تقليل حجم مشكلة الفقر بهذه الدول وذلك من خلال قيام الشركات متعددة الجنسيات بربط اقتصاديات الدول النامية التى تعمل فيها بأسواق المال العالمية ،مما يمكن هذه الدول من الحصول على التمويل اللازم لعملية التنمية بها ،بالإضافة إلى حصولها على النظم والأساليب التكنولوجية المتطورة فى عمليات الإنتاج والتصنيع، علاوة على تحسين دخول الأفراد ومستوى معيشتهم. ويطالب أنصار هذا الرأى الدول النامية بالوفاء ببعض مطالب الشركات متعددة الجنسيات لتقليل المخاطر التى تتعرض لها الشركات عند الاستثمار فى الدول النامية ومنها :إزالة المعوقات الإدارية والمالية أمام الاستثمار ، وتراجع الدولة عن تنظيم وإدارة بعض الأنشطة المرتبطة بقطاع الخدمات لصالح الشركات ، والسماح للشركات بالدخول كطرف فاعل ومؤثر فى تمويل المنظمات والهيئات الدولية المعنية بتنمية الدول النامية مثل :البنك الدولى وصندوق النقد الدولى والبرنامج الانمائى للأمم المتحدة ، وتأسيس مؤسسة أو منظمة جديدة تسمى " الشركة العالمية للتنمية The World Development Corporation(WDC) " ([16]). ويرى البعض أن هذه الشركة ستكون أداة أو قناة بين الدول النامية والشركات المحلية والشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الدولية المتخصصة فى التنمية لتنظيم وتنفيذ عملية التنمية بالدول النامية من خلال مبادرة جديدة يطلق عليها "التنمية المتواصلة للأعمال " والتى ستركز على التنسيق بين الدول النامية – التى لا تمتع بقسط وافر من الاستثمار الأجنبى لديها أو ليس لديها أى استثمار أجنبى على الإطلاق - والشركات متعددة الجنسيات الكبرى فى العالم، لتحسين البنية التحتية التى تشمل مرافق النقل والاتصالات والكهرباء والمياه فى هذه الدول، وذلك بقيام الشركات بتمويل تطوير هذه الخدمات مما يسهم فى النهوض بحالة المرافق العامة بهذه الدول الأمر الذى يؤدى إلى تحفيز الطلب على استثمارات الشركات متعددة الجنسيات وتهيئة الرأى العام ومنظمات المجتمع المدنى للترحيب بهذه الاستثمارات وليس مناهضتها. ويستشهد أنصار هذا الرأى بالنجاح الذى حققه البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة فى كل من تنزانيا وأثيوبيا ، حيث نفذ مبادرة لتطوير البنية التحتية فى الدولتين فى مجالات الاتصالات والكهرباء بالتعاون مع شركات شل وإريكسون و ABB وجنرال موتورز([17]). وفقا للرأى السابق يتضح أن هناك دورا مسبقا ينبغى على الشركات متعددة الجنسيات القيام به فى تنمية الدول النامية والأقل نموا خاصة فى مجالات تطوير وتحسين البنية التحتية ، مما يعود بنتائج إيجابية على الشركات فى مرحلة تالية عند استثمارها فى هذه الدول .
2) التفسير فى ضوء المبادئ الاقتصادية المستقرة فى مجالات تحليل سلوك الشركات متعددة الجنسيات: هذا التيار الفكرى غير منقطع الصلة بالتيار السابق، الفارق أنه يركز على نتيجة نشاط الشركة فى الدول النامية المتمثل فى حجم الإيراد ومعدلات الربحية ومعدلات استقرارها بالنسبة للشركات متعددة الجنسيات ، وتحسين معدلات الاقتصادى فى الدول النامية التى تقوم الشركات متعددة الجنسيات بالاستثمار فيها .
ويعتقد العديد من المهتمين بتفسير سلوك الشركات متعددة الجنسيات بأن الباعث خلف تدفقات استثماراتها وممارسة نشاطات إنتاجية فى الخارج، يتمثل فى السعى نحو تحقيق أعلى معدلات عائد ممكنة. وهو نفس الباعث لعمل المشروع فى ظل طريقة الإنتاج الرأسمالية ولتطور تلك الطريقة من المنافسة (المشروع الصغير والمتوسط) إلى الاحتكار (المشروع الكبير القومى واحتكارات القلة) ثم من المحلية إلى الدولية. فالرغبة فى تعظيم العائد هى القوى الديناميكية والمسيطر الأعظم على توجيه هذه الشركات لاستثماراتها فى الخارج .([18])
ويترتب على ذلك المنطق:
- لا تتدفق الاستثمارات المباشرة إلى الخارج إلا عندما تضمن الشركات الحصول على عائدات عالية ومجزية على استثماراتها بالخارج بالمقارنة بعوائد استثماراتها بالداخل وأيضا بالمقارنة بعوائد النشاطات المماثلة المحلية بالدولة الأم وبالدول المضيفة.
- تزداد التدفقات بارتفاع معدلات العائد من سنة لأخرى.
- تتوطن مشروعات الشركات فى المناطق التى توفر أعلى عائد.
- وتتركز فى القطاعات الاحتكارية (لتتمكن من تحقيق العائد المجزى) بينما تعزف عن القطاعات الأقل ربحية والقطاعات المتميزة بالمنافسة التامة كالأنشطة الزراعية وتجارة التجزئة والصناعات الحرفية (كالمنتجات الجلدية).
وفى معرض تحليل دور الشركات متعددة الجنسيات فى تنمية الدول النامية التى تعمل فيها ، يرى بعض أنصار هذا التيار أن دور الشركات فى التنمية يرتبط بحجم التكلفة التى تدفعها الشركات للعمل فى الدول النامية بالإضافة إلى فعالية استخدامها للموارد المتاحة لديها ، فكلما تمكنت الشركات من تقليل تكلفة الإنتاج الذى تقوم به فى الدول النامية كلما تمكنت من تحفيز وتنشيط التنمية المرتبطة بزيادة الأجور وتيسير الحصول على التكنولوجيا المتقدمة، وتوفير فرص العمل لمئات الباحثين عنها، وتعزيز موارد الدول المضيفة من ضرائب ورسوم جمركية وغيرها. علاوة على ماسبق ، يرى أعضاء هذا الفريق أن على الدول النامية تعظيم استفادتها من أنشطة الشركات العاملة لديها من خلال تحديد المجالات والأنشطة الاقتصادية ذات الأولوية لديها ، والتى يمكن من خلالها دفع عملية التنمية لديها وتوجيه الشركات متعددة الجنسيات للاستثمار فيها ، وبما يضمن لهذه الدول توفير فرص عمل إضافية لمواطنيها ، والحفاظ على البيئة من التلوث ، ونقل ممارسات ونظم جديدة فى العمل الإدارى والمالى لديها ، ونقل التكنولوجيا الخاصة بطرق وفنون الإنتاج والتصنيع ، وتعزيز عناصر التنافسية الاقتصادية لها دوليا. وينوه بعض أنصار هذا التيار إلى أنه فى حال الإخلال بأحد هذه الضوابط فان التنمية التى تتحقق ستفتقد شرط المساواة أى ستكون لصالح طرف ضد طرف آخر ([19]).
3) التحليل فى ضوء الظروف الموضوعية والسياسات العامة :إن خضوع الاقتصاد للظروف الموضوعية ولتوجيهات السياسة العامة أمر لا جدال فيه (حيث إن الظواهر الاقتصادية بطبيعتها ظواهر اجتماعية) ومسلم به منذ المراحل المبكرة لتطور الفكر الاقتصادى والسياسى(حيث إن الظواهر الاقتصادية بطبيعتها ظواهر اجتماعية). وكان من المنطقى ألا تخلو دراسة أو تقرير متعلق بتفسير ظاهرة ودور الشركات متعددة الجنسيات فى التنمية وبواعثها من إشارات صريحة إلى الظروف الاقتصادية والسياسية، الداخلية والخارجية، كمحددات أساسية.([20]) بل وصل الأمر ببعض الكتابات الحديثة إلى القول بوجود "نظرية السياسة العامة" فى تفسير سلوك هذه الشركات فى التنمية بالدول المضيفة والدول الأم .
ويرى أنصار هذا الاتجاه فى إطار تفسيرهم لاتجاه الشركات متعددة الجنسيات للاستثمار فى الدول النامية أن هذه الشركات ترى فى هذه الاستثمارات وسيلة للإفلات من ضغوط القيود الاقتصادية الكلية فى الدول الأم ووليد توجيهات الظروف الموضوعية، ويستندون فى ذلك إلى العديد من الدراسات والتقارير التى تشير إلى أن الإنتاج الدولى والاستثمار الأجنبى المباشر يمثلان إحدى الوسائل الهامة للشركات متعددة الجنسيات للإفلات من ضغوط التقلبات الاقتصادية فى الدول المتقدمة. وهذا أمر طبيعى، فما دام الإنتاج الرأسمالى يهدف لتحقيق الربحية وللسوق فقد تعين على الاستثمار البحث عن منافذ للتصريف والحصول على الإيراد بالخارج خاصة فى أوقات الأزمات الرأسمالية ([21]).
كما أن تواجد "الفوائض المالية" لدى الشركات متعددة الجنسيات والدول بما يفوق إحتياجاتها الجارية خاصة مع الارتفاع الهائل فى أسعار البترول خلال السبعينيات كان من أهم العوامل الدافعة لتدفقات الاستثمار المباشر للخارج ، حيث كان من الطبيعى أن تنشغل الشركات متعددة الجنسيات والدول بكيفية إدارة واستغلال تلك الأموال مما دفعها إلى المشاركة فى كثير من المشروعات فى الخارج حيث قامت الاحتياجات المالية.([22])
كما يذهب أنصار هذا التيار إلى أن سلوك الشركات متعددة الجنسيات بالاستثمار فى الدول النامية هو "نتاج للقوانين والتوجيهات السياسية العامة"، وقد عبر "جيلبان" بوضوح تام عن خضوع الاقتصاد للسياسة العامة، حيث كتب : أنه فى الأعمال الداخلية كما فى الأعمال الدولية، يعد النظام السياسى أعظم محدد لاتجاه النشاط الاقتصادى. فقوى السوق لا تعمل فى فراغ سياسى بل على العكس فإن النظام السياسى والسياسات العامة تنشد توجيه القوى الاقتصادية عبر قناة أو أخرى.([23]) فلقد أصبحت العلاقات الاقتصادية خاضعة بشدة لسيطرة السياسة العامة (مسيسة ) كلما تعارضت المصالح الاقتصادية مع توجيهات السياسة الاقتصادية الداخلية والدولية.. وقد ترتب على ذلك، بشأن تفسير اتجاهات الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتدفقاتها وسلوك الشركات متعددة الجنسيات واعتبارها انعكاسا للأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتغيراتها، بمعنى أنها "نتاج للقوانين وتوجيهات السياسات العامة، فى الدولة الأم وكذلك فى الدول المضيفة".([24])
وفى إطار تقييمهم لدور الشركات متعددة الجنسيات فى التنمية بالدول النامية ، يذهب أنصار هذا التوجه إلى أن هناك "ارتباطا بناء Constructive Engagement " بين الشركات متعددة الجنسيات والدول المضيفة التى تعمل فيها ، ويسمح هذا الارتباط البناء للشركات بنشر الديمقراطية والتكنولوجيات الجديدة وحقوق الإنسان وتعزيز تنافسية اقتصادات الدول النامية عالميا ([25]). وطور أنصار هذا التيار نظرية "دورة المنتج" ونظرية "المزايا التنافسية "، حيث اتجهوا إلى التأكيد على أن الدول الأقل نموا يمكنها الاستفادة من استثمارات الشركات متعددة الجنسيات فى تحديث صناعتها الضعيفة تكنولوجيا ، وإكساب العمالة لديها مهارات إضافية فى طرق الإنتاج ، علاوة على تحفيز الادخار المحلى ورفع معدلاته ومن ثم زيادة معدل الاستثمار المحلى وذلك نتيجة ارتفاع معدلات دخل الأفراد ، وزيادة قدرتها التصديرية من السلع والمنتجات الصناعية بدلا من الاعتماد الكامل على تصدير المنتجات والسلع الزراعية والمواد الخام الأولية وهو ما يعنى وفقا لأنصار هذا التيار مساعدة الشركات لهذه الدول على دخول الأسواق الدولية والاندماج فيها كشريك وبائع وليس مجرد مشترى للسلع والخدمات ([26]). ويعترف أنصار هذا الرأى بأن استثمارات الشركات متعددة الجنسيات فى الدول النامية يمكن أن تتسبب فى الإضرار بالبيئة فى هذه الدول ، حيث تقوم عدة شركات بنقل الصناعات الملوثة للبيئة من الدول الأم إلى الدول النامية وذلك بعد تبنى هذه الدول لتشريعات تجرم استمرار هذه الصناعات لديها ، لذا لم تجد بعض الشركات غضاضة فى نقل هذه المصانع للدول النامية ومنها : صناعات الأسمنت ، والأدوات الصحية ، والمواد البلاستيكية. ومع ذلك يطالب بعض أنصار هذا التيار الدول النامية باستقبال هذه النوعية من استثمارات الشركات متعددة الجنسيات نظرا لما توفره هذه الصناعات من فرص عمالة وتزويد الصناعة الوطنية فى هذه الدول بنوعية من التكنولوجيا لم تكن معروفة لها من قبل ، ويطلق هؤلاء على هذه الطريقة من التنمية " استراتيجية التنمية القائمة على التلوث "Pollution Haven Development Strategy"([27]). ويتجاهل هؤلاء حقيقة أن هذا النوع من الاستثمارات والمشروعات يتضمن تكنولوجيا صناعية متدنية وأجورا زهيدة للعمالة التى تشتغل فيها، ناهيك عن أضرارها البيئية على صحة الإنسان والبيئة التى يعيش فيها .

4) المدرسة الكلاسيكية الجديدة: تركز هذه النظرية على النمو الاقتصادى باعتباره العامل والمؤشر الوحيد للتنمية ، وأن مساعدة الدول الصناعية المتقدمة هى الطريق الوحيد أمام الدول النامية للخروج من التخلف الذى تعانيه ، وذلك من خلال الاستعانة باستثمارات شركات هذه الدول ، وليس من خلال طلب المعونة والمساعدات الاقتصادية ضعيفة التأثير على المدى الزمنى الطويل. فالشركات وفقا لأنصار هذه المدرسة هى التى يمكنها نقل عناصر الإنتاج من الدول المتقدمة التى تنطلق منها إلى الدول النامية ، وذلك بحكم قيام هذه الشركات بوضع سياسات الإنتاج الخاصة بها على المستوى العالمى فيما يطلق عليه روابط الإنتاج production linkages وتعد هذه الروابط من أكثر العوامل أهمية فى عملية التنمية بالدول النامية والدول الأقل نموا حيث تقوم هذه الروابط بتحفيز طلب الفروع المحلية للشركات متعددة الجنسيات على السلع والخدمات المتوفرة بالسوق المحلى ، وكذلك زيادة المعروض من السلع تامة الصنع التى تقوم فروع الشركات ببيعها فى السوق المحلى([28]) . ويربط أنصار هذه المدرسة بين حجم استفادة الدول النامية من استثمارات الشركات متعددة الجنسيات فى الإسراع بعملية التنمية لديها وبين توفر عدة عوامل منها: المركز الاقتصادى التنافسى العالمى للدولة الساعية لجذب استثمارات الشركات فكلما كان هذا المركز قويا كلما زادت فرص الدولة المضيفة على جذب استثمارات أكبر من غيرها من الدول ، والشركة متعددة الجنسيات ذاتها فكلما عظم المركز المالى للشركة وتنوعت منتجاتها كلما زادت حاجتها إلى التوسع فى الاستثمار بالدول النامية ، وسمات الصناعة التى تعمل الشركة فيها فكلما كانت هذه الصناعة ذات مستوى معقول من التكنولوجيا وكثيفة الأيدى العاملة ومتوسطة الاحتياج لرؤوس أموال – مثل صناعة الملابس الجاهزة وصناعة السيارات - كلما تمكنت هذه الصناعة من تحقيق فائدة مزدوجة للدولة المضيفة والشركة الأم . ويعتقد أنصار هذا الرأى أن تقسيم العمل بين الشركات متعددة الجنسيات والشركات المحلية فى الدول النامية هو أنسب الوسائل لزيادة الإنتاجية وبالتالى النمو وذلك لما يقوم به من توجيه اقتصادات الدول النامية إلى المزيد من التخصص والتركيز على إنتاج سلع محددة ينهض كل من الشركات متعددة الجنسيات والشركات المحلية بإنتاجها ([29]).
ويذهب تيار من أنصار هذه المدرسة إلى التنويه عن أن الروابط التى تتم بين الشركات متعددة الجنسيات من ناحية والشركات المحلية من ناحية ثانية تغذى القدرة على المنافسة ، بالإضافة إلى أن أهم قناة لتوزيع المهارات والمعارف والتكنولوجيا من جانب فروع الشركات متعددة الجنسيات هى الروابط التى تقيمها مع الشركات والمؤسسات المحلية ، إذ بإمكان هذه الروابط أن تسهم فى نمو قطاع أعمال تجارية محلية مفعم بالنشاط وهو ما يعد وفقا لأنصار هذا التيار أساس التنمية الاقتصادية ،حيث يؤدى وجود روابط بين فروع الشركات متعددة الجنسيات والشركات المحلية إلى تحقيق فائدة مشتركة للطرفين حيث تؤدى إلى رفع مستويات إنتاجية ومهارة العمالة لدى الشركات والموردين المحليين وتسهيل نقل المعارف والقدرات التكنولوجية والإدارية إليهم ، ناهيك عن تعزيز وتحفيز النشاط الاقتصادى إجمالا، وتحسين ميزان المدفوعات خاصة فى الحالات التى يستعاض فيها عن المدخلات المستوردة. ويطالب هذا الفريق فروع الشركات متعددة الجنسيات فى الدول النامية باتخاذ عدة تدابير لتعزيز دورها فى التنمية ومنها ([30]): إيجاد موردين محليين جدد وإجراء زيارات دورية لهم ، ونقل التكنولوجيا للدول التى تعمل فيها وذلك من خلال نقل تصميمات المنتجات والمواصفات الفنية لها وإجراء مشاورات فنية مع الموردين المحليين لمساعدتهم على استيعاب التكنولوجيا الجديدة وتوفير الدعم التقنى بشأن تخطيط الإنتاج والإشراف على الجودة النوعية وفحصها واختبارها وتقديم المساعدة فى المعارف التنظيمية والإدارية والتعريف بالممارسات الجديدة مثل إدارة الشبكات وأساليب التمويل والشراء والتسويق وتنظيم دورات تدريبية للموظفين والعاملين فى الشركات المحلية وإيفاد خبراء ومدربين من الشركة الأم للشركات التابعة فى الدول النامية لتطوير مهاراتهم، وتوفير المعلومات عن الأسواق ، وتوفير الدعم المالى من خلال مساعدة التدفق النقدى للموردين من خلال الشراء والدفع مقدما والتسوية السريعة للمدفوعات وتوفير النقد الأجنبى لهم وقت الحاجة إليه، وتقديم مساعدة مالية طويلة الأجل من خلال توفير رؤوس الأموال وكفالة القروض المصرفية، وإنشاء صناديق لرأس المال المتداول أو لاحتياجات الموردين الأخرى، وتمويل مشروعات البنية التحتية، وتقاسم تكاليف إقامة مشاريع محددة مع الموردين المحليين فى الدول النامية .
5) نظريات التجارة الدولية : تعد هذه النظريات تطويرا لنظرية أخرى عرفت باسم " نظرية تعظيم العائد capitalization rate" التى سعى أنصارها لتفسير انتقال رؤوس الأموال بين الدول المختلفة للحصول على أفضل عائد من استثمار أموالهم ، ونظرا لعجز النظرية عن التنبؤ بتحركات رؤوس الأموال واستثمارات الشركات متعددة الجنسيات بين الدول سعى عدد من الباحثين ومنهم " هيكشر وأولين hecsher-ohlin إلى تطوير هذه النظرية اعتمادا على نموذج التجارة الدولية ودورة المنتج. ووفقا لرأى فريق من أتباع هذه النظريات تتحرك استثمارات الشركات متعددة الجنسيات بين الدول اعتمادا على نظرية المزايا المقارنة التى تقدمها الدول النامية الساعية لجذب استثمارات الشركات وترتكز تلك النظرية على إمكانات وقدرات الشركات متعددة الجنسيات فى نقل أعمالها ونشاطها خارج الدولة الأم فى زيادة تكلفة عناصر الإنتاج عن الحدود والمستويات التى تقبلها هذه الشركات، وركز أغلب أنصار هذه النظرية على عنصرى العمل والتكنولوجيا، فكلما ارتفعت أجور العمالة وصاحب ذلك ضعف قدرة الشركة على حماية أو الحفاظ على أساليبها وطرقها التكنولوجية فى الإنتاج والتصنيع كلما اتجهت الشركة متعددة الجنسيات إلى نقل جزء من استثماراتها ونشاطها إلى دول أخرى أقل فى أجور العمالة ولديها نظم حماية لتكنولوجيات الإنتاج وبالتالى تنخفض لديها تكلفة الإنتاج([31]).
وفى إطار تحليل هذه النظريات لدور الشركات متعددة الجنسيات فى التنمية ، ينطلق أنصارها من أن استثمارات الشركات متعددة الجنسيات تمثل إحدى وسائل تحقبق الرفاهية فى بعض الدول ، ويتوقف الأمر على الشروط والظروف التى تضعها الدول لجذب أنواعا أنواع محددة من استثمارات الشركات . ووفقا لهذا الاتجاه فإن الدول الأقل نموا ستتمكن من اجتذاب استثمارات الشركات فى القطاعات والأنشطة التى تنخفض فيها تكلفة وأجور العمالة وتوافر الموارد الطبيعية، وكذلك الأنشطة التى تتمتع فيها هذه الدول بميزة تنافسية فى التبادل التجارى مع دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية OECD . ويعتقد فريق من أتباع هذه النظريات أن تدويل رأس المال وعناصر الإنتاج الأخرى سوف يعمل على تحقيق الرفاهة العالمية Global Welfare ، وتسهيل عمليات الإصلاح وإعادة الهيكلة الاقتصادية فى كل من الدول الأم التى تنطلق منها الشركات والدول المضيفة التى تجتذب الشركات للعمل فيها ، حيث إن تدفق رؤوس الأموال للدول الأقل نموا سيعمل على تحفيز الاستثمار الرأسمالى المحلى مما يسرع من معدلات التنمية ويوفر موارد إضافية من العملات الأجنبية التى تحتاجها هذه الدول بشدة ، علاوة على أن استثمارات الشركات سيعزز ستعزز المزايا التنافسية لهذه الدول عالميا من خلال إمدادها بالخبرات والمهارات الإدارية والتكنولوجية التى تمتلكها هذه الشركات ، بالإضافة إلى قيام الشركات - وفقا لنظريات التجارة الدولية – بتمكين الدول الأقل نموا من زيادة قدراتها الإنتاجية والتصديرية حيث أنه يمكن للشركات مساعدة الدول النامية والأقل نموا من دخول الأسواق الدولية عبر مرحلة التسويق الجيد لمنتجاتها خارج الحدود وبالتالى القضاء على المعوقات والحواجز التى تعوق هذه الدول من تسويق منتجاتها عالميا ([32]).
يؤخذ على النظريات الاقتصادية السابقة أن العناصر غير الاقتصادية والتوقعات وردود الفعل وعنصر الزمن والتحولات البيئية والظرفية (وكلها عناصر هامة) من شأنها جعل الشركات متعددة الجنسيات فى حالة تحول وتطور مستمرة وعدم استقرار، "نتاج بيئى وظرفى إلى حد كبير، بل إن دور الشركات فى تنمية الدول النامية قد لا يظل لفترة زمنية طويلة بنفس الأهمية وبمثابة الأسلحة الأساسية لتدويل النشاط الاقتصادى. وبالتالى يصعب إخضاع دور الشركات فى التنمية لقانون عام أو نظرية أو قاعدة موحدة وثابتة، وما التفسيرات المقدمة سوى من قبيل الأفكار غير العامة والقصيرة الأجل.

ب- النظريات السياسية المفسرة لدور الشركات فى التنمية :
1) نظريات التبعية : تنطلق نظريات التبعية من أن الشركات متعددة الجنسيات هى أحد أهم أدوات الاستغلال التى يمارسها النظام الرأسمالى العالمى فى تحقيق مصالحه فى استمرار التراكم الرأسمالى فهى صيغة ملاءمة للاستغلال تنسجم مع التطورات الاقتصادية والسياسية مع الحفاظ الشكلى على الاستغلال القانونى للدول النامية.
ولعل نظرية الاستعمار الهيكلى كانت بمثابة البديهية التى ارتكزت عليها وانطلقت منها نظريات التبعية([33]). والحقيقة أنه رغم أن مدرسة التبعية تمتلك منهجية متكاملة وطرق أو أدوات تحليلية خاصة ومجموعة من الفرضيات والالتزامات الأيديولوجية التى تشكل فى مجملها إطارا مرجعيا، إلا أنه لا يمكن الحديث عن نظرية موحدة، وإنما هناك العديد من النظريات التى يصعب حصرها أو تعقبها بشكل دقيق([34]). ومن ثم فإن التعرض لنظريات التبعية سوف يكون بمقدار ما تلقى من ضوء على دور الشركات متعددة الجنسيات فى مجالات التنمية السياسية والاجتماعية فى البلدان المضيفة (دول الجنوب).
وحول العلاقة بين الشركات والبلدان المضيفة تتفق أغلب نظريات التبعية على ثلاثة محاور أساسية هى([35]) :
1- أن البلد المضيف يحصل على فوائد أو عوائد أقل من ثمار التنمية التى تقوم بها الشركات متعددة الجنسيات .
2- أن الاستثمار الأجنبى يسبب تشوهات للاقتصاد الوطنى (أو المحلى).
3- أن الاستثمار الأجنبى يشوه "العملية السياسية" فى البلد المضيف والذى يرى أنصار التبعية أنه يتحقق من خلال ثلاث أساليب أو ركائز هى : التحالف بين النخبة فى المركز والنخبة فى البلد المضيف (النخبة المحلية)، وممارسة النفوذ والضغط من جانب البلد الأم (التى تعد الشركة تابعة لها) على حكومة البلد المضيف من أجل حمله على تبنى سياسة معينة أو الالتزام بسياسة معينة، وهيكلة النظام الدولى على نحو يلبى حاجات الشركات متعددة الجنسيات على حساب البلدان المضيفة.
ويرى بعض أنصار التبعية فى إطار تحليلهم لدور الشركات متعددة الجنسيات فى اقتصاديات المستعمرات السابقة والدول النامية أن التأثير القصير الأجل لهذه الشركات يزيد الدخل القومى ويفتح مجالات جديدة للإنتاج ، ولكن تأثيرها المؤسساتى البنيوى طويل الأجل هو تشويه استخدام الموارد فى اقتصاد المحيط، حيث تؤثر الشركات بشكل كبير فى استخدام الأرض وأسواق العمل وحصص الاستثمار. ويذكر أنصار التبعية أن المنطق الذى تعمل بموجبه هذه الشركات مشتق من هدف المشروع ككل، ومن ضمنها عمليات التصنيع والتسويق فى المركز، وبالتالى فهو يؤثر فى تخصيص الموارد من وجهة النظر باستخدام عيوب السوق ( قوة الاحتكار فى المبيعات والاستهلاك) للوقوف ضد مخاطر الكوارث الطبيعية أو السياسية. وأن اهتمام هذه الشركات بالحفاظ على عمالة رخيصة نسبيا وعلى ضرائب منخفضة وعلى حرية المناورة لا يناسب عادة التنمية المتوازنة لدولة المحيط التى ينتجون فيها ([36]).
ويذهب البعض الآخر من أنصار التبعية إلى القول بأن التبعية تعيق التنمية بقمعها للسياسات الاستقلالية فى الحكومة والأعمال التى تنظم التنمية المتوازنة أن التبعية تشوه نمو البورجوازية الوطنية . وأن علاقات المجموعات الحاكمة فى المحيط التابع مع دول المركز والشركات متعددة الجنسيات تخلق بنية سياسية تبقى الأجور منخفضة وتركز التطور فى القطاع العالمى ، حيث تؤدى العلاقات بين المركز ممثلا فى الشركات فى الدول الأم ونخبة المحيط ممثلا فى فروع الشركات فى الدول النامية إلى زيادة عدم تساوى الدخل وذلك بزيادة دخل النخبة وإبقاء أجور العمالة منخفضة ([37]).
ولم تكن هذه الطروحات تروق لمعارضى التبعية، الذين وجهوا لها عددا من الانتقادات التى يمكن إيجازها فى الآتى ([38]): إن النظام العالمى قد وصل إلى درجة من الاعتماد المتبادل الكثيف، بالقدر الذى يحول دون إمكانية انفصال أية دولة عن التقسيم الجديد للعمل الدولى، نظرا لأنه تقسيم مرتبط بالثورة العلمية والتكنولوجية في ميادين المعلومات والذرة والالكترونيات والهندسة الوراثية، وكلها مجالات لا يمكن دخولها فى إطار البديل الوطنى الذى ينادى به أنصار التبعية . كما يرى البعض أيضا أنه لا يمكن الأخذ بتوصيات نظرية التبعية لدول الجنوب سواء تلك المتعلقة منها بفك الارتباط أو زيادة تدخل الدولة لأن هذه الدول فى وضع تفاوضى ضعيف لا يتيح لها ذلك، مما يجعل هذه التوصيات مستحيلة التحقيق فى الواقع العملى. كما يرى البعض أيضا أنه لا يمكن الحديث عن دول الجنوب ككتلة واحدة، نظرا للتباينات الشديدة فيما بينها، ناهيك عن افتقادها للروابط الداخلية فيما بينها بقدر قوة روابطها بدول المركز. وأخيرا وليس آخرا فإن البعض يرى أن مصطلحات المركز والهامش إنما تستخدم لأغراض سياسية وليس لها أساس علمى ، مشيرا فى ذلك إلى أن القول بأن العلاقات فيما بين إحدى دول الجنوب ودول الشمال هى علاقات تبعية واستغلال ، فى حين أن العلاقات فيما بين دول الجنوب وبعضها البعض ليست علاقات تبعية أو استغلال ، إنما هو يعتبر من قبيل الهراء العلمى .
2)مدرسة التقسيم الدولى للعمل أو الاعتماد المتبادل :تنطلق آراء هذه المدرسة من واقع الانتقادات التى تم توجيهها إلى مدرسة التبعية من أنها تدعى تقسيم دول العالم ما بين دول صناعية متقدمة تختص بالإنتاج الصناعى المتطور ودول نامية تقوم بإنتاج المواد الأولية وبعض الصناعات البدائية البسيطة، بالإضافة إلى بدء ظهور العديد من الدول النامية مثل دول جنوب شرق آسيا – التى قامت بالتصدى للاحتكارات الدولية وأسست نظام اقتصادى دولى جديد أدى إلى وضع تقسيم دولى جديد للعمل، وبالطبع فإن ذلك يعنى ظهور دول نامية كمنافسين جدد فى السوق العالمية ضمن قطاعات كانت سابقا من اختصاص الدول المتقدمة صناعيا.([39])
لذا وبناء على الاعتبارات السابقة، ترى مدرسة الاعتماد المتبادل أن الاقتصاد الدولى هو نظام أو نسيج من العلاقات المتشابكة وليس سلسلة بسيطة من التأثيرات فى اتجاه واحد، وأن الشركات متعددة الجنسيات – من وجهة أنصار هذه المدرسة – وفروعها فى الدول النامية تعمل على تمتين هذه العلاقات من خلال تدويل عناصر الإنتاج التى تشمل : أجور العمالة، والمواد الخام، والسلع الوسيطة.
وتذهب هذه المدرسة من خلال مناقشتها لدور الشركات متعددة الجنسيات فى تنمية الدول النامية إلى معارضة الأراء التى ترى أن العالم كان من الناحية التقليدية مقسما إلى دول غنية ذات إنتاجية عالية وأجور مرتفعة، ودول فقيرة ذات إنتاجية متدنية وأجور منخفضة، إلا أن بعض الدول الآن وبفضل نظريات مدرسة الاعتماد المتبادل تجمع بين الإنتاجية العالية والأجور المنخفضة، وتؤكد هذه الآراء على أن الوجود المتزايد لهذه الدول فى الأسواق العالمية يؤدى إلى حدوث "عملية ضخمة لإعادة توزيع الأصول المنتجة"، الأمر الذى يجعل من المستحيل بالنسبة للدول المتقدمة أن تحافظ على مستويات المعيشة فيها، وبمعنى آخر فإن المنافسة من فروع الشركات متعددة الجنسيات فى العالم الثالث أصبحت أحد الأخطار إن لم تكن الخطر الوحيد الذى يهدد اقتصاديات العالم الأول".([40])
وتنطلق مدرسة الاعتماد المتبادل فى إطار تحليلها لدور الشركات فى التنمية من أن هناك دورة إحلال للمنتج، فسلعة كالسيارات مثلا يتم تجميعها فى أكثر من دولة وفقا لانخفاض تكلفة كل عنصر إنتاج يدخل فيها، وكذلك صناعة التليفزيونات التى قامت مثلا الشركات اليابانية بتدويل إنتاجها فى فروعها بالدول النامية نظرا لانخفاض أجور العمالة فى هذه الدول وارتفاع الأجور لديها واكتفت بتصنيع الشرائح الالكترونية التى تدر عائد أكبر وبتكلفة أقل. بالإضافة إلى أن تدويل عناصر ومشروعات الشركات متعددة الجنسيات إلى الدول النامية، يدفع الشركات الأم من خلال جهود البحث والتطور R&D التى تقوم بها بكفاءة عالية إلى الاتجاه نحو إحداث قفزات تكنولوجية أخرى فى مجال التصنيع.
لذا يحذر أنصار مدرسة الاعتماد المتبادل رؤساء وقيادات الدول المتقدمة من وضع العراقيل أمام وارداتها من فروع الشركات متعددة الجنسيات فى الدول النامية انطلاقا من قناعة خاطئة بأنهم بذلك يحمون مستويات المعيشة فى بلادهم، وسينتج عن ذلك تدمير أكثر الجوانب إشراقا فى الاقتصاد العالمى وضياع الأمل فى مستويات معيشة محترمة ولائقة لمئات بل آلاف الملايين من بنى البشر.([41])
3) مدرسة المساومة :تحاول هذه المدرسة الإجابة على تساؤل حول عما إذا كانت الدول النامية المضيفة للشركات متعددة الجنسيات – قادرة على زيادة سلطتها على الشركات متعددة الجنسيات – وبالتالى استفادتها من خبرة هذه الشركات فى تحقيق التنمية التى تنشدها.
وتشكل ثلاثة افتراضات فهم وإدراك مدرسة المساومة للعلاقات بين الدول النامية والشركات متعددة الجنسيات، وهى : أولا، الشروط التى تعمل الشركات بموجبها فى أحد الأقطار، وتقسيم المنافع بين الطرفين، نتيجة التفاوض وميزان قوة المساومة بين القطر وهذه الشركات. ثانيا، إن التفاعل المبكر لتوازن القوى والمنافع يحابى الشركات متعددة الجنسيات، وربما يسيطر القطر النامى على الوصول إلى أسواقه وموارده، ولكن الشركات لديها مقتنيات أكثر أهمية للمساومة عن طريق سيطرتها على رأس المال والتكنولوجيا والخبرة الإدارية. وثالثا، وهو الأهم، من المحتمل أن يتمكن البلد المضيف مع الوقت من الوصول إلى مختلف مصادر قوة المساومة التى كانت الشركات تتحكم فيها من قبل، وبحصول القطر على قوة مساومة أكثر، فإنه يجبر ميزان الفوائد أن يتحول لمصلحته.([42]) والخلاصة وفق رأى مدرسة المساومة، أن الاتصالات والمعاملات المطولة مع الشركات متعددة الجنسيات تتيح للأقطار النامية الخبرة اللازمة لإدارة هذه العلاقات بصورة أكثر فعالية وفائدة لتلك الأقطار.
4) مدرسة التبعية الجديدة: نظرا للانتقادات التى تعرضت لها نظريات التبعية من قبل مدرسة المساومة وتقسيم العمل الدولى أو الاعتماد المتبادل ، فقد أدخل المفكرون والباحثون المنتمين لها فى تحليلاتهم الاعتراف بأن الشركات متعددة الجنسيات تسهم فعلا فى "نمو" الإمكانات الاقتصادية لعدة أقطار نامية حققت بعض التقدم الاقتصادى. علاوة على ما سبق، تعترف دراسات قام بها القائلون بالتبعية الجديدة بأن ظاهرة المساومة بين الدول النامية والشركات متعددة الجنسيات قد تمكن تلك الدول من الحصول على بعض الامتيازات من الشركات، على أن مدرسة التبعية الجديدة بالمقارنة مع مدرسة المساومة، تقول أن المساومة التى تجرى بين الشركات متعددة الجنسيات والدول النامية تكون بشأن قضايا هامشية، فالقرارات الرئيسية الخاصة بتطوير الصناعات فى الدول النامية لاتزال تتخذها الشركات متعددة الجنسيات، وبهذا فإن نطاق وتوقيت وشكل النمو فى الدول النامية يعتمد أساسا على مراكز القوى خارج الدول النامية.
ولا ترى مدرسة التبعية الجديدة، مقارنة بمدرسة المساومة، إلا فرصا محدودة لأن تتمكن الأقطار النامية من الوصول إلى السيطرة على الشركات متعددة الجنسيات وتوجيه إدارتها بما يخدم التنمية فى هذه الدول. ولهذا فإن الصناعات فى الدول النامية قد تنمو بسبب وجود الشركات متعددة الجنسيات فى هذه الدول، ولكن هذه الشركات تظل من وجهة نظر أنصار التبعية الجديدة خارج سيطرة مضيفيها من الدول النامية. والخلاصة أن أتباع مدرسة التبعية الجديدة، حتى أولئك الذين يستخدمون صيغا حديثة معقدة، يعتبرون الشركات متعددة الجنسيات مجرد أدوات تقوم من خلالها المجتمعات الرأسمالية بوضع الدول النامية فى وضع خاضع جوهريا بالأساس ومعتمد على الغير فى الاقتصاد الدولى.([43])
5 ) اتجاهات العولمة، ومكانة الشركات متعددة الجنسيات فيها :توجد مجموعات من التعريفات المتعددة للعولمة ترتبط بوجهات نظر شتى، ورغم ذلك فإنه يمكن النظر إلى العولمة على أساس أنها تعنى إزالة الحدود الاقتصادية والمعرفية بين الدول، ليكون العالم أشبه بما يكون بسوق واحدة تضم عدة أسواق ذات خصائص ومواصفات تعكس خصوصية أقاليمها من ناحية، والمتطلبات التى يفرضها التكامل الاقتصادى العالمى من ناحية أخرى. وبعبارة أخرى، فإن العولمة تعنى تحرير العلاقات الاقتصادية القائمة بين الدول من السياسات والمؤسسات القومية، والاتفاقيات المنظمة لها، وإخضاعها بشكل تلقائى لقوى جديدة أفرزتها التطورات التكنولوجية والاقتصادية، وإعادة تشكيلها وتنظيمها وتنشيطها بشكل طبيعى على مستوى العالم كله كوحدة واحدة. وقد أصبحت العولمة أمرا واقعا مع ظهور قوى جديدة عالمية التأثير، بمعنى أنها فوق القومية Supranational وهى ما يطلق عليه أنصار العولمة، الشركات العولمية أو الكوكبية Global Corporations والتى ليس لدولة ما أو مجموعة دول أى تحكم فيها، كما أنها أخضعت جانبا من العلاقات الاقتصادية والمؤسسات القائمة فى العالم لتأثيرها المباشر والتلقائى من أجل صياغة نظام عالمى جديد تختفى داخله السياسات والنظم القومية.([44])
ويرى بعض الباحثين صعوبة إطلاق واستخدام مصطلح "المدرسة أو الاقتراب" إزاء دراسة فكر العولمة، وذلك لافتقاد العولمة للخطوات المنهجية المعتمدة فى اقترابان دراسة السياسة المقارنة والاقتصاد السياسى خاصة خطوتى القياس والتنبؤ. لذا فإن العولمة ليست إحدى نظريات العلاقات الدولية أو النظم السياسية ولكنها إحدى ظواهر العلاقات الدولية، واعتبر البعض أن العولمة لا تقدم نظرية إمبيريقية ولكنها تقدم نظرية فى التحليل القيمى فى العلاقات الدولية ودراسات التنمية.
ويؤكد أنصار العولمة فى إطار تحليلهم لدور الشركات متعددة الجنسيات فى التنمية على أن دور هذه الشركات قد بدأ فى "خلخلة" أو إضعاف دور الدولة فى القيام بالتنمية، وحل محلها دور الشركات متعددة الجنسيات. وأشار أنصار العولمة فى سبيل توثيق مقولتهم السابقة إلى قيام الشركات بالاستغناء عن كثير ما كان من سلطة الدولة أو وظائفها، ومن أبرز هذه الوظائف والسلطات ما يلى([45]) :
1- فقد البريد والبرق أهميتهما فى نظر الشركات الكوكبية، فهى تستخدم شركات خاصة سريعة، ومؤكد وصول الرسائل عن طريقها فى يوم أو يومين على الأكثر. وبعض شركات البريد اكتسبت مكانة عالمية مثل DHL و UPS. وأما التليفون وتطور الاتصالات من خلال الفاكس، البريد الالكترونى والانترنت، فقد اضطرت حكومات أوروبا إلى خصخصة هذا المرفق العام لتدخل شركاته فى حركة الاندماج والاستحواذ المتسارعة والتى يمكن أن يهبط عددها إلى ثلاثة أو أربعة تحالفات متعددة الجنسيات على مستوى الكوكب.
2- لم تعد هذه الشركات فى حاجة لخدمة الشرطة لأنها تعتمد على شركات أمن خاصة تملك أحدث المعدات وتنتقى أفضل عمالة متاحة.
3- وكذلك قلت استعانة هذه الشركات بالتمثيل الدبلوماسى التجارى فى الخارج، فبوسعها أن تضغط على عدة حكومات فى وقت واحد، كما أن وكلاءها وفروعها والشركات التابعة لها أكفأ أداء فى الصفقات الحالية والاستشارية والتكنولوجية من السفارات. كما أنهاتعرف مدى فساد أوضاع صانعى القرار فتضطر فى بعض الأحيان إلى تقديم رشاوى لإنجاز الأمور وبعض المصالح الخاصة بها. وقد استقر الرأى فى الدول الصناعية المتقدمة على أن تقتصر معونات التنمية الرسمية (من حكومة إلى حكومة) على المعونة الفنية أساسا، وأن تذهب معظم المنح إلى منظمات غير حكومية (بدعوى فساد الحكام)، أما الاستثمار فمتروك للشركات.
4- وأصبحت أهمية القوات المسلحة فى نظرها تنحصر فى الإنفاق العام على أعمال البحث والتطوير التى تجرى أساسا فى وحدات البحث فى الشركات أو فى معاهد علمية تتعاقد معها، على أن تستخدم التقنية الجديدة فى إنتاج السلاح المطلوب، وفى الوقت نفسه إنتاج مثيل له للاستخدام المدنى. ومن أشهر الأمثلة على ذلك – من وجهة نظر أنصار العولمة – هو شبكة الأنترنت، فقد مولت الدولة كل أعمال البحث والتطوير باهظة التكاليف والتى استمرت نحو 15 سنة وذلك لمواجهة سيناريو حرب عالمية نووية تدمر واشنطن فى حين تكون القوات المسلحة موزعة فى مناطق متعددة حول الكرة الأرضية، فكان المطلوب اختراع شبكة يتصل المتعاملون معها بعضهم ببعض دون المرور بمركز الشبكة. وبعد انتهاء الحرب الباردة ظهرت شبكة الانترنت للاستخدام فى كل الأغراض حتى الإجرامية منها. هذا بالإضافة إلى أن الدول الكبرى لم تعد بحاجة إلى جيوش لغزو أوطان الآخرين واحتلالها أو لحرب شبه عالمية حول اقتسام المستعمرات، وإنما يكفيها تغلغل الشركات متعددة الجنسيات فى اقتصادات هذه الدول كمستثمرين، ثم التهديد بخروج هذه الشركات وقت الأزمات الدولية.
5- تبتعد هذه الشركات بصفة عامة عن القضاء، وتلجأ إلى التحكيم، فكل عقد توقعه شركة متعددة الجنسيات يتضمن النص على إجراءات التحكيم عند أى خلاف. ويرجع ذلك إلى طول أمد إجراءات التقاضى وأتعاب شركات المحاماة الباهظة.
6- قيام بعض الشركات بانتزاع الحق السيادى الأساسى والذى يعد من رموز السيادة الوطنية وهو حق خلق النقود (أو صك العملة فى حالة النقود المعدنية)، وخلقت هذه الشركات نقودا مقبولة للدفع فى معظم الدول وهى بطاقات الائتمان. وإن كان هذا الرأى مردود عليه بأن الدولة مازال لها اليد الطولى فى خلق ومراقبة الأموال عبر الحدود سواء بين الدول أو الأفراد، وقد زادت سلطة الدولة فى هذا الأمر بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 فى الولايات المتحدة وإصدار القرار رقم 1393 فى 28 سبتمبر 2001 والذى يعطى صلاحيات واسعة للدول فى مراقبة الحسابات والأرصدة السرية المشتبه فى إدارتها للقيام بأعمال إرهابية.
7- وأخيرا ينظر أنصار العولمة إلى الدور التنموى لهذه الشركات أفضل من دور الدولة سواء فى الدول المتقدمة أو النامية حيث تقوم هذه الشركات بوظائف حيوية أثبتت فيها كفاءتها من أبرزها : التخفيف من مشكلة البطالة، والتطوير الإدارى والمؤسسى والتنظيمى فى إدارة الأعمال، ونقل وتطوير التكنولوجيات المستخدمة فى طرق الإنتاج بفضل ما تخصصه وتقوم به هذه الشركات لمجال البحث والتطوير (R&D).
وعلى الجانب الآخر هناك اتجاهات رافضة للعولمة كتيار عام وشامل لقيادة العالم نحو وجهة واحدة محددة هى الرأسمالية العالمية، ويرفض هؤلاء أيضا حجج أنصار العولمة حول الدور التنموى للشركات متعددة الجنسيات أو بالأحرى الشركات العالمية أو الكونية Global Corporation حيث يؤكدون على الدور السلبى أو "التخريبى" الذى تقوم به هذه الشركات لنظم واقتصادات الدول المتقدمة والنامية([46])، وإن كانت حج وبراهين هذه الاتجاهات الرافضة للعولمة ودور الشركات فى التنمية لم تخرج عن حجج وبراهين أنصار مدرسة التبعية التى عرضنا لها فى موضع سابق من هذه الدراسة.

‏نخلص من الدراسات السابقة إلى انصراف‏ ‏اهتمام‏ أغلبها‏ ‏‏‏إلى‏ ‏تناول‏ ‏أنشطة‏ ‏الشركات‏ الغربية ‏متعددة‏ ‏الجنسيات‏ ‏عامة‏ , ‏وتقييم‏ ‏دور‏ ‏هذه‏ ‏الشركات‏ ‏فى‏ ‏التنمية، و‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏تنظر‏ ‏إلى‏ ‏دور‏ ‏هذه‏ ‏الشركات‏ ‏فى‏ ‏التنمية‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏عرضها‏ ‏للمؤشرات‏ ‏الكلية‏ ‏والعامة‏ ‏فى‏ ‏تحقيق‏ ‏التنمية‏ ‏الاقتصادية‏, ‏دون‏ ‏أن‏ ‏تخصص‏ ‏جزء‏ ‏منها‏ ‏لتناول‏ ‏أنشطة‏ ‏ودور‏ ‏الشركات‏ ‏متعددة‏ ‏الجنسيات‏ ‏فى‏ ‏إطار‏ ‏المقارنة‏ ‏مما‏ ‏يتيح‏ ‏للباحثين‏ ‏وصانع‏ ‏القرار‏ ‏فى‏ الدول النامية‏ ‏المفاضلة‏ ‏بينها‏ ‏فى‏ ‏تحقيق‏ ‏التنمية‏ , ‏كذلك‏ ‏لم‏ ‏يشر‏ ‏أغلبها‏ ‏إلى‏ ‏معوقات‏ ‏توسيع‏ ‏نشاط‏ ‏ودور‏ ‏الشركات‏ ‏متعددة‏ ‏الجنسيات‏ ‏فى‏ ‏المساهمة‏ ‏فى‏ ‏التنمية‏ ‏.

شهدت فترة ما بعد نهاية الحرب الباردة تزايداً هائلاً فى عدد وانتشار الشركات متعددة الجنسيات عامة، والشركات الآسيوية على وجه الخصوص فى المناطق الجغرافية المتعددة فى العالم. ويعزى ذلك إلى جملة من الأسباب يأتى فى مقدمتها : تفتت الإتحاد السوفيتى إلى عدد من الجمهوريات المستقلة، وانهيار الكتلة الاشتراكية فى أوروبا الشرقية والتى ربطت دول هذه المنطقة بالفلك السوفيتى اقتصاديا، مع اتجاه هذه الدول إلى تبنى سياسات اقتصاد السوق الحر والتى يأتى فى مقدمتها جذب الاستثمارات الأجنبية عامة واستثمارات الشركات متعددة الجنسيات بصفة خاصة بهدف النهوض باقتصادياتها الوطنية وتسريع معدل النمو بها واستيعاب الأعداد الهائلة من العمالة التى يتم الاستغناء عنها فى إطار برامج الخصخصة، ونقل التكنولوجيا المتقدمة. وقد سايرت عدة دول نامية فى أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا هذا التوجه مما خلق منافسة شديدة بين هذه الدول فى جذب الشركات متعددة الجنسيات للاستثمار فى كافة قطاعات الاقتصاد القومى.
وتواكب مع ما سبق، تزايد رغبة قادة الشركات متعددة الجنسيات فى نقل أو تدويل أنشطة هذه الشركات لعدد من العوامل والاعتبارات الاقتصادية التى سلف الحديث عنها بالإضافة إلى انضمام المئات من الشركات الآسيوية إلى قائمة الشركات متعددة الجنسيات إما من حيث الأصول التى تمتلكها أو العمالة التى تقوم بتوظيفها أو تحقيق الأرباح وعدد الشركات التابعة لها فى دول العالم، علاوة على توفير إطار تنظيمى قانونى دولى وإقليمى ومحلى يكفل الحرية والمرونة الكافية لهذه الشركات للاستثمار والتنقل بين مراكز الإنتاج فى كافة دول العالم.
لذا تتناول الدراسة تطور الإطار القانونى والتنظيمى والقطاعى والأداء الاقتصادى للشركات الدولية والآسيوية متعددة الجنسيات على المستوى العالمى. من خلال دراسة:
الإطار التنظيمى والقانونى لعمل الشركات متعددة الجنسيات .
تطور الأداء الاقتصادي للشركات متعددة الجنسيات على المستوى العالمى.
تطور الإطار التنظيمى والقانونى لعمل الشركات متعددة الجنسيات
حدثت قفزات حيوية فى تطور الإطار القانونى الدولى المنظم لاستثمارات الشركات متعددة الجنسيات عامة كانت لها انعكاساتها المباشرة على حرية الحركة والمرونة العالية لهذه الشركات فى الاستثمار العالمى واتساع النطاق الجغرافى لأنشطتها، وتعدد القطاعات والأنشطة الإنتاجية التى تعمل فيها وبالتالى زيادة دورها فى التنمية الاقتصادية للدول التابعة لها وكذلك فى الدول التى تنتقل للعمل فيها .
تسعى الشركات متعددة الجنسيات بشكل دائب إلى خلق حقل أو إطار قانونى دولى واحد يحكم العالم بهدف تحويل الاقتصاد العالمى إلى سوق واحدة تتحرك فيه بفعالية ومرونة كافية فى مجال الاستثمار دون قيود([47]).
وقد كفلت اتفاقيات الجات وقيام منظمة التجارة العالمية بما تتمضنه من إزالة لكافة الحواجز أمام انسياب حركة التجارة أو الاستثمار العالمية فى كافة السلع بما فيها ما كان يتم تنظيمه تقليدياً خارج إطار الجات. وبامتداد نطاق التحرير إلى تجارة الخدمات والمجالات الأخرى التى لم تكن تخضع لقواعد التحرير، بتوقيع اتفاقية التجارة فى الخدمات المصروفة اختصارا باسم الجاتس([48])، اتسع نطاق العمل المتاح أمام الشركات متعددة الجنسيات. وقد تركت اتفاقيات الجات مجالاً خصباً لتدعيم فكرة فتح الأسواق الدولية وتوحيد القواعد التى تحكمها عن طريق التوصية بإجراء مفاوضات خاصة للتوصل إلى اتفاقية دولية للاستثمار وبالطبع ستكون الشركات متعددة الجنسيات أكثر الأطراف استفادة من هذه الاتفاقية.
تدرجت محاولات توفير إطار تنظيمى يكفل لرأس المال الدولى – والتى تعد الشركات متعددة الجنسيات أكثر أشكاله قوة – من التركيز فى مرحلة أولى على الاستثمارات المباشرة حيث أصدر البنك الدولى القواعد الإرشادية بشأن معاملة الاستثمارات الأجنبية فى عام 1992([49])، أما المرحلة الثانية فقد جاءت فى إطار إجراءات الاستثمار المتصلة بالتجارة فى السلع وحدها من خلال إبرام اتفاقية الاستثمار المتصلة بالتجارة المعروفة اختصارا باسم Trims فى إطار اتفاقيات الجات فى عام 1994.
وقد حدد ملحق الاتفاقية ماهية هذه الإجراءات باعتبارها التزامات يجب معالجتها وطنياً فى كل دولة على حدة، وعلى أساس أنها نابعة من القوانين المحلية والإجراءات القانونية فى كل دولة عضو فى الاتفاقية، وتضم([50]) :
أ- الإجراءات التى تنص على شراء أو استخدام ذى منشأ وطنى (مثل تحديد نسبة من المشتريات الحكومية للاتفاق داخل الدولة) سواء كانت هذه الإجراءات تتعلق بالإجراءات الكمية أو بالقيمة أو فى صورة نسبة من الكمية أو القيمة.
ب- الإجراءات التى تنص على الربط بين المشتريات أو الاستخدام من الواردات الأجنبية وقيمة وكمية صادرات هذه الدولة.
جـ- الربط بين استيراد منتج يستخدم كمدخل فى الإنتاج المحلى، وقيمة أو كمية الصادرات من الإنتاج المحلى لهذه السلعة.
د- الربط بين استيراد منتج يستخدم كمدخل فى الإنتاج المحلى، وكمية النقد الأجنبى المتاح للمؤسسة التى تنتج هذا الإنتاج.
هـ- تحديد نسبة الصادرات من منتج معين سواء بالقيمة أو الكمية أو كنسبة من قيمة الإنتاج المحلى. وتعتبر الاتفاقية أن هذه الإجراءات سالفة الذكر مقيدة للتجارة ولها آثار تشوه من حرية التجارة.
ولكن الاتفاقية تربط هذه الإجراءات بتجارة السلع فقط دون تجارة الخدمات، وبصفة خاصة فى الدول النامية. وتنص الاتفاقية فى هذا المجال على الآتى([51]) :
1- فى غضون 90 يوماً من دخول اتفاقية منظمة التجارة العالمية حيز التنفيذ تقوم الدول بإخطار مجلس التجارة فى السلع بالإجراءات المتعلقة بالاستثمار فى علاقته بالتجارة والتى تطبقها هذه الدول.
2- يتعين على الدول أن تلغى هذه الإجراءات فى غضون عامين بالنسبة للدول المتقدمة من وقت دخول اتفاقية إنشاء منظمة التجارة العالمية حيز التنفيذ، وفى غضون خمسة أعوام بالنسبة للدول النامية، أما الدول الأقل نمواً فتصل المهلة المعطاة لها إلى سبع سنوات.
3- ويمكن لمجلس تجارة السلع، بناءاً على طلب من الدولة، أن تمدد هذه الفترة الانتقالية لإزالة إجراءات الاستثمار المتعلقة بالتجارة بالنسبة للدول النامية أو الأقل نمواً، والتى تعانى من مصاعب فى تطبيق الاتفاقية آخذاً بعين الاعتبار الاحتياجات التجارية والمالية لهذه الدول.
4- وخلال هذه الفترة الانتقالية لا تستطيع الدولة أن تعدل من إجراءات الاستثمار المتعلقة بالتجارة، والسابق لها إثباتها ضمن التزاماتها، خاصة تلك المطبقة حين نفاذ اتفاقية منظمة التجارة العالمية. أما إجراءات الاستثمار المتعلقة بالتجارة والتى تقنن خلال 180 يوماً قبل نفاذ اتفاقية إنشاء منظمة التجارة العالمية فإنها لن تستفيد من الفترات الانتقالية السابق ذكرها.
5- للدولة التى تطبق إجراءات الاستثمار المتعلقة بالتجارة السابق ذكرها أن تطبق خلال الفترة الانتقالية هذه الإجراءات على الاستثمارات الجديدة بشرط أن تكون منتجات هذه الاستثمارات مماثلة لتلك المفروض عليها هذه الإجراءات من قبل من أجل تفادى التشوهات فى المنافسة بين منتجات الاستثمارات الجديدة ومنتجات الاستثمارات السابق تطبيق هذه الإجراءات عليها. ومن المفهوم أن هذه الإجراءات يجب أن تلغى بانتهاء الفترة الانتقالية مع إلغاء إجراءات الاستثمار المتعلقة بالتجارة والمنشأة ابتداء.
6- تلتزم الدول المطبقة لإجراءات الاستثمار المتعلقة بالتجارة بكافة بنود اتفاقيات التجارة فى السلع خاصة إجراءات الشفافية والتشاور وتسوية المنازعات. وتتعهد بإمداد الدول الأخرى بأية معلومات تتعلق بهذه الإجراءات والتشاور بشأنها مع الدول فى حالة طلبها ذلك.
7- تنشأ لجنة لإجراءات الاستثمار المتعلقة بالتجارة، وتكون عضويتها مفتوحة لكل دول منظمة التجارة العالمية، وتنتخب هذه اللجنة رئيساً ونائباً لرئيسها وتجتمع مرة على الأقل كل عام، أو بناءاً على طلب من أحد الأعضاء. وتضطلع اللجنة بمهام مجلس التجارة فى السلع، وفى إطارها يمكن للدول أن تتشاور حول هذه الاتفاقية الخاصة بالإجراءات على أن ترفع تقريرها السنوى إلى مجلس التجارة فى السلع.
8- يقوم مجلس التجارة فى السلع خلال مدة أقصاها خمس سنوات بعد دخول اتفاقية إنشاء منظمة التجارة العالمية حيز التنفيذ بمراقبة تنفيذ اتفاقية الإجراءات من أجل وضع سياسة أفضل للاستثمار وإعمال قوى المنافسة.
وفى المرحلة الثالثة يجئ مشروع اتفاقية الاستثمار متعدد الأطراف والتى يجرى إعدادها فى إطار منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية (باعتبار شركات أعضاءها الفاعل الرئيسى على المستوى العالمى فى مجال الاستثمار المباشر حيث قدمت نحو 80% من تدفقات الاستثمار المباشر على مستوى العالم فى عام 2004، كما استقبلت نحو 65% منها([52]))، ومنظمة التجارة العالمية بحيث تعد اتفاقية مفتوحة يمكن للدول غير الأعضاء فى المنظمتين الانضمام إليها بشرط قبول ما تنص عليه من التزامات. ويبدوا أن اختيار هذا السبيل للتوصل إلى الاتفاقية يعكس حرص الدول الرأسمالية المتقدمة (وشركاتها متعددة الجنسيات) على الاستفادة من تجربة مفاوضات الجات التى شاركت فيها عشرات البلدان لعدد من السنين للتوصل إلى حلول توفيقية تحقق مصالح مختلف الأطراف أو قبولها على الأقل لهذه الحلول. ومن ثم رغبت هذه الدول فى التوصل بشكل عملى إلى قواعد عامة يتم التفاوض بشأنها بين الدول المتقدمة أساساً، ثم يتم بعد ذلك فرضها كمعطى على دول العالم النامى التى يتعين عليها قبولها ككل دون مناقشة. إلا أن المنظمة حرصت فى ذات الوقت على إجراء حوارات مع بعض الدول المؤثرة والتى يشكل الاستثمار الأجنبى أهمية ملموسة بالنسبة لها فعقدت على سبيل المثال فى يوليو 1996 وفبراير 1997 اجتماعين فى البرازيل لإلقاء الضوء على الاتفاقية والدعوة للانضمام إليها بين دول أمريكا اللاتينية. وعلى صعيد آخر تم فى أبريل 1996 عقد اجتماع دعيت إليه بعض الدول الآسيوية بالإضافة إلى كل من مصر والمغرب وإسرائيل وجنوب أفريقيا، كما تم عقد لقاءات مماثلة مع دول البلطيق.
ومن ناحية أخرى حرصت المنظمتان منذ البداية على مشاركة ممثلى قطاع الأعمال والعمال والمنظمات غير الحكومية لضمان أكبر قدر من التأييد لأحكامها.
وتتمثل الجوانب الرئيسية لمشروع تلك الاتفاقية فيما يلى([53]) :


1- من حيث المفاهيم الرئيسية ونطاق العمل :
أ- توسيع مفهوم الاستثمار الأجنبى ليشمل ليس فقط مشروعات الاستثمار المباشر (إنشاء مشروعات جديدة أو التوسع فى مشروعات قائمة) بل أيضاً استثمارات المحفظة (سواء أسهم أو سندات) والعقارات، وحقوق الملكية الفكرية والتراخيص، مع الحرص على تأكيد أن البنود سالفة الذكر تأتى على سبيل المثال وليس الحصر. وسواء تم الاستثمار من جانب شركة أجنبية أو شركة تابعة لها منشأة وفقاً للقوانين المحلية فى الدولة الضعيفة.
ب- توسيع نطاق سريان الاتفاقية ليشمل مرحلة "ما قبل الاستثمار" بما يكفل له القدرة على النفاذ إلى الأسواق، ثم "ما بعد الإستثمار" بما يكفل له الحماية.
2- من حيث معاملة الاستثمار الأجنبى :
أ- يتمتع المستثمر الأجنبي بنفس معاملة المستثمر المحلى فيما يتعلق بالمشروعات المطروحة للخصخصة، بمعنى إتاحة الفرصة للشركات دولية النشاط لشراء المشروعات العامة المطروحة للبيع وإدارتها.
جـ- يحظر على البلد المضيف إلزام المستثمر الأجنبي بمتطلبات أداء معينة Performance Requirements وتتخذ البنود الواردة فى اتفاقية Trims والقواعد المعمول بها فى إطار منظمة التجارة العالمية كنقطة البدء فى هذا المجال.
3- من حيث حماية الاستثمارات :
أ- يتمتع المستثمر الأجنبى بمعاملة عادلة على قدم المساواة مع المستثمر الوطنى مع الضمان المستمر لأمنه.
ب- لا يسمح بنزع الملكية أو أى إجراء له نفس الآثار إلا للصالح العام ودون ممارسة أى تمييز وعلى أن يقابله تعويضات فورية كافية وفعالة بمقتضى إجراءات قانونية، بحيث يتم سداد تلك التعويضات دون أى تأخير وفقاً للقيمة السوقية للإستثمار ويتم تحويلها للخارج بحرية تامة، وينص المشرع على أن تتضمن تلك التعويضات دفع فائدة على مبالغ التعويض تحتسب عن الفترة من تاريخ نزع الملكية حتى تاريخ سداد التعويض، فضلاً عن تغطية أى خسائر يمكن أن تنجم عن تغيرات سعر الصرف.
جـ- تتمتع جميع المدفوعات المتعلقة بالمشروع بحرية التحويل سواء إلى الخارج أو داخل البلد المضيف ودون أى تأخير.
د- إذا قامت الدولة الأم بتعويض أحد مشروعاتها عن الخسائر التى لحقت به فى الدولة المضيفة، يكون للدولة الأم المطالبة بكافة حقوق المشروع تجاه الدولة المضيفة.
هـ- للمستثمر الحق فى الحصول على تعويض نقدى إذا قامت الدولة المضيفة بقصر ممارسة نشاط معين على جهة واحدة محتكرة سواء كانت حكومية أم خاصة، حيث يعتبر ذلك بمثابة تأميم أو نزع ملكية للشركات الأخرى القائمة.
4- من حيث العمالة بالمشروع :
على الرغم من حساسية موضوع السماح بحرية استقبال العمالة الأجنبية فى ظل ارتفاع معدلات البطالة فى معظم الدول الرأسمالية المتقدمة، إلا أن مشروع الإتفاقية قد أسفر حتى الآن عن السماح بما يلى ([54]):
أ- تتمتع المشروعات (التى لا يقل رأسمالها عن حد أدنى معين) بالحق فى استخدام العمالة الأجنبية الضرورية فى الوظائف الرئيسية (المواقع التنفيذية، المديرون، الخبراء المتخصصون) حيث يمنح هؤلاء الحق فى الدخول إلى البلد المضيف والإقامة المؤقتة والحصول على التصريح اللازم للعمل.
ب- يسمح لزوجات هؤلاء العاملين وأطفالهم بحق الدخول والإقامة المؤقتة (دون التصريح بالعمل).
5- من حيث سبل حل المنازعات :
يعطى مشروع الاتفاقية متعددة الأطراف للإستثمار MAI للمستثمر الأجنبى الحق فى حمل الحكومات على المثول أمام أشكال متنوعة من هيئات التحكيم الدولية لمقاضاتها عن الخسائر التى يرى أنه قد تحملها من جراء عدم احترام بنود الاتفاقية. وللمستثمر مطلق الحرية فى تحديد ما إذا كان هناك قانون أو سياسة معينة لحكومة الدولة المضيفة تمثل انتهاكاً للاتفاقية وتستوجب التحكيم، وما إذا كان يرغب فى اللجوء للتحكيم الدولى أم لا. وعلى هذا تلتزم الدولة الموقعة على الاتفاقية بمنح موافقتها المسبقة على الخضوع لإجراءات التحكيم إذا ما أقام المستثمر دعوى ضدها ،وأن تمثل أمام إحدى هيئات التحكيم الدولية. وتلزم الاتفاقية قضاء الدولة المضيفة عضو الاتفاقية بتطبيق أحكام الهيئات الدولية الصادرة ضد حكومة الدولة المعنية.
وتواكب مع ما سبق، قيام العديد من الدول بإبرام اتفاقيات ثنائية فيما بينها لتشجيع وحماية الاستثمارات المتبادلة ومنع الازدواج الضريبى فيما يخص المعاملات التجارية والاستثمارية للشركات متعددة الجنسيات والموظفين التابعين لها وكذلك المستثمرين والأفراد الذين يقومون باستثمارات مشتركة بين الدول، وتشترك الأطر التنظيمية للاتفاقيات السابقة فى السعى لضمان حرية الحركة للاستثمارات الأجنبية عامة ولاستثمارات الشركات متعددة الجنسيات بصفة خاصة فيما يتعلق بحرية تحويل الأرباح وإعادة تصدير رأس المال فى حالة التصفية أو البيع وتمتعها بنفس معاملة الشركات الوطنية فى مجال حوافز الاستثمار، كما تكفل لها الحماية والحق فى التعويض الفورى المناسب فى حالة المصادرة أو التأميم أو عند فسخ العقد لأسباب سياسية، كما توضح سبل تسوية المنازعات بين المستثمرين والدولة المضيفة([55]).
وتشير أحدث الإحصاءات بشأن عدد هذه الاتفاقيات الثنائية إلى أنه وصل إلى 2392 معاهدة فى مجال تشجيع وحفز الاستثمارات المتبادلة، و 2559 معاهدة بشأن منع الازدواج الضريبى فى خلال عام 2004 فقط([56]). كما اتجهت عدة دول نامية ومتقدمة على حد سواء إلى تبنى قوانين وتشريعات داخلية تجعل بيئتها الاستثمارية أكثر مواتاة للمستثمرين والشركات متعددة الجنسيات، فمن بين 271 تغييراً من هذا القبيل تتصل بالاستثمار الأجنبى عامة واستثمارات الشركات متعددة الجنسيات تم وضعها فى عام 2004، انطوى 235 تغييراً منها على اتخاذ خطوات لفتح مجالات جديدة أمام الاستثمار الأجنبى عامة واستثمارات هذه الشركات على وجه الخصوص، بالإضافة إلى ذلك قام أكثر من 20 بلداً فى عام 2004 بتخفيض ضرائب إيرادات الشركات لديها فى محاولة من هذه البلدان لاجتذاب مزيد من الاستثمار الأجنبى والذى يأتى أغلبه من الشركات متعددة الجنسيات([57])، ووصل إجمالى عدد الدول التى أجرت تغييرات وتعديلات فى نظمها وتشريعاتها وسياساتها المتعلقة بالإستثمار فى نهاية عام 2004 إلى 102 دولة([58]).
وفرت السياسات والإجراءات السابقة مناخاً مواتياً للشركات متعددة الجنسيات لزيادة استثماراتها ونشرها جغرافياً فى أكثر من منطقة ودولة على المستوى العالمى، وبالتالى زيادة الشركات التابعة أو النتسبة لها فى الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، وزيادة أرباحها وعائدات نشاطاتها لإستثمارية وبالتالى زيادة دورها المالى والتنموى على الساحة العالمية.
تطور الأداء الاقتصادي للشركات متعددة الجنسيات على المستوى العالمى
إزداد حجم وأنماط الشركات العالمية والآسيوية متعددة الجنسيات تبعاً للتطورات التى عرضنا لها سلفاً فى الهيكل القانونى والتنظيمى الدولى لنشاط هذه الشركات، وتبعاً للسياسات التى قامت بها الدول المتقدمة والنامية بتنفيذها لجذب استثمارات هذه الشركات للعمل فيها وتواكب مع ما سبق رغبة وطموح هذه الشركات فى مد أنشطتها ومجالات عملها إلى خارج محدود الدولة الأم التى تعمل فيها سعياً وراء جنى الأرباح وتعظيم عوائد نشاطها وفتح أسواق جديدة لمنتجاتها، وتخفيض تكاليف إنتاج السلع والخدمات التى تقوم بإنتاجها إما من خلال الحصول على مواد خام أو سلع ومواد إنتاج وسيطة بأسعار أقل وإنتاج السلع أو الخدمات بتكلفة أيدى عاملة أقل أجراً من العمالة فى الشركة الأم.
أولا: التطور العام لحجم وأداء الشركات متعددة الجنسيات :
ويبدو هذا التزايد فى حجم وأنماط الشركات متعددة الجنسيات جلياً من خلال تتبع عدد هذه الشركات خلال الفترة من عام 1960 وحتى عام 2004، فوفقاً لتقارير الاستثمار العالمى فقد قفز عدد هذه الشركات من سبعة آلاف شركة فى نهاية عقد الستينيات من القرن العشرين إلى 24 ألف شركة فى بداية عام 1990([59]). وفى بداية عام 1992، ومع تبنى عدد من الدول النامية لبرامج الإصلاح الإقتصادى وبزوغ العديد من الشركات متعددة الجنسيات التى تنتمى لعدة دول نامية مثل : كوريا والصين وهونج كونج وتايلاند وتايوان وسنغافورة والمكسيك والبرازيل – على الساحة العالمية بتوجيه استثماراتها خارج الدول التى تنتمى لها، ازداد عدد الشركات متعددة الجنسيات إلى 35 ألف شركة وبلغ الشركات والفروع الأجنبية التابعة لها إلى 150 ألف شركة، ووصلت المبيعات العالمية لهذه الشركات وفروعها المنتشرة فى الدول المتقدمة والنامية إلى مبلغ 4.4 تريليون دولار، واستطاع هذا العدد من الشركات استيعاب نحو 73 مليون فرد للعمل فيها، وعلى الرغم من أن هذا العدد لا يمثل سوى نسبة 3% فقط من إجمالى القوى العاملة آنذاك، إلا أن هذه النسبة تزداد إلى 10% إذا ما تم استبعاد الأنشطة الزراعية على المستوى العالمى، كما أنها تمثل 20% من إجمالى القوى العاملة فى الدول المتقدمة. علاوة على ما سبق هناك آثارغير مباشرة للعمالة فى أنشطة الشركات متعددة الجنسيات، حيث تقوم العديد من الصناعات الوسيطة والموردين الخارجيين والمقاولين الصغار بتوفير المواد الخام والمكونات اللازمة للشركات متعددة الجنسيات، مما يسهم فى خلق مئات أو آلاف من فرص العمل الإضافية فى هذه الصناعات المغذية، فعلى سبيل المثال فإن كل فرصة عمل فى صناعة السيارات يقابلها توليد خمس فرص عمل فى الصناعات المغذية لصناعة السيارات. لذا فقد أجمعتت التقريرات على أن الشركات متعددة الجنسيات قد ساهمت فى توليد أكثر من 150 مليون وظيفة فى الصناعات المغذية لها فى ذلك العام كحد أدنى([60]).
وفى عام 2000 قفز عدد الشركات عما كانت عليه فى عام 1992، ووصل عدد الفروع والشركات الأجنبية التابعة لهذه الشركات إلى أكثر من 800 ألف شركة فى الدول المتقدمة والنامية وبفارق يقدر بنحو 650 ألف شركة كما كان عليه الوضع فى عام 1992 وذلك على الرغم من حدوث عمليات إندماج وشراء شركات عبر الحدود بمبلغ وصل إلى 1.14 تريليون دولار. وقفزت المبيعات التى أبرمتها الفروع والشركات الأجنبية التابعة من 5.4 تريليون دولار فى عام 1990 إلى 15.68 تريليون دولار فى عام 2000 تم توجيه 3.57 تريليون دولار للتصدير خارج الدول التى تعمل فيها. وبلغ مجموع أصول هذه الفروع والشركات الأجنبية التابعة نحو 21.10 تريليون دولار، بزيادة وصلت إلى 15.41 تريليون دولار عما كانت عليه هذه الأصول فى عام 1990.
وزاد الناتج الإجمالى لهذه الشركات والفروع الأجنبية من 1.42 تريليون دولار فى عام 1990 إلى 3.16 تريليون دولار فى عام 2000. وقفز حجم العمالة بالشركات والفروع الأجنبية للشركات متعددة الجنسيات من 23.72 مليون عامل فى عام 1990 إلى 45.58 مليون عامل فى عام 2000 بنسبة زيادة تقارب 95% عما كانت عليه فى عام 1990([61]) وهو ما يوضحه الجدول التالى :
ووفقاً لإحصاءات الأونكتاد فى عام 2005، فقد شهدت الشركات متعددة الجنسيات قفزات أخرى من حيث عددها والذى بلغ 70 ألف شركة بنسبة زيادة 100% عما كانت عله فى عام 1992، وكذلك من حيث المبيعات التى حققتها الشركات والفروع الأجنبية التابعة والتى وصلت إلى 16.96 تريليون دولار فى عام 2003 ونحو 18.67 تريليون دولار فى عام 2004، علاوة على زيادة الناتج الإجمالى لهذه الشركات أيضاً من 5.57 تريليون دولار فى عام 2003 إلى 5.91 تريليون دولار فى عام 2004، كما ارتفع مجموع أصول الشركات والفروع الأجنبية التابعة للشركات متعددة الجنسيات الأم من 32.18 تريليون دولار فى عام 2003 إلى 36 تريليون دولار فى عام 2004، وزادت صادرات هذه الشركات أيضاً من 3.07 تريليون دولار فى عام 2003 إلى 3.69 تريليون دولار فى عام 2004، وشهدت العمالة لدى هذه الشركة زيادة فى حجمها من 53.19 مليون عامل فى عام 2003 إلى 57.39 مليون عامل فى عام 2004([62])، وهى المصدر : الأونكتاد، تقرير الإستثمار العالمى 2005 : الشركات عبر الوطنية وتدويل البحث والتطوير، 2005، ص7.
ويمكن تقسيم الشركات متعددة الجنسيات وفقاً لجنسية الدولة الأم التى تتبعها هذه الشركات ومجالات نشاطها والتوزيع الجغرافى، إلى ما يلى ([63]):
أ- تنفرد الولايات المتحدة الأمريكية بأكبر عدد من الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، حيث بلغ عدد الشركات التابعة لها 175 شركة من بين أكبر 500 شركة فى العالم فى عام 1997، زادت إلى 176 شركة فى عام 2005، كما يتضح من الجدول رقم (4-2)، الذى سجل الزيادة المضطردة فى عدد الشركات الأمريكية من عام لآخر خلال الفترة من عام 1994 إلى عام 2005، والتى تواكب معها زيادة كل من الإيرادات والأرباح التى حققتها هذه الشركات.

يتضح من الجدول السابق أنه على الرغم من أن الشركات الأمريكية تمثل نسبة 35.2% من إجمالى عدد الشركات الخمسمائة الأكبر على المستوى العالمى، إلا إنها تمكنت من تحقيق إيرادات تربو على نسبة 47.85% من إجمالى الإيرادات التى حققتها الشركات الخمسمائة فى عام 2005، حيث وصل إجمالى الإيرادات فى ذلك العام إلى مبلغ 6.18 تريليون دولار بعد أن كانت لا تتعدى مبلغ 3.97 تريليون دولار فى عام 1997 بنسبة زيادة بلغت 64.31 عما كانت عليه فى عام 1997، وذلك على الرغم من عدم وجود زيادة كبيرة فى عدد الشركات الأمريكية فى عام 2005 عما كانت عليه فى عام 1997 حيث لم يزد عدد الشركات إلا بشركة واحدة، ويكمن السبب فى زيادة الإيرادات إلى كثافة استحواذ الشركات الأمريكية على شركات أخرى أمريكية أو أجنبية أصغر حجماً، من قبيل استحواذ شركة جنرال موتور الأمريكية على شركة دايو موتور الكورية فى عام 1999، علاوة على توسيع نشاط الشركات الأمريكية فى إنشاء عدد من الفروع والشركات التابعة فى الدول المتقدمة والنامية، علاوة على تمتع الشركات الأمريكية بوضع احتكارى متميز فى الحصول على عقود الإعمار والتصنيع خارج الولايات المتحدة (كما حدث فى إسناد عقود إعادة الإعمار فى العراق لشركات أمريكية، وهو ما تكرر فى اليابان وكوريا والبوسنة).
ووفقاً للبيانات والمعلومات المتاحة عن إيرادات الشركات الأمريكية فى عام 2005، فقد جاءت شركة محلات "وول مارت" و "إكسون موبيل" و"جنرال موتور" و"فورد موتور" و"جنرال إليكتريك" و"شيغرون تيكسو" و"كونكو فيليب" و"سيتى جروب" فى المراتب الثمانى الأولى فى قائمة الشركات الأمريكية من حيث الإيرادات حيث حققت هذه الشركات إيرادات صافية تجاوزت المائة مليار دولار فى كل منها، وجاءت إيرادات الشركات السابقة فى عام 2005 كما يلى : 287 و270 و193 و172 و152 و147 و121 و108 مليارات دولار على التوالى. وجاءت ست شركات أمريكية فى مقدمة أكثر 10 شركات عالمية متعددة الجنسيات تحقيقاص للأرباح الصافية وهى شركات : إكسون موبيل 25.3 مليار دولار، وسيتى جروب 17 مليار دولار، وجنرال إليكتريك 16.8 مليار دولار، وبنك أوفى أمريكا جروب 14.1 مليار دولار، وشيفرون تيكسو 13.32 مليار دولار، وشركة فايزر 11.95 مليار دولار، وذلك خلال عام 2005. ولاشك أن الأرقام السابقة تمثل طفرة كبيرة فى نشاط الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات تفوق ما تحققه بعض الدول مثل مصر من ناتج محلى إجمالى أو إيرادات سنوياً، فعلى سبيل المثال فإن إيرادات شركة وول مارت أو إكسون موبيل فى عام 2005 تفوق الناتج المحلى الإجمالى لمصر والذى لا يتعدى مبلغ 50 مليار دولار فى أفضل التقديرات.
ب- احتلت اليابان المرتبة الثانية من حيث عدد الشركات متعددة الجنسيات التابعة لها فى قائمة الخمسمائة شركة العملاقة، والتى وصل عددها فى عام 2005 إلى 81 شركة فقط بتراجع قدره 31 شركة عما كان عليه الوضع فى عام 1997 و68 شركة فى عام 1994، ويعزى هذا التراجع إلى التأثير السلبى للأزمة الإقتصادية التى لحقت بدول جنوب وشرق آسيا فى عام 1997 وتسببها فى إنكشاف المراكز المالية الحقيقية لأغلب شركات هذه الدول، مما أجبر هذه الشركات إما لتقليص نشاطها واستثماراتها الخارجية أو لإعلان إفلاسها وبالتالى إندماجها مع شركات أخرى أقوى وأكبر حجماً([64]).
وهو الأمر ذاته الذى تكرر مع الشركات الكورية الجنوبية والتى شهدت هى الأخرى تقلصاً كبيراً فى عددها فى قائمة الشركات الخمسمائة الكبرى عالمياً حيث انخفض عدد الشركات الكورية من 25 شركة فى عام 2005، وقد تسببت الأزمة الإقتصادية التى ألمت بكوريا فى إفلاس عدد كبير من الشركات الكورية حيث أنه قد أعلنت 11 شركة من بين أكثر ثلاثين شركة فى كوريا إفلاسها، ناهيك عن تقليص نحو 15 شركة أخرى لنشاطها وإستثماراتها فى الخارج([65]). وقد إنعكس تقلص عدد الشركات اليابانية والكورية فى إخفاض إيرادات هذه الشركات والتى لم تزد على 2.37 تريليون دولار بالنسبة للشركات اليابانية بانخفاض قدره 615 مليار دولار عن عام 1997، بينما لم تزد إيرادات الشركات الكورية على مبلغ 313 مليار دولار فى عام 2005 بإنخفاض قدره 298.5 مليار دولار عما كانت عليه فى عام 1997.
كما انعكس تقلص نشاط الشركات اليابانية والكورية أيضاً فى حجم الأرباح التى حققتها هذه الشركات فى عام 2005، وهو الأمر الذى يبدو جلياً فى قائمة الشركات الخمسين الأكثر تحقيقاً للأرباح فى ذلك العام حيث لم تدخل سوى شركتين هما : تويوتا موتور اليابانية وسامسونج للإلكترونيات الكورية فى قائمة الشركات الخمس عشر الأكثر تحقيقاً للأرباح فى عام 2005 بمبلغ 10.8 مليار دولار للأولى و 9.4 مليار دولار للثانية.
جـ- احتلت فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة المراتب الثالثة والرابعة والخامسة على التوالى من حيث عدد الشركات متعددة الجنسيات التابعة لها فى قائمة الخمسمائة شركة الكبرى عالمياً عام 2005، إلا أن هذا الترتيب يختلف بعض الشئ من حيث تحقيق الإيرادات حيث تتبوأ ألمانيا المرتبة الثالثة تليها فرنسا فى المرتبة الرابعة ثم المملكة المتحدة فى المرتبة الخامسة ويصل إجمالى إيرادات شركات هذه الدول إلى نحو 4218 مليار دولار تمثل نسبة 32.6% من إجمالى إيرادات الشركات الخمسمائة الكبرى العالمية ونحو 68.20% من إجمالى إيرادات الشركات الأمريكية الكبرى. ولم يدخل من شركات هذه الدول فى قائمة الشركات العشرين الأكثر تحقيقاً للأرباح فى عام 2005 سوى أربع شركات فقط هى : شركة دويتش شل الملكية بأرباح وصلت إلى 18 مليار دولار، وشركة بى بى BP بنحو 15.3 مليار دولار، وشركة توتال بمبلغ 12 مليار دولار، ومع ذلك فإنه بمقارنة أداء شركات هذه الدول فى جنى الإيرادات فى عام 2005 مقارنة بإيرادات شركات هذه الدول فى أعوام 1994 و1997([66]) فإن هذه الشركات قد تمكنت من مضاعفة حجم إيراداتها ،وذلك بفضل سياسات التركز الإنتاجى وتركيز النشاط الإستثمارى فى المناطق والدول التى تحقق لها عائدات مرتفعة علاوة على تزايد موجات الاندماج والاستحواذ بين شركات هذه الدول مما مكنها من مضاعفة إيراداتها وزيادة أرباحها مقارنة بأداء الشركات اليابانية والكورية فى هذا الشأن.
د- ووفقاً لنمط أو مجال نشاط الشركات الخمسمائة الكبرى على المستوى العالمى، فقد اجتذبت أنشطة قطاع الخدمات والتى تضم : الخدمات المصرفية والمالية والسياحة والترويج والإتصالات والأغذية والمشروبات والفنادق اهتمام نحو 90 شركة من هذه الشركات للعمل فيها، مما مكنها من تحقيق إيرادات تقدر بنحو 1.91 تريليون دولار فى عام 2005. فى حين كانت الغلبة لأنشطة قطاع الصناعة فى إجتذاب نحو 70% من إجمالى هذه الشركات للعمل فيه وتحقيق إيرادات وصلت إلى 9.047 تريليون دولار فى عام 2005، ووصل عدد الشركات التى تعمل فى نشاط الصناعة الإلكترونية والمدرجة ضمن قائمة الخمسمائة شركة الكبرى عالمياً إلى 18 شركة هى : سيمنز، وهيتاشى، وماتسوشيتا للصناعات الإلكترونية وسامسونج للإلكترونيات، وسونى، وتوشيبا، وتايكو الدولية، وإل جى للإلكترونيات، ورويال فيليبس للإلكترونيات، وميتسوبيشى للإلكترونيات، وشارب، وسانيو للإلكترونيات وإليكترولوكس، وهون هاى باريونز الصناعية، وسماتومو للصناعات الإلكترونية، وإيمرسون للإلكترونيات، ووايرل بول، وشنايدر إليكتريك، حققت إيرادات تقدر بنحو 733 مليار دولار فى عام 2005. وقد وصل عدد الشركات الآسيوية القادمة من اليابان وكوريا وتايون تحديداً والمدرجة فى قائمة هذا النوع من النشاط إلى 11 شركة تمثل نسبة 61% من إجمالى عدد الشركات العاملة فى الصناعات الإلكترونية والمدرجة فى قائمة أكبر 500 شركة عالمية متعددة الجنسيات، وبلغ إجمالى إيرادات هذه الشركات الآسيوية نحو 497 مليار دولار فى عام 2005 تمثل نسبة 63.8% من إجمالى إيرادات الشركات الكبرى فى مجال الصناعات الإلكترونية([67]).
ويعمل فى مجال صناعة السيارات وقطع الغيار الخاصة بها والمدرجة ضمن قائمة الشركات الخمسمائة الكبرى فى العالم نحو 34 شركة ،حققت إيرادات بلغ إجمالها فى عام 2005 نحو307و1 تريليون دولار ،وبلغ نصيب آسيا من هذه الشركات نحو15 شركة من هذه الشركات، تمثل 50% من اجمالى الشركات الكبرى فى صناعة السيارات ،وهى : تويوتا، وهوندا ،ونيسان ،وهيونداى ،ومازدا ،وسوزوكى ،وماجنا الدولية ،وموتسبيشى وأساسن سيكى، وكوك ،وهانكوك ،وايسوزو، وتشينا فرست أوتوموتيف، وفيوجى للصناعات الثقيلة ،وياماها موتور. ووصل إجمالي إيرادات هذه الشركات فى عام 2005 إلى 570 مليار دولار ([68]).
ثانيا : السمات المميزة فى الأداء الاقتصادى للشركات الآسيوية متعددة الجنسيات :
ربط عدد من المتخصصين فى الدراسات المتعلقة بالشركات متعددة الجنسيات عامة والشركات الآسيوية بصفة خاصة بين تصاعد دور الشركات الآسيوية على الساحة الاقتصادية العالمية وبين إتباعها عدة استراتيجيات للانتشار والتوسع الاقتصادى خارج حدود الدولة الأم مكنتها من تجاوز المعوقات والسلبيات التى واجهت نظيرتها الغربية ، ناهيك عن تفضيل وترحيب الدول النامية باستثمارات الشركات الآسيوية فيها عن الشركات الغربية التى ارتبط تاريخها فى هذه الدول ببعض الممارسات الضارة بالتنمية فيها .وقد اتجهت تفسيرات هؤلاء المتخصصين إلى تبنى واحدة من نظريتين أساسيتين تفسران هذا النجاح والتواجد الاقتصادى المميز للشركات الآسيوية متعددة الجنسيات :الأولى ،تمتعت بقبول كبير فى أواخر السبعينات وأوئل الثمانينات من القرن العشرين ،وتفسر نجاح الشركات اليابانية والكورية والصينية متعددة الجنسيات كنتيجة "لمؤامرة حميدة " أو بالأساليب الحميدة ومنها : توارث أفراد هذه المجتمعات لروح التحدى والمنافسة مع الغربيين ،وسيادة الانسجام والتوافق فى المناقشات وصنع القرارات ،والتوحد القومى حول الأهداف ،وتخدم هذه الركائز البيروقراطية الحكومية والثقافة التضامنية([69]).
على الطرف الآخر ،هناك نظرية أخرى يتزايد مؤيدوها،وتذهب إلى أن نجاح هذه الشركات يأتى نتيجة اتباع مؤامرة وأساليب خبيثة ماكرة ترتكز على تحالف الحكومات مع الشركات بهذه الدول على تحقيق الريادة والسيطرة على الأسواق العالمية وتحطيم قوى المعارضين لهم،وذلك من خلال :تحصين الصناعة المحلية بهذه الدول وتقديم كافة صور الدعم والمنح المالية اللازمة لهذه الشركات لتوسيع نشاطها خارج الحدود ومنها خفض الضرائب والحماية الجمركية ،ناهيك عن قيام هذه الشركات نتيجة لما سبق بإغراق الأسواق العالمية بسلع زهيدة الثمن مع الجودة العالية اعتمادا على خفضها لتكلفة الإنتاج([70]) .
على الرغم من تقديرنا لحجج أنصار التيارين السابقين ،إلا إن أسانيد كل منهما لا تتمتع بقوة الإقناع التى يمكن قبولها ،لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار طبيعة الأعمال والتجارة الدولية لهذه الشركات، فالشركات لا المجتمعات تتنافس على الأسواق، فالشركات فى آسيا كغيرها فى أمريكا وأوربا هى التى يصيبها الازدهار أو الركود .وقد نجحت الشركات الآسيوية فى اختيارها للأصول والأساليب التنافسية كمسار للتقدم على مثيلاتها الغربية ،والتى تشتمل على :
1-المسار التنموى ،ارتبط توسع نشاط الشركات الآسيوية متعددة الجنسيات على الساحة العالمية بتزايد رغبتها فى البقاء والنمو ،ولجأت هذه الشركات إلى تبنى أسلوب زيادة الإنتاج بحجم أكبر من الطلب على هذا الإنتاج أو الدخول فى تصنيع منتج جديد إضافى وهو مايعده البعض من مخاطر الإدارة المالية للشركات ،إلا إن الشركات الآسيوية تعاملت مع هذه المعادلة الصعبة بكل نجاح .ولدينا شركات بارزة اتبعت هذا الأسلوب منها: شركة كانون اليابانية التى كانت متخصصة بالأساس فى صناعة الكاميرات واتجهت إلى تنويع منتجاتها بالدخول فى صناعة معدات التصوير والحاسبات وأجهزة الفاكس وطابعات الليزر([71])، وشركة هيونداى الكورية التى بدأت فى الأساس كشركة منتجات كهربية ثم امتد نشاطها إلى صناعة السيارات ثم التشييد والبناء ،بينما اتجهت الشركات الغربية مثل IBM إلى غلق بعض الفروع والاستغناء عن كثير من الموظفين ([72]).كما رأت عدة شركات آسيوية أن عامل سعر المنتجات ينبغى التخطيط له مما يقتضى خفض تكاليف الإنتاج بما يتناسب مع قدرة السوق على امتصاص المعروض من المنتجات وزيادة الطلب على المنتج .وهناك مثال لهذه الحالة ، فعندما تم طرح أنظمة تسجيل الفيديو "VCR " وأسطوانات الليزر السمعية CD كانت تكاليفها باهظة مما تسبب فى ارتفاع أسعارها ،لذلك انتظرت شركة أر سى إيه RCA الأمريكية وفيليبس حتى تتزايد حركة الطلب بينما اتجهت شركة سونى وماتسوشيتا إلى خلق وتشكيل وزيادة الطلب بزيادة المعروض مما ساهم فى التخفيض المتواصل للسعر والتكاليف وتم زيادة المنتجات إلى الضعف سنويا ،مما جعل الشركات اليابانية تسيطر على إنتاج أنظمة VCR وCD ،وأجبر فى الوقت نفسه الشركات الغربية على شراء المكونات من الشركات اليابانية ,وأخذ ترخيص التصنيع منها ([73]). وقد حذت الشركات الكورية المتخصصة فى الصناعات الكهربية والإليكترونية مثل هيونداى و دايو و إل جى حذو الشركات اليابانية فى زيادة المعروض من السلع وخفض أسعار بيعها بالإضافة إلى التطوير والتنويع المستمر لموديلات وطرازات الأجهزة وزيادة الدعاية والتوزيع إلى نسبة 15% سنويا ([74]).
2-السبق على تحركات المنافسين : تقوم الشركات الآسيوية متعددة الجنسيات بتتبع سلوكيات المنافسين بكل دقة ،والتحرك فى إطار معاكس لتصرفات الخصم ،حيث ترتضى هذه الشركات بنسبة محدودة من الأرباح على أن يوازيها نسبة كبيرة فى الطلب والتوزيع فيما يسمى بوفورات الإنتاج الكبير ، ويرفع أغلب هذه الشركات الشعار التالى ([75]):
- كن الأفضل ، ولاتكن من التابعين أو المتخلفين Be Better , Not Behind) )
-إذا لم تكن الأفضل ، فكن مختلفا (If Not Better , Be Different )
لذا لم يكن من المستغرب اتجاه الشركات الآسيوية إلى تحسين وتنويع منتجاتها للتفوق على الشركات الغربية ، وتعد صناعة السيارات فى كل من اليابان وكوريا والصين وماليزيا دليلا بارزا على ذلك([76]) .
3- استغلال وتشكيل المزايا التنافسية : تتبع الشركات الآسيوية عددا من المزايا والوسائل المتوارثة فى عملية التصنيع كأساس فى استراتيجيتها التصديرية ، و يتضح ذلك جليا فى استخدام التكلفة المنخفضة فى التصنيع كأحد أسلحة المنافسة ،اعتمادا على الجودة العالية للمنتج والأجور المنخفضة فى الدول النامية،وتنوع خطوط الإنتاج والتوجه إلى الابتكار التكنوجى ، واستخدام هذه التركيبة فى أسواق منتقاة ،واختيار المنتجات التى تتناسب مع الأسواق الأجنبية . لذلك يلاحظ توجه أغلب هذه الشركات فى دولها الأم إلى التركيز على الصناعات التى تعتمد على خبرات تكنولوجية عالية وأيدى عاملة قليلة العدد ومرتفعة الخبرة والتكنولوجيا ،مما يضمن لها تحقيق أرباحا مرتفعة ، والتوسع فى الدول النامية فى الصناعات التى تحتاج أيدى عاملة رخيصة وتكلفة تشغيل أقل واستثمارات ضخمة وتحقق فيها أرباحا ضخمة . وكانت بداية توجه الشركات الآسيوية إلى الاستثمار الخارجى فى عقد السبعينيات حيث قامت الشركات اليابانية بتوجيه استثماراتها إلى الدول الأوربية والولايات المتحدة والمنافسة فى هذه الأسواق بعناصر الجودة العالية والتكلفة المنخفضة وتنوع المنتجات ،مما أجبر الشركات المنافسة على إخلاء الساحة مبكرا أمام هذه الشركات وحافظ على استمرار نمو الشركات اليابانية ، وتبعت الشركات الكورية والصينية فى عقدى الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين نفس المسار الذى سلكته الشركات اليابانية فى توجيه استثماراتها للخارج وتنافست الشركات الآسيوية فيما بينها فى توجيه ونقل جزء من عمليات التصنيع الخاصة بها إلى المنطقة الآسيوية ، لذا فليس من المستغرب أن نجد هذه المنطقة من أولى مناطق العالم جذبا لاستثمارات الشركات متعددة الجنسيات وفى ذات الوقت تنتقل منها بعض استثمارات الشركات الآسيوية إلى باقى مناطق العالم ([77]).
علاوة على ماسبق ، فإن الشركات الآسيوية متعددة الجنسيات تقوم بزيادة الاستثمارات فى قطاع البحث والتطوير R&D كأحد الوسائل الأساسية للتقدم التكنولوجى لها، فقد زادت نسبة الإنفاق لأكبر الشركات اليابانية وهى شركة تويوتا على البحث والتطوير إلى نسبة 40% من جملة دخلها ، بينما تراوح ما تخصصه شركة هيونداى الكورية لهذا القطاع مابين 25-30% من إجمالي دخلها خلال الفترة من 2000-2003 ،وهى نسب تفوق ما تخصصه الشركات الأمريكية الكبرى للبحث والتطوير والتى تتراوح ما بين 10 -20% من إجمالي دخلها ([78]). ويتزايد استغلال الشركات الآسيوية لهذه النفقات على البحث والتطوير فى إحداث معدلات نمو أسرع من مثيلاتها من الشركات الأمريكية . وقد اتجهت أغلب الشركات الآسيوية فى مجال صناعات الكمبيوتر والإليكترونيات والسيارات ومنها شركات : تويوتا وميتسوبيشى وهيونداى ونيسان وتوشيبا وباناسونك وإل جى ودايو ،إلى زيادة ميزانية R&D ، مما جعلها فى المقدمة من حيث معدلات النمو والاستحواذ على الأسواق([79]) ،بينما ركزت الشركات الأمريكية على مجالات الفضاء والاتصالات والمعلومات فى زيادة النسبة المخصصة للبحث والتطوير([80]) .
4- الاستخدام الكفء للتمويل : تتطلب توجهات النمو والاستثمار فى الشركات متعددة الجنسيات توفير موارد مالية لتمويل عمليات التوسع والاستثمار خارج الحدود ،وكغيرها من الشركات متعددة الجنسيات تولد الشركات الآسيوية جزءا من السيولة وتقترض الباقى للوفاء بمتطلباتها. ومع ذلك، تختلف الشركات الآسيوية عن مثيلاتها الغربية فى كميات الأموال المقترضة وسلوكياتها نحو تحقيق الأرباح والايرادات. فأغلب الشركات الآسيوية يقوم باقتراض مبالغ طائلة مما يؤدى بها إلى التعرض مخاطر مالية هائلة قد تتسبب فى تعرض الشركة للانهيار كما حدث لبعض الشركات الكورية مثل دايو موتور وهيونداى والشركات اليابانية مثل نيسان موتور وشارب وباناسونك عقب الأزمة التى عصفت باقتصادات دول منطقة شرق وجنوب شرق آسيا فى عام 1997([81])، لكن هذه المخاطر تقل مع قدرة هذه الشركات على التوظيف الجيد لهذه الأموال، وتعظيم العائد ،مع إنفاق جزء كبير من الأرباح فى تحريك الأسعار إما بخفض تكلفة الإنتاج أو زيادة مخصصات البحث والتطوير وتطوير التسويق .
لذا يلاحظ قلة توزيع الشركات الآسيوية لعوائد الأرباح ،والتى يتم تخصيص أغلبها لتطوير الأداء الاقتصادي العام للشركة ،وينتفع حاملو الأسهم فى هذه الشركات أكثر إذا ما نمت وتقدمت الشركة التى يساهمون فيها، فى حين يرغب حاملو الأسهم فى الشركات الأمريكية فى جنى أكبر قدر ممكن من الأرباح فى أسرع وقت وبأقل مخاطرة ممكنة ، وقيامهم فى بعض الأوقات بالإضرار بالمراكز المالية للشركات من خلال المضاربة غير الرشيدة على أسهمها فى البورصات المالية([82]). ويؤدى استمرار الشركات الأمريكية فى دفع عوائد الأسهم إلى زيادة مصاعبها فى تمويل نموها وتقدمها، والذي يسهم بالتالى فى تقدم ونمو الشركات الآسيوية .
ومن حيث الدور التنموى لهذه الشركات فى الدول النامية ،فتشير خبرة بعض هذه الشركات(خاصة اليابانية والكورية والصينية) إلى قيامها بتحويل الصناعات الخفيفة فى دول : ماليزيا والهند وإندونيسيا وهونج كونج والفلبين إلى صناعات ذات قدرة تنافسية على الصعيد الدولى ، وذلك من خلال توجيه الاستثمار ،ونقل مراكز الإنتاج والبحوث والتطوير إلى هذه الدول، وتركز أغلب هذه الصناعات فى الأجهزة الاليكترونية والمنزلية بالإضافة إلى صناعة السيارات . وبفضل عملية الارتباط بين الشركات اليابانية والكورية وشركائها فى الدول النامية ،استطاعت هذه الشركات تزويد الشركات المحلية بالأصول الرئيسية لعملية التصنيع والتى تشمل : سبل الوصول للأسواق ،وتصميم المنتجات ،ومراقبة الجودة ،وتوفير التمويل اللازم للتوسع فى خطوط الإنتاج وتحديث المعدات ،علاوة على النقل التدريجى للتكنولوجيا من زيادة نسبة المكون المحلى وانخفاض نسبة المكون المستورد من الشركة الأم ([83]).
(1) المجالس القومية المتخصصة ، " تمويل النمو الاقتصادى " ، تقرير المجلس القومى للإنتاج والشئون الاقتصادية ، الدورة الثالثة والعشرون 1996-1997، القاهرة، 1997 ، ص15.
(1) منار على محسن مصطفى ، دور الشركات عابرة القوميات بين المحيط الاجتماعى والتقسيم الدولى للعمل : دراسة للحالة المصرية 1970-1990 ، رسالة‏ ‏دكتوراه‏ ‏غير‏ ‏منشورة‏ , ‏كلية‏ ‏الاقتصاد‏ , ‏جامعة‏ ‏القاهرة‏ 1994 ، ص ص 8-9 .
(1)عبدالوهاب الكيالى، موسوعة السياسة، الجزء الثالث ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت، الطبعة الأولى 1983 ، ص ص 458-459
(1) Tu gendhat , The Multinationals, Eyre and Spotswood , London, 1970, P . 10
(2) john Dunning , The Multinational Enterprise , Allen and Unwin ,London, 1970 , p4
(1) Walter Klauzand , The world Coporations , An Executive in Annals, The America Quarterly of Social Sciences , September 1970 , p . 14
(2)Robart Gilipin , U . S . power and the Multinational corporations, New York , Basic Books , 1975 , p . 8 .‏
(3) Reymond Vernon, Sovereignty at Bay ,New York , Basic Books, 1971 , P . 7
(1) James Behramn. , some patterns in the Rise of Multinational Enterprises , Chapel Hill,London , 1969 , p . 62
(2) U. N Department of Economic and Social Affairs ; Multinational Corporation in World Development ,New York ,1973 , p . 4
(1) ثيودور‏ ‏موران‏، ‏الشركات‏ ‏المتعددة‏ ‏الجنسيات‏ : الاقتصاد السياسى للاستثمار المباشر الأجنبى.............مرجع سابق، ص 22 .
(2) الأنكتاد ، تقرير‏ ‏الاستثمار‏ ‏العالمي‏ 1995 : ‏الشركات‏ ‏عبر‏ ‏الوطنية‏ ‏والقدرة‏ ‏علي‏ ‏المنافسة‏ , ‏الناشر‏ ‏شعبة‏ ‏الشركات‏ ‏عبر‏ ‏الوطنية‏ ‏والاستثمار‏ ‏بالأمم‏ ‏المتحدة‏ , ‏نيويورك‏ , 1995 ‏ص‏ 57 .‏
(1) المرجع السابق : ص ص 59 - 63
(2) ‏‏المجالس‏ ‏القومية‏ ‏المتخصصة‏ ، ‏الآثار‏ ‏المترتبة‏ ‏علي‏ ‏العولمة‏ ‏بالنسبة‏ ‏للاقتصاد‏ ‏المصري‏ , ‏تقرير‏ ‏المجلس‏ ‏القومي‏ ‏للإنتاج‏ ‏والشئون‏ ‏الاقتصادية‏ ‏الدورة‏ ‏السابعة‏ ‏والعشرون2000/2001 ، ‏القاهرة‏ 2001، ‏ص‏ ‏ص‏ 55-56 .‏
([15]( Bennett, A. Le Roy, International Organizations: Principles and Issues, Sixth Edition, New Jersey: Prentice-Hall, Inc., 1995, pp. 162-.163
(2) Giorgo Barba Navaretti ,Jan I Haaland & Anthony Venables , Multinational Coporations Corporations and Global Production Networks :The Implications For Trade Policy , Report Prepared For The European Commission Directorate General For Trade , the center for economic policy research (CEPR) , London ,2005,p.p 5-7.

(1)George C. Lodge &Craig Wilson, multinational corporations: a key to global poverty reduction – part 2 ,http://yaleglobal.yale.edu/display.article?id=6672,15/8/2006.
([18]( Charles P. Kindle Berger, American Business Abroad, New Haven: Yale University Press, 1969, p. .180‏

(1) s.c join & y.puri ," role of multinational corporations in developing countries :policy makers views" in : Geoffrey jones, Multinationals and Global Capitalism from the nineteenth to the twenty – first century , oxford university press ,oxford ,2005 ,pp.92-99
(2)انظر‏ ‏علي‏ ‏سبيل‏ ‏المثال‏ :‏
‏- ‏ ‏وهبي‏ ‏غبريال‏ , '‏الاستثمارات‏ ‏الأجنبية‏ ‏ودور‏ ‏الشركات‏ ‏متعددة‏ ‏الجنسية‏ ‏ومشكلة‏ ‏صيانة‏ ‏الاستقلال‏ ‏الاقتصادي‏', ‏دراسة قدمت فى‏ ‏المؤتمر‏ ‏العلمي‏ ‏السنوي‏ ‏الأول‏ ‏للاقتصاديين‏ ‏المصريين‏ : ‏التنمية‏ ‏والعلاقات‏ ‏الاقتصادية‏ ‏الدولية‏ ، ‏القاهرة‏ : ‏مارس‏ 1976, ‏ص‏ ‏ص‏36-37 .
- Gary m.Quinlivan , Multinational Corporations : Myths and Facts ,http://www.acton.org/publicat/randl/article.15/8/2006
‏‏
(1) Peggy B. Musgrave, U. S. Taxation and Foreign Investment Income: Issues and Arguments, Cambridge, Mass., Harvard Law School, 1969, pp. 109-.111
(2) Robert Gilpin, U.S. Power and Multinational Corporation: The Political Economy of Foreign Investment, London: Macmillan, 1976 (Specially ch. 11: the Political Economy of Foreign Investment), pp. 144-178
(3) Ibid, p.179.
(4) Peggy B. Musgrave ... op.cit., p. .119
(5) John Modeley , Big Business Poor Peoples :The Impact Of Transnational Corporation on the World’s Poor, Zed Books ,1999,pp.112,114,134-136 .
(1)Rephael Schaub , Transnational Corporations and Economic Development in Developing Countries, Zurich University PH.D.-Serie7 , April 2004 ,pp.57-64
(2) Michael W. Hansen ,Economic Theories of Transnational Corporation ,Environment and Development , Copenhagen Business School ph.D.-serie 3, Copenhagen ,1998,pp.11-12
(1) Mark Herkenrath &Volker Bornschier ," Transnational Corporations in World Development – Still The Same Harmful Effects in an Increasingly Globalized World Economy ?", Journal Of World- Systems Research .Vol.9 ,no.1, Winter 2003,pp.108-112.
(2)Rephael Schaub , Transnational Corporations and Economic Development in Developing Countries…op.cit,p.17
(3) مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ، تقرير الاستثمار العالمى 2001 : تشجيع الروابط ، نيويورك وجنيف ، 2001، ص ص .29-30 و43

(1) Michael W. Hansen ,Economic Theories of Transnational Corporation ,Environment and Development…...op.cit ,pp.6-7
(1) للمزيد من التفصيل حول نظريات التجارة الدولية يمكن الرجوع إلى :
- Giorgo Barba Navaretti ,Jan I Haaland & Anthony Venables , Multinational Coporations and Global Production Networks :The Implications For Trade Policy …..op.cit,pp.19-21.
- Michael W. Hansen ,Economic Theories of Transnational Corporation ,Environment and Development…...op.cit ,pp.8-9
(1 )حورية مجاهد ، الاستعمار كظاهرة عالمية ( القاهرة : عالم الكتاب ، 1985 ) ، ص 166
(2 )عبد الخالق عبد الله ، التبعية والتبعية السياسية ( بيروت : المؤسسة الجامعية للطبع والنشر والتوزيع ، 1986 ) ، ص ص 49-50
(3)لمزيد‏ ‏من‏ ‏التفاصيل‏ ‏حول‏ ‏آراء‏ ‏نظريات‏ ‏التبعية‏ ‏في‏ ‏الدور‏ ‏التنموي‏ ‏للشركات‏ ‏متعددة‏ ‏الجنسيات‏, ‏يمكن‏ ‏الرجوع‏ ‏إلي‏ ‏المصادر‏ ‏التالية‏ :‏
‏ - - Berry Gills, 'Dependency and World Systems', Third World Quarterly, vol. 16, No. 1, March 1995, pp. 141-.150‏
‏- - Robert Kaufman, 'A Preliminary Test of the Theory of Dependency,' Comparative Politics, vol. 7, No. 1, 1975, pp. 303-320‏
(1) ج تيمونز روبيرتس و أيمى هايت، من الحداثة إلى العولمة : رؤى ووجهات نظر فى قضية التطور والتغيير الاجتماعي، الجزء الأول،ترجمة: سمر الشيشكلى، مراجعة :محمود ماجد عمر، عالم المعرفة ، العدد 310 ، ديسمبر 2004 ، ص ص .55-58 .
(2) Michael W. Hansen ,Economic Theories of Transnational Corporation ,Environment and Development…...op.cit ,pp13-14.
(3) تم رصد الانتقادات الموجهة لنظريات التبعية من عدة مصادر هى :
- حازم الببلاوى ، النظام الاقتصادى الدولى المعاصر ، عالم المعرفة ، العدد 257 ، مايو 2000 ، ص 33 - 53 .
- ميشيل تشوسو دوفيسكى ، عولمة الفقر ، ترجمة محمد مستجير مصطفى ، كتاب سطور العاشر ، القاهرة ، 1998 ، ص 82 - 92 .
- معتز عبد الفتاح ، الوظيفة الاقتصادية للدولة ، مركز دراسات الدول النامية ، كلية الاقتصاد ، جامعة القاهرة ، 1998 ، ص 321 - 325 .
([39] ) Peter Evans, Dependent Development, Princeton, Princeton University Press, 1979, pp. 47- .50‏
(2)بول‏ ‏كروجمان‏," ‏هل‏ ‏يهدد‏ ‏نمو‏ ‏العالم‏ ‏الثالث‏ ‏رخاء‏ ‏العالم‏ ‏الأول‏ ‏وازدهاره؟‏ "‏, ‏مجلة‏ ‏الثقافة‏ ‏العالمية‏, السنة12، ‏العدد‏ 73‏, الكويت ، ‏نوفمبر‏ 1995, ‏ص‏ ‏ص‏ 111- 112‏ .
(1) المرجع السابق ص ص 126-127 .
(2) ثيودور‏ ‏موران‏ (‏محرر‏) , ‏الشركات‏ ‏المتعددة‏ ‏الجنسيات‏ : الاقتصاد السياسى للاستثمار المباشر الأجنبى , ترجمة :جورج خورى ومراجعة:منير لطفى ، دار الفارس للنشر والتوزيع ،عمان ، 2002‏، ص‏ ‏ص‏ 112-123.‏
(1) يمكن‏ ‏الرجوع‏ ‏لمزيد‏ ‏من‏ ‏التفاصيل‏ ‏إلي‏ :‏
‏- ‏خالد‏ ‏محمد‏ ‏خالد‏, ‏وعبد‏ ‏الله‏ ‏هدية‏ , ‏حوار‏ ‏الشمال‏ ‏والجنوب‏ ‏وأزمة‏ ‏تقسيم‏ ‏العمل‏ ‏الدولي‏ ‏والشركات‏ ‏المتعددة‏ ‏الجنسيات، ‏مكتبة‏ ‏النهضة‏, القاهرة‏ ، 1986 , ‏ص‏ ‏ص‏ 174-.178‏
‏- ‏عبد‏ ‏الخالق‏ ‏عبد‏ ‏الله‏, ‏التبعية‏ ‏والتبعية‏ ‏السياسية‏ ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ، 1986 ، ‏ص‏ .123‏
(2) المجالس‏ ‏القومية‏ ‏المتخصصة‏," الآثار المترتبة على العولمة بالنسبة للاقتصاد المصرى"، ‏تقرير‏ ‏المجلس‏ ‏القومي‏ ‏للإنتاج‏ ‏والشئون‏ ‏الاقتصادية‏، ‏الدورة‏ ‏السابعة‏ ‏والعشرون‏ 2000-2001، القاهرة , 2001 ، ‏ص‏ ‏ص‏ 24-.25‏
(1) لمزيد‏ ‏من‏ ‏التفاصيل‏ ‏حول‏ ‏رؤي‏ ‏أنصار‏ ‏العولمة‏ ‏لدور‏ ‏الشركات‏ ‏العالمية‏ ‏في‏ ‏التنمية‏, ‏يمكن‏ ‏الرجوع‏ ‏إلي‏ ‏المصادر‏ ‏التالية‏ :‏
‏- James Petrass, The Process of Globalization: The Role of the State and Multinational Corporations, http://www.aide.org.za/archives/petrass.htm/23/03/.2006‏
‏- John Baylis & Steve Smith (editor); The Globalization of World Politics, Oxford University Press, New York .1997‏,PP. 17-22
‏- Paul N. Doremus & William W. Keeller, States and Firms: Conventional Images Compel Realities, Princeton University Press, .1998‏,PP.7-15
‏- Viven A. Schmidt, 'The New World Order, Incorporated: The Rise of Business and the Decline of the Nation State', Daedlus, vol. 124, No. 2, Spring 1995 ,PP.54-59.‏
(1) بول هيرست و جراهام طومبسون ،" ما العولمة : الاقتصاد العالمى وإمكانات التحكم" ، ترجمة : فالح عبد الجبار، عالم المعرفة ، العدد رقم 273 ، سبتمبر 2001 ، ص ص .101-142.
([47]) UNCTAD’S WORK Programme on International Agreements: From UNCTAD IX to UNCTAD X. Ducument Symbol: UNCTAD/ITE/IIT/Misc.26, 2002, P.4
(2) لمزيد من المعلومات حول هذه الإتفاقية ومجالاتها، يمكن الرجوع :
رضا محمد هلال، "دور البنوك وسياسات التمويل المصرفى فى دفع التنمية التكنولوجية"فى : محمد قدرى سعيد، وضع استراتيجيات بحوث ودراسات التكنولوجيا الجديدة والبازغة ، الناشر : أكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا، القاهرة، 2004، ص ص43-44.
([49]) Torluicern Frederickson, Forty Years of United Research on FDI, Transnational Corporations, vol. 12, No. 12, December 2003, PP. 5-7
(1) المطابع الأميرية: إتفاقيات الجات، عدد خاص من الجريدة الرسمية، القاهرة، 1995، ص221، ص224.
)2( راجع فى ذلك : المطابع الأميرية ؛ اتفاقيات الجات ،عدد خاص من الجريد الرسمية ... مرجع سابق ص ص222-223. وكذلك : المجالس القومية المتخصصة ،" دورة أورجواى وآثارها على الاقتصاد المصرى"، تقرير المجلس القومى للإنتاج والشئون الإقتصادية، الدورة العشرون للعام 1993/1994، القاهرة 1994، ص ص46-52.
([52])مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ، تقرير الاستثمار العالمى 2005: الشركات عبر الوطنية وتدويل أنشطة البحث والتطوير،الناشر: مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، نيويورك، 2005، ص2.
([53]) OECD, Multilateral Agreement on Investment-State of Play in April 1997, Paris, 1997.,pp11-24
(1) Ibid, pp.25-26.
([55]) للمزيد من المعلومات حول المزايا والإجراءات التى تتضمنها هذه الاتفاقيات فيما بين الدول الموقعة عليها، يمكن الرجوع للمصادر التالية :
- UNCTAD, Glossary of Key Concepts Used in IIAS, UNCTAD Series on Issues in International Investment Agreements (New York and Geneva, 2003).
- UNCTAD, Incentives , UNCTAD Series on Issues in International Investment Agreements (New York and Geneva, 2003).
- UNCTAD, Transparency:, UNCTAD Series on Issues in International Investment Agreements (New York and Geneva, 2003).
- UNCTAD, Dispute Settlement , UNCTAD Series on Issues in International Investment Agreements (New York and Geneva, 2003).
(2) الأونكتاد ، تقرير الاستثمار العالمى 2005 : الشركات عبر الوطنية وتدويل البحث والتطوير.......مرجع سابق، ص14.
(3) المرجع السابق، ص14.
)1) المرجع السابق، ص15.
([59]) Torlyain Fredrikesson, Forty Year of UNCTAD Research on FD1, Transnational Corporation, OPCIT., P. 8.
([60]) تم استقاء هذه البيانات من :
- UNCTAD, the World Investment Report 1992: Transnational Corporation Engines of Growth, New York, 1992, PP. 1-4.
(2) مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، تقرير الإستثمار العالمى 2001: تشجيع الروابط، نيويورك، 2001، ص1-7.
([62]) الأونكتاد، تقرير الإستثمار العالمى 2005 : الشركات عبر الوطنية وتدويل البحث والتطوير......مرجع سابق، ص4-7.
)2) تم استقاء هذه البيانات والأرقام من أعداد متفرقة من مجلة فورتشن :
Fortune, 7August 1995, 5August 1996, 4August 1997, 3August 1998 & 25July 2005.
(1) للتعرف على آثار هذه الأزمة على اقتصاديات الدول الآسيوية ، يمكن الرجوع إلى:السيد صدقى عابدين ،" أثر الأزمة المالية الآسيوية على العلاقات المصرية الآسيوية " فى :محمد السيد سليم وإبراهيم عرفات ،العلاقات المصرية الآسيوية ،مركز الدراسات الآسيوية، جامعة القاهرة ،القاهرة ،2000،ص ص45-53 .وكذلك : جابر سعيد عوض، دور الدولة الماليزية فى التنمية ، فى : كمال المنوفى وجابر سعيد عوض (محرران ) ، النموذج الماليزى للتنمية ، برنامج الدراسات الماليزية ، جامعة القاهرة ، القاهرة ، 2005 ، ص ص 35-64 .
-
)1) للمزيد حول آثار الأزمة المالية على الشركات الكورية متعددة الجنسيات ،يمكن الرجوع للمصادر التالية :
- Anonymous. "Business: A Sovereign remedy?; South Korea's chaebol"; The Economist. Feb 28, 2004. Vol. 370, Iss. 8364; p. 73 -_______. "Business: Chaebol trouble; Business in South Korea" The Economist.Mar 15, 2003. Vol. 366, Iss. 8315; p. 78-_____. "Conglomerates dominate non-banking sector", Business Korea, Vol.18, No.8, Aug 2001, p.19.
-______. "Chaebol speak out", Business Korea, Vol.18, No.6, Jun 2001, p.14-15. -________. " The chaebol bite back" Business Asia. New York: May 28, 2001. Vol. 33, Iss. 11; p. 1 _________ " Economic crisis and chaebol reform in Korea " Business Korea. Oct 2000. Vol. 17, Iss. 10; p. 28
________. "Business: The chaebol spurn change" The Economist, Vol.356, no.8180, Jul 22, 2000, p.59-60

) 1) - Fortune, 25July 2005,.pp.12-13
(1) تم رصد هذه المؤشرات من موقع مجلة فورتشن على الانترنت:
http://money.cnn.com/magazines/fortune/global500/industries/electronics_electrical.10/05/2006
(2) تم الحصول على هذه االأرقام من موقع مجلة فورتشن على الانترنت:
http://money.cnn.com/magazines/fortune/global500/industries/motor_vehicles_parts...10/05/2006
(3) لمزيد من المعلومات حول أفكار هذا التوجه وحجج أنصاره يمكن الرجوع إلى :
T.N.Harper,"Asian Values and Southeast Asian History",Historical Journal,vol.x,no.2.1995,p.507-517.
–Kim Dae Jung ,Is Culture Resting, The Myth of Asia Anti-Democratic Values, Foreign Affairs,vol.73 no.6,Nov.Dec. 1994,p.189-194.
(1) للمزيد من حجج أنصار هذا الرأى يمكن الرجوع إلى :
Paul R. Kruguman &Maurice Obstfeld ,International Economics :Theory and Policy ,Addison-Wesley ,new York ,2004.p.169-177.
(2) راجع فى ذلك: - James C.Abegglen,George Stalk , KAISHA: The Japanese Corporation ,Charles E.Tuttle Company,inc .of Rutland, Vermont and Tokyo ,2004 ,pp.111-113
- W. Carl Kester, Japanese Takeovers: The Global Contest for Corporate Control, Harvard Business School,new york, 2003,pp.12-17
(3) Ibid ,P. 25.
(1) Ibid ,P.129.
(2)لمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى :
The chaebols' global appetite”, Banker, Vol.146, No.850, Dec.1996, p.74-75.
In the shadow of the chaebol”, Economist, Vol.340, No.7973, Jul.6,1996, p.53-54.
(3),op.cit,pp.47-48 James C.Abegglen,George Stalk , KAISHA: The Japanese Corporation
(4)Dick Aykut and Dilip Ratha ,South –South FDI Flows : How Big Are They ? Transnational Corporations ,VOL.13,NO.1 ,APRIL 2003 ,22-23
Lilach Nachum ,The Geography Of TNC Operations, Transnational Corporations , (1) August 2001,pp.161-167
(2) تم الحصول على هذه البيانات من على مواقع هذه الشركات وكذلك موقع أسيا تايمزعلى شبكة الانترنت :
-www.toyotamotor.com/en ,www.hyundaimotor.com/en , www.atimes.com
(1)Julia manea and Robert pearce ,industrial restructuring in transition and TNCs investment motivations , Transnational Corporations,vol.13,no.2 ,august2004,pp.9-11
(2) peter j.buckley ,US Corporations Raise Effectiveness by Investing in IT Japanese Corporations Raise Doubts about Effectiveness,Asia Week ,12/6/2004,p.15
(3) لمزيد من التفاصيل لايمكن الرجوع إلى المصادر التالية.
Financial crisis and transformation of Korean business groups : :- Chang,Sea-Jinthe rise and fall of chaebols,west view press,new york,2004, pp126-128
- W. Carl Kester, Japanese Takeovers: The Global Contest for Corporate Control , Opo.cit,pp.40-45.
(4) David Parthiban,Toru Yoshikawa,muralide.r.chari &abdul a.rasheed , strategic investments in Japanese corporations :do foreign portfolio owners foster underinvestment or appropriate investment, strategic management journal, January 2006 ,pp.16-19
(1)تم استخلاص هذه الجهود من عدة دراسات حالة أجريت على هذه الشركات شملها المصدران التاليان :
-Krishna kumar &Maxwell g. mcleod , multinationals from developing countries ,Lexington books d.c heath and company ,second edition , Toronto ,2003,pp.37-141.
- W. Carl Kester, Japanese Takeovers: The Global Contest for Corporate Control ,op.cit,pp.109-136.