Tuesday, March 18, 2008

مشكلات البحوث الميدانية في الواقع المصري
مقدمة

تاتى أهمية دراسة مشكلات البحوث الميدانية من التأكيد المتزايد على هذه البحوث خاصة فى مجال العلوم السياسية بالنظر لأهميتها النظرية والعملية، فباعتبار هذه البحوث تعبر عن أقصى تمثل ممكن للواقع فإنها يمكن أن تكون بمثابة اختبار للنظريات العلمية فى الواقع، فتؤيد هذه النظريات أو تتحدى بعض مقولاتها أو تعمل على اكساب الصياغات النظرية التى تميل غالبا لضعف الدقة صورة أكثر تحديداً، كما تسهم فى الوصول الى تعميمات أولية إمبريقية يمكن أن تكون لبنة أولى فى بناء النظرية، ومن الناحية العملية يمكن أن تساعد البحوث الميدانية فى عمليات صنع السياسة العامة من خلال الدراسات التى تستهدف تقويم هذه السياسات، وبالنظر لهذه الأهمية المتزايدة للبحوث الميدانية كان من الضرورى دراسة المشكلات التى تعترض هذه البحوث تحديدا فى الواقع المصرى وصولاً لرؤية أوضح لما تتيحه هذه البحوث من إمكانات وما يحيط بها من قيود.
فتحاول هذه السطور الاجابة على التساؤل: ما المشكلات النظرية والتطبيقية التى تواجها البحوث الميدانية خاصة فى الواقع المصرى؟ استنادا الى مقولة مؤداها أن هذه البحوث تواجه عدداً من المشكلات النظرية التى تتصل بالأساس النظرى الذي تقوم عليه هذه البحوث كما تواجه عدداً من المشكلات التي تمثل تحديات لها يفرضها الواقع المصرى الذى تتم فيه، ومن أهم هذه الاشكاليات العلاقة بين البحث الميدانى والتنظير، فالفصل بين الشق التنظيرى والشق الميدانى فى البحث الاجتماعى يتم فقط لاعتبارات التصنيف فمن ناحية يتكامل التنظير والعمل الميدانى فى البحث ومن ناحية أخرى تتفاعل البحوث النظرية والميدانية فى علاقة جدلية مستمرة، فتأخذ البحوث النظرية حصاد البحوث الميدانية وتمحصه وصولاً لنوع من التعميمات على أساس هذه البحوث كما تمدها بالمفاهيم النظرية، وتوجهها إلى المناطق التى يجب أن تهتم بها، والفروض النظرية التى تعمل هذه البحوث على اختبارها، ونماذج التفسير الذى يمكن أن تفسر فى ضوئها نتائج البحث الميدانى، وعلى الجانب الآخر تمثل البحوث الميدانية اختباراً لهذه البحوث التنظيرية، فعلى ضوء ماتصل اليه نتائج البحوث الميدانية قد يتم تعديل بعض مقولات النظرية بحذف بعض الجوانب التى أثبتت هذه البحوث خطأها، أو إضافة قضايا جديدة إليها إلا إن واقع البحوث الميدانية لا يشير فى كل الحالات لوجود مثل هذه التكامل والتفاعل، بما يؤدى لبروز عدد من المشكلات سواء فى تصميم البحث والنتائج التى يسفر عنها من حيث تحديد المشكلة البحثية وطغيان الموضوع على المنهج معبراًعنه بالانغماس فى دوامة البيانات فتأتى البحوث ضعيفة من حيث نتاجها النظرى، ويتصل بذلك مشكلة التراكم والتعميم حيث يؤدى ضعف ارتباط مثل هذه البحوث بالأساس النظرى إلى أخذ الوضع القائم كمعطى وإهمال الطبيعة الشمولية والكلية للظاهرة محل البحث، ويتضمن ذلك اهمال البعد التاريخى لها بما يؤدى اليه ذلك من نتائج لعل أهمها النظرة التجزيئية للظواهر، وصعوبة تحقيق التراكم البحثى، فنكون بذلك أمام ركام من البحوث التى لا تتراكم فى بنية متسقة بما يعوق الوصول لتعميمات نظرية حتى من نوع المدى المحدود .
ومن ناحية ثانية تفرض أساليب العمل الميدانى - أو ما يعبر عنه بأدوات جمع البيانات الميدانية التى تمثل جوهر البحث الميدانى باعتباره نوعاً من الملاحظة فى معناها الواسع- تفرض عدداً من المشكلات منها استخدام هذه الأساليب فى سباق تحليل كمى أو كيفى، فبرغم أن المناظرة بين الأسلوبين الكمى والكيفى أصبحت مناظرة كلاسيكية إلا إن توزع البحوث الميدانية بين بحوث يغلب عليها الطابع الكمى وأخرى بغلب عليها الطابع الكيفى يفرض نوعاً من الخصوصية للمشكلات التى تواجهها هذه البحوث فى أساليب العمل الميدانى مع ظهور مدارس جديدة خاصة فى علم الإجتماع والأنثربولوجياالسياسية تؤكد على الطابع الكيفى، وإذا كانت المشكلات الناتجة عن إستخدام أدوات جمع البيانات من الميدان تتنوع حسب كل حالة بحثية مما يتطلب إضافة لإلتزام الباحث بالدقة المنهجية نوعاً من المران والخبرة لتطويع هذه الأدوات، الأمر الذى حدا بالبعض لوصف استخدام هذه الأدوات بأنه يجمع بين العلم والفن فإن هذه الأدوات قد تم تطويرها وتنميتها فى إطار ثقافى معين، ومن ثم يفرض تطبيقها فى إطار ثقافى مختلف له خصوصيته التاريخية والبنائية مشاكل إضافية تقتضى تطويراً وتطويعاً لهذه الأدوات.
وينقلنا ذلك إلى نوعية أخرى من المشكلات تتصل بالبيئة التي يتم فيها البحث الميداني فيما يتعلق بموقف السلطة السياسية من هذه النوعية من البحوث، بما يضع قيوداً على عملية جمع البيانات أو الاهتمام بمشكلات معينة، ويرتبط بذلك موقف المجتمع من البحث الاجتماعي والبحث الميداني بصفة خاصة، حيث قد تسود قيم الشك في القائمين على هذه البحوث، وقد يمتد الشك إلى أهميتها وجدواها، ويثير ذلك المشكلات الأخلاقية في البحث الميداني بصدد حقوق المبحوثين خاصة الحق في الخصوصية، ومشكلة تكافؤ العلاقة بين الباحث والمبحوثين، ومشكلة تمويل البحوث الميدانية وما تحتاجه هذه البحوث من موارد قد يفتقر إليها الباحث الفرد بما ينعكس على نتائجه، وتزداد أهمية مشكلة التمويل في حالة التمويل الأجنبي للبحوث.
وتفرض هذه المعالجة التأكيد على نقطتين منهجيتين:
- أن مشكلات البحث الميداني بالشكل الذي سبق تحديده يمكن إرجاعها جزئياً إلى تطور هذه النوعية من البحوث، على حين يأتي أغلبها من الممارسات البحثية في الواقع المصري دون أن يعني ذلك التسليم الجامد بهذه المقولة.
- وتتصل النقطة الأخرى بحدود هذه السطور التي لم تستهدف استقراء البحوث الميدانية وصولاً لتعميمات تقويمية حولها، ولكنها استهدفت التعرف بصورة استطلاعية على المشكلات وجوانب القصور التي تواجه هذه البحوث مما عرض له العديد من الباحثين في العلوم الاجتماعية ممن عملوا لفترات طويلة في هذه البحوث في تعليقاتهم عليها خاصة المعنيين منهم بالنواحي المنهجية.
أما بالنسبة للدراسات السابقة والمصادر فيمكن تقسيمها على ثلاثة أنواع من الدراسات:
النوعية الأولى الكتابات الخاصة بمناهج البحث في العلوم الاجتماعية، وبرغم أهمية هذه الكتابات إلا إنها كانت تركز على العرض التعليمي ككتب مرجعية دراسية لأسس استخدام أدوات جمع البيانات الميدانية والشروط المنهجية الواجب استيفاءها في هذه الأدوات ولعل من أهم هذه الكتب الكتابات المتميزان ل"ليوبولد فان دالين" "مناهج البحث في التربية وعلم النفس" وكتاب "عبدالباسط حسن" "أصول البحث الاجتماعي" وفي مجال البحوث السياسية كتاب "جارول منهايم" و " ريتشارد ريتش" " التحليل السياسي الإمبريقي" وكمال المنوفي " مقدمة في مناهج وطرق البحث في علم السياسة".
أما النوعية الثانية فهي الكتب والدوريات التي اهتمت بشئون المنهج والعمل الميداني مثل Sociological Method & Research ومجلةPhilosophy and Phenomenological Researcher التي تدخل في صميم اهتمامات هذه السطور لكنها اهتمت في أغلبها بالأساليب الكمية الرياضية كما اهتمت بجزئيات دقيقة كانت مراكمة على نتائج بحوث سابقة متصلة بمجالات بحثية محددة في علم الاجتماع كعلم دراسة الوبائيات، وبرغم الاستفادة منها في التعرف على اتجاهات النقاش في هذا المجال إلا أنها لم تكن كافية بصدد تحليل واقع هذه البحوث في مصر أما النوعية الثالثة فتعكس اهتماماً نامياً بشئون المنهج وجمعت بين الخبرة البحثية والتأصيل النظري والمنهجي ومنها كتاب " تصميم البحوث في العلوم الاجتماعية " الذي حررته د. ودودة بدران وأعمال ندوة إشكالية العلوم الاجتماعية تحرير د. سهير اطفي و"البحث الإمبريقي في العلوم السياسية" تحرير د. ودودة بدران إضافة لمجموعة الدراسات التقويمية لحالة العلوم الاجتماعية ومنها "نحو علم اجتماع عربي" لمحمد عزت حجازي وآخرين وأعمال ندوة أخلاقيات البحث العلمي الاجتماعي وبعض الدراسات التي تعرضت لمعوقات البحث الاجتماعي بصورة عامة كأطروحة الدكتوراة "معوقات البحوث الاجتماعية في المجتمع المصري: دراسة ميدانية لآراء المشتغلين في علم الاجتماع في بعض الجامعات المصرية ومراكز البحوث، جامعة الأزهر 1989 والتي قامت بها سوزان عبدالحميد إمام.
ولم يخل الأمر من صعوبات فإضافة للصعوبة الخاصة بقلة المصادر المباشرة في الموضوع كان هناك صعوبتان تتصل أولاهما بتحديد المفهوم والذي يمثل بداية أي عمل بحثي حيث تعددت المفاهيم المعبرة عن هذه البحوث والمفاهيم المرتبطة بها كالعمل الميداني أو الحقلي والأساليب الميدانية لجمع البيانات كما استخدمت هذه المفاهيم ذاتها بمعاني متعددة تختلف ضيقاً وسعة حسب رؤية الباحث وتخصصه المعرفي فالبحث الميداني لدى البعض نوع متميز من البحوث في حين يتحدث آخرون عن أدوات ميدانية لجمع البيانات، وقد تحددت نظرة كل باحث برؤيته في مجال تخصصه، فكان المفهوم أكثر اتساعاً لدى باحثي الأنثروبولوجي وينحو نحو التحديد والتقييد لدى علماء الاجتماع والسياسة.
أما الصعوبة الأخرى فتمثلت في غياب تقاليد بحثية تهتم بوصف الباحث للإجراءات المنهجية التي اتبعها والمشكلات التي واجهها، تمهيداً لحوار أكاديمي حول هذه المشكلات وأساليب مواجهتها، وهو ما أكده بعض البحوث التي لاحظت قلة الاهتمام بجوانب المنهج والإجراءات المنهجية التي تأتي استفاءا للشكل، إذ ينحصر الحديث بهذا الخصوص على تأكيد الباحث على استيفائه لكافة الإجراءات المنهجية الدقيقة من تحديد لمجتمع البحث والعينة والاستمارة و تحكيمها وتحليل النتائج..إلخ وقد أثرت هذه الصعوبات على تناول كاتب هذه السطور للموضوع الذي وإن لم يكن بكراً للعديد من الباحثين فإنه كان كذلك لصاحب هذه السطور الذي يخطو خطواته الأولى في مجال البحث العلمي وبقدراته المنهجية المحدودة.
أولاً الإشكاليات النظرية للبحث الميداني:
1- تحديد المفهوم:
لا يوجد اتفاق على تعريف محدد لمفهوم البحث الميداني فهو شأنه شأن غيره من مفاهيم العلوم الاجتماعية تتنوع تعريفاته واستخداماته بتنوع السياق الذي يتم فيه التعريف والاستخدام كما أنه يتداخل مع غيره من المفاهيم كالعمل الحقلي والأساليب الميدانية لجمع البيانات لذا قد يكون من المفيد النظر في نشأة هذا النوع من البحوث وتطوره وصولاً لتحديد أفضل لعناصره وخصائصه المميزة فتشير الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية
[1] أن العمل الحقلي هو دراسة الناس في حالتهم الاعتيادية فكان العمل الحقلي السمة الأساسية لبحوث علماء الأنثروبولوجيا الثقافية وتأثر البحث الميداني بنشأته في هذا الحقل فكانت الإقامة الممتدة للباحث الميداني في المجتمع المبحوث وملاحظته له ومشاركته فيه لفهم رؤية السكان الأصليين الداخلية للوصول لرؤية كلية للباحث الاجتماعي وكان الافتراض الأساسي للعمل الميداني أن المجتمع هو معمل العالم الاجتماعي وهو يشبه في ذلك الكائن الحي لعالم البيولوجي ثم تزايد اتجاه علماء السياسة والاجتماع نحو المزيد من البحوث الميدانية مع وجود اختلافات بين علماء الأنثربولوجي وعلماء الاجتماع في المشكلات وفي مناهج العمل الميداني لكن تدريجياً بدأ هذا الاختلاف يتضاءل فقد بدأ علماء الأنثربولوجي الدراسات الميدانية مبكراً في نهاية القرن الثامن عشر وبدأ التأكيد عليها بالأساس من العلماء الأمريكيين والبريطانيين مع استثناءات تمثلت في أعمال شتراوس في فرنسا وTharnwald في ألمانيا وكانت هذه الدراسات تهدف لتطوير المعرفة بالإنسان من خلال دراسة أنماط متنوعة من ثقافاته وأظهر كتاب Mailnowski "Argonauts of Western Pacific" الإمكانات الهائلة للعمل الميداني وتضمن قواعد منهجية لعمل الميداني لا يزال بعضها صالحاً وأصبح العمل الميداني بمعنى الانغماس في المجتمع المبحوث وتعلم أقصى ما يمكن من ثقافته والتفكير والشعور والتصرف كعضو من ثقافة المجتمع المبحوث وفي الوقت نفسه كعالم من ثقافة مختلفة ومع تطور أساليب البحث الميداني بدا الاهتمام بمشكلات نظرية معينة والتركيز على ما يتصل بهذه المشكلات دون سواها ثم بدأ دخول علماء الاجتماع والسياسة وعلم النفس الاجتماعي لمجال البحوث الميدانية التي بدأت تأخذ منحى خاصاً يهتم بالتركيز على جزئيات محددة وأنساق اجتماعية فرعية محددة واستخدام منهج المسوح الكمية واعتماد الأساليب الإحصائية.
وتشير هذه النشأة إلى عناصر مهمة في تعريف البحوث الميدانية :
· أن هذه البحوث تقوم أساساً على فكرة الاحتكاك المباشر بالواقع
· وأن البحوث الميدانية بهذا الوصف تمثل نوعاً من الملاحظة العلمية المنظمة في معناها الواسع
[2]
· أن نشأة هذه البحوث في ظل علم الأنثروبولوجي ثم انتقالها لاحقاً إلى العلوم الاجتماعية الأخرى أدى إلى تنوع نطاق تعريف هذه البحوث ما بين معنى متسع بحيث يمثل العمل الميداني صلب بنية البحث الاجتماعي ومعنى أقل اتساعاً يتمثل في الأساليب الميدانية لجمع البيانات ويتضح هذا من العديد من التعريفات الفضفاضة للبحث الميداني من أنه " الخروج من المكاتب والتوجه إلى ميدان البحث الذي يراد إجراؤه وزيارة الأسر أو المدرسة أو المجتمع أو المؤسسة ومقابلة من فيها ... وقد يكون العمل الميداني إقامة طويلة لكن محددة في المجال الجغرافي أو المكاني للبحث وذلك كله في البحوث الاجتماعية التي يتطلب إجراؤها القيام بعمل ميداني لجمع المادة له أي البيانات التي يعتمد البحث عليها"
[3]
· أن هذه البحوث تغطي مدى واسع من أنواع البحوث استطلاعية و مسحية ودراسة حالة ..إلخ لذا قد يكون من الملائم تعريف هذه البحوث بالنظر للأهداف التي تتوخاها والأساليب التي تتبناها فمن منظور أهداف البحوث الميدانية يمكن تعريفها بأنها محاولة علمية جادة للتعرف على عناصر الواقع في سبيل الاقتراب بأكبر قدر ممكن من الثقة نحو تحليل هذا الواقع ونحو فهمه بشكل أفضل ويتم هذا من خلال الملاحظة العلمية المنظمة لهذا الواقع ووصف الملاحظة بأنها منظمة إنما هو لأنه يتم الإعداد لها من خلال خطوات محددة لوضع وتصميم خطة استكشافية للظواهر التي يقوم الباحث بدراستها وتهدف لرصد ثم تحليل كافة أبعاد هذه الظاهرة كما أنها ملاحظة علمية لأنها تعتمد على اكبر قدر من الضمانات التي يحيط بها الباحث نفسه ليطمئن إلى صدق النتائج التي يصل إليها.
[4]
ومن ثم تفيد البحوث الميدانية في توضيح النظريات والكشف عن حقائق أكثر عمقاً تعطي النظرية تخصيصا أكثر واتساعاً أعظم من خلال اختبار النظريات والكشف عن خصوصيتها المجتمعية وتحدي بعض مقولاتها ومن ناحية أخرى تتمثل أدوات ملاحظة الواقع بمنهجيتها المقننة محك علمية هذه الملاحظة بالأساس في الملاحظة المباشرة سواء أكانت بالمشاركة أو بدونها والمقابلات والاستمارة باستخداماتها المختلفة في شكل استخبار يتم في جلسة خاصة فردية أو جماعية أو في شكل استمارة استبيان إذاً الملمح المميز للبحث الميداني احتكاكه المباشر بالواقع باستخدام أدوات الملاحظة - بالمعنى العام – المختلفة بغض النظر عن نوعيات أو تقسيمات هذه البحوث.
إشكالية العلاقة بين البحث الميداني والتنظير
- بين البحث الميداني والنظري
- تجدر الإشارة بداية إلى أن التمييز بين الجوانب النظرية والجوانب الواقعية الميدانية في البحث تمييز مصطنع لأغراض التصنيف وأكثر من ذلك فإن كل مفردة من مفردات البحث الاجتماعي مهما كان تعريفها دقيقاً ومحدداً تضرب بجذورها داخل الفرضيات العامة حول الوجود الإنساني والمجتمع كما تحمل في طياتها بذور التفكير المجرد وعادة ما تكون هذه العناصر النظرية ضمنية ولكنها لا تكون غائبة أبداً
[5] كما أن الجانب التنظيري حاضر في كافة خطوات العملية البحثية فمثلاً الملاحظة التي تعد الأداة الأولية لجمع البيانات في جميع العلوم بوصفها إدراك الظواهر والمواقف والوقائع والعلاقات عن طريق الحواس سواء وحدها أو بالأدوات المساعدة وذلك فيما يتعلق بالغير هذه الملاحظة لا تتحدد بالخصائص المادية لأدوات الملاحظة الحسية فقط بل يسهم الاستعداد العقلي للملاحظ وحالته الذهنية في تكوين الملاحظة وتتوقف هذه الحالة الذهنية على المستوى الثقافي للملاحظ ومعارفه وتوقعاته[6] ومن ناحية أخرى فإن الملاحظات وحدها لا تقدم أساساً للعلم إلا إذا تمت صياغتها وتبليغها بوصفها منطوقات ملاحظة تقدم غذاء لعلماء آخرين يستعملونها وينتقدونها، وتتم صياغة هذه المنطوقات داخل لغة مشتركة ونظم نظريات تتباين درجة دقتها وعموميتها وقبل ذلك كله فإن الملاحظة والتجربة تقودهما النظرية [7] التي تقدم افتراضات توجه الباحث إلى نوع الحقائق والوقائع التي تؤكد عليها وتجعله يلتزم طرقاً معينة في ربط الوقائع والأحداث ببعضها البعض.
- ومع ذلك يمكن التمييز حسب السمة الغالبة بين نوعين من التحليل في العلوم الاجتماعية : تحليل نقدي نظري يأخذ حصاد الواقع فيفحصه ويحلله ويقوم بالتنظير له والآخر تحليل ميداني يحاول الاقتراب أكثر من واقع الظاهرة ونقل صورة دقيقة لها
[8] ويسهم هذا الأخير في اختبار الفروض العلمية تمهيدا للوصول لتعميمات تكون أساساً لبناء النظرية كما يمكن أن يسهم في تعديل بعض النظريات سواء بشكل تغيير بعض الجوانب التي أثبتت الدراسات الواقعية خطأها أو إضافة قضايا جديدة إليها على حين يسهم التحليل النظري في توضيح نقاط التركيز من خلال تنبيه الباحثين في الظاهرة الاجتماعية إلى قضايا وأسئلة بعينها قد لا تكون واضحة عند الاقتراب من الظاهرة بشكل أولي لكنها ربما تشكل أساساً لفهمهم وتفسيرهم[9] كما تلفت نظرهم على الفروض المطلوب اختبارها ونموذج التفسير الذي يمكن أن نفسر في ضوئه نتائج العمل الميداني وهذا التفاعل الخلاق بين النظرية والتطبيق ضروري إذ بدون اكتمال هذه الدائرة من التفاعل بينهما يصعب تطوير العلوم الاجتماعية.[10]
- إشكالية العلاقة بين البحوث الميدانية والتنظير:
يتضح من العرض السابق أهمية التفاعل المستمر بين البحوث النظرية والميدانية وأهمية ارتباط البحوث الميدانية ببناء نظري محكم يقدم - إضافة للفت انتباه الباحثين إلى القضايا والأسئلة البحثية التي يجب التركيز عليها - ميكانزماً يمكن من خلاله تصنيف وربط النتائج المختلفة لأنشطة البحث الميداني داخل إطار واحد لأنها غالباً ما يتم فهمها بشكل مستقل عن بعضها البعض كما يتم توصيفها داخل سياقات تصورية مختلفة ويقتضي هذا التنظيم والتصنيف استخداماً آخر هو التعميم فتمد النظرية النتائج والأفكار التي تقدمها البحوث إلى أبعد من الحدود التي صيغت في ظلها هذه الأفكار والنتائج وتوسع من حدود تطبيقها
[11] وتتباين هذه البنية النظرية من حيث مستوياتها فتشمل [12]
1- تقديم التوجهات العامة ويقصد بهذه التوجهات المبادئ أو الأبعاد التي يجب على الباحث في أي قضية من قضايا العلوم الاجتماعية أن يأخذها في اعتباره عندما يقوم ببحثه ودراساته فمثلاً في دراسة الطبقة يشير بعض العلماء إلى أهمية اخذ بعض العوامل في الاعتبار مثل التعليم والمهنة ومكان الإقامة بينما يركز آخرون على أبعاد أخرى أهمها موقع الشخص من علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع وبرغم اتفاق العلماء في تقديرهم لأهمية هذه التوجهات إلا إنهم يختلفون حول مضامينها ونقاط التركيز فيها.
2- تطوير بعض المفاهيم في العلوم الاجتماعية المختلفة فتعد المفاهيم أدوات ضرورية في أي بحث علمي ويتحدد على أساسها شكل ومضمون المتغيرات التي يتم تفسير العلاقة بينها وتقوم البحوث الميدانية بمحاولة الاختبار الواقعي لهذه المفاهيم وتحقيقها تحقيقاً علمياً استناداً إلى فروض واضحة.
3- الخروج بتعميمات إمبريقية ويمكن تحديد التعميم بأنه القضية القادرة على تلخيص الانتظامات الملاحظة للعلاقة بين متغيرين أو أكثر وتمثل هذه التعميمات خطوة أولى في بناء النظرية ومع ذلك يعاني الكثير من البحوث من ضعف الارتباط بين التنظير والواقع فهناك الكثير من البحوث الميدانية لا تستند إلى أسس نظرية موجهة ومفسرة وليس لها سوى ارتباط واه بالبناء النظري القائم في العلوم الاجتماعية المختلفة
وربما يعود ذلك – بصورة جزئية – إلى نشأة هذه العلوم وأسلوب تطورها فبالنسبة لعلم الاجتماع فقد قسمه ماكس فيبر إلى قسمين:- قسم يضم المتخصصين في التفسير والقسم الثاني يضم المتخصصين في المادة أو الموضوع. كما ميز رايت ميلز بصور ساخرة بين جانبين لعلم الاجتماع:-
[13] الأول ما يطلق عليه النظرية الكبرى والثاني النزعة الإمبريقية المجردة وأشار على أن أكبر ممثلي الجانب الأول هو تالكوت بارسونز بينما كان بول لازرسفيلد المعبر عن الجانب الثاني واستمر هذا الازدواج يفرض نفسه في المراحل التالية لتطور علم الاجتماع.
أما في النظرية السياسية التي تمثل مؤشراً لتطور علم السياسة فيمكن التمييز بين توجهين مستمرين فيها الأول يربط النظرية السياسية بالوصول لتعميمات إمبريقية ينطلق منها لناء نظريات محدودة المدى وصولاً لنظريات متوسطة المدى .. والآخر يربط النظرية السياسية بالتأمل النظري والفكر السياسي ويعبر عن الاتجاه الأول تشارلز ميريام بينما يجد التوجه الآخر تعبيره في ليو شتراوس.
ومن ناحية أخرى يمكن إرجاع هذا التمييز بين الدراسات التنظيرية والواقعية إلى سيادة مفهوم معين للواقع المستقل عن الذات العارفة يقف بانتظار الكشف عنه ويجد هذا المفهوم انعكاساته في العلوم الاجتماعية المختلفة ففي علم الأنثروبولوجي ترى الأنثربولوجيا البنيوية أن الممارسة العلمية الأنثربولوجية تمر بمرحلتين الأولى يكون فيها العالم سلبياً ينصت إلى الواقع وملاحظته ملاحظة حيادية تقوم على الوصف ويسميها ليفي شتراوس المرحلة الأثنوجرافية ويرى شتراوس أن: الأثنوجرافية علم وصفي يبحث في وصف المجتمعات التي لا تعرف الكتابة بأصالتها وفرديتها الجذرية و لا يبدو هذا العلم مستنداً إلى تصور مسبق لموضوعه"
[14] ويطلب شتراوس من الباحث في هذه المرحلة أن يكون ذهناً بلا بنية أو لوحة بيضاء لم يسبق لها أن تعرضت لأي صقل نظري وفي مرحلة ثانية يصنع الباحث نماذج للواقع وتتحول وظيفة العلم عنده لتصبح إنشاء نماذج ويعيد شتراوس بذلك تقليدا وضعياً ذائعاً في فلسفة العلوم يقوم على التمييز المبتسر بين مرحلة الملاحظة ومرحلة التركيب[15] اعتقاداً بأن الملاحظة مرحلة تقص ورؤية وهو ما يتنافى مع ما سبق توضيحه من أن الملاحظة العلمية تحمل دائماً طابع السجال والنفي فهي تؤيد أو تبطل نظرية سابقة أو رسماً توضيحياً جاهزاً فهي تظهر ما تلاحظه بالبرهنة عليه وترتيب الظواهر وتعلو بالمباشر[16] أما الأدوات المستعملة في الملاحظة فليست سوى نظريات أضفيت عليها الصبغة المادية نتوصل بواسطتها إلى ظواهر تتسم بالطابع النظري من كل جانب فكل ملاحظة للواقع لابد وأن تكون مسبوقة بمشروع نظري.
كما يمكن تقصي آثار رؤية مشابهة للواقع في علم الاجتماع بدء من إميل دوركايم في كتابه " قواعد المنهج في علم الاجتماع" والذي يرى فيه ضرورة النظر على الظواهر الاجتماعية على أنها "أشياء" تمارس قهراً خارجياً على الأفراد فالواقعة الاجتماعية هي " كل نمط من السلوك أو الفعل ثابت أو غير ثابت قادر على فرض قيود خارجية على الفرد ويعني ذلك أن السبب المحدد للواقعة الاجتماعية يجب أن يبحث عنه من خلال الوقائع الاجتماعية وليس من خلال الوعي الفردي"
[17] فيدرس عالم الاجتماع الظواهر الاجتماعية على أنها أشياء خارجة عنه بهدف السيطرة عليها وعلى نفس المنوال قدمت المدرسة السلوكية رؤية مشابهة بتركيزها على السلوك الخارجي وبرغم تجاوز الاتجاهات النظرية لهذه الاتجاهات في فهم الواقع إلا إن تأثيراتها لا تزال تتردد في شكل الفصل والتمييز بين الدراسات النظرية والميدانية
ج- مشكلات ضعف الارتباط بأساس نظري:
يؤدي التمييز الحاد بين البحث الميداني والنظري انطلاقاً من مقولة الانطلاق من الواقع إلى عدد من المشكلات التي تواجه البحوث الميدانية سواء من حيث تصميمها أو نتائجها وأول هذه المشكلات يتعلق بمسالة:
- تحديد المشكلة البحثية.
وأهمية هذه المشكلة تعود على أنها تنعكس على كافة الخطوات البحثية التالية ولا تتعلق المشكلة هنا بمراجعة التراث النظري مراجعة نقدية فقط بل والدلالة العلمية والتطبيقية للمشكلة موضوع البحث فيجب قبل القيام بدراسة أية ظاهرة اجتماعية الإجابة على عدة تساؤلات هامة مثل لماذا ندرس هذه الظاهرة وهل سبقنا أحد إلى دراستها وهل توصل على تفسير لها وهل هناك إطار نظري يمكن أن نضع المشكلة في نسقه؟ وما التصورات المبدئية لتفسير الظاهرة ومن الواضح أن الإجابة على هذه الاسئلة وصولاً لمشكلة جيدة للبحث وصياغتها بشكل جيد يمكن من بحثها والتوصل إلى نتائج ذات قيمة
[18] يتطلب دراسة التراث النظري لهذه المشكلة دراسة نقدية ودراسة الإطار النظري الذي يمكن وضع المشكلة في سياقه بما يحقق المتطلبات المنهجية لتحديد المشكلة البحثية من تحديد نطاقها الزمني والمكاني بصورة سليمة.[19]
والأهم أن تكون المشكلة البحثية لها وزنها ودلالتها وأن يكون لها علاقة واضحة بمجال رحب من مجالات النشاط العلمي الاجتماعي ويعني ذلك أن يكون الباحث لدى اختياره للمشكلة البحثية على بينة من وزنها وعناها ويقتضي ذلك أن يشحذ وعيه ليتمكن من رؤية المشكلة وسط شبكة واسعة الرقعة من العلاقات المتصلة بعالم المسائل المنهجية والنتائج التطبيقية
[20] بعبارة أخرى على الباحث أن يعمل على التحديد الدقيق للمشكلة البحثية بما يضمن قابليتها للمعالجة في ضوء الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة بالبحث مع وضوح ارتباط هذه المشكلة بباقي عناصر المشكلة الأعم وبحيث تخاطب الحقل الأوسع من النظرية والمعرفة التي تعد هذه المشكلة البحثية جزء منه [21] ومن ناحية أخرى يجب أن تكون المشكلة البحثية تعبيراً عن الوظيفة النقدية للعلوم الاجتماعية[22] وفي ظل ضعف الارتباط بالأطر النظرية الموجهة في العديد من البحوث الميدانية بدعوى الانطلاق من دراسة الواقع يجري الاستسلام لإغراءات البيانات الجاهزة للواقع الاجتماعي القائم بما يتضمنه ذلك من تسجيل ما يفرزه الواقع الاجتماعي من مؤثرات فورية واعتمادها كأسباب وملاحظة ما يرتبط بها من آثار آنية ومعاملتها كنتائج دون إدراك لشبكة العلاقات التي تحكم الظواهر وتصف ارتباطاتها الفعلية والممكنة [23] وانعكس هذا على تناول المشكلات البحثية التي أخذت شكل موضوعات مترسبة في الأدبيات الغربية تربط بين البيانات الديموجرافية وأنماط السلوك فبالنسبة لموضوع المشكلات الاجتماعية لم تخرج مشكلات البحوث العربية في رؤيتها لهذه المشكلات عن كونها أنماكاً سلوكية أو أنها أفعال انحرافية وقيم باثولوجية أو ظواهر مشكلة قابلة للملاحظة والقياس كاختلالات فردية واختلافات ثقافية أو وصمات اجتماعية [24] ومن ذلك بحوث البغاء في القاهرة و تعاطي الحشيش وجنوح الأحداث فالمشكلات الاجتماعية تصبح اموراً عارضة يمكن التخلص منها بالإصلاح التدريجي الذي لا يتعرض لجوهر النظام الذي أنتج هذه المشكلات وانحصرت محاولات حل المشكلات الاجتماعية في إصلاح الأفراد والمجتمعات الصغيرة عن طريق محاولة إعادة التكيف مع الواقع وفي الوقت نفسه غابت المشكلات البحثية المهمة مثل تلك التي تتعلق بالصراع الاجتماعي وعلاقات الثروة والقوة في المجتمع ودور النظام السياسي والاجتماعي.
ويرتبط بذلك رؤية متأصلة في العلوم الاجتماعية المختلفة لعلماء الاجتماعيات كمهنيين وتكنوقراط
[25] بدء من كونت الذي ارتبطت أفكاره عن حصر الدراسات الاجتماعية في قوالب "ما هو كائن" - بما يعنيه هذا من هدف أيديولوجي بالحفاظ على ما هو كائن - برؤيته عن النخبوية والمهنية في علم الاجتماع فنادى بضرورة أن تكون مهمة إدارة المجتمع حكراً على علماء الاجتماع وخبراء التنظيم بحيث يشكل علماء الاجتماع قطاعاً مهنياً في القطاع الأول وهي الفكرة التي ستتبلور بصورة أوضح لاحقاً عند ماكس فيبر أما في مجال السياسة فقد كان اهتمام تشارلز ميريام – الذي يعد من مؤسسي علم السياسة الحديث – منصباً على التخطيط السياسي Policy Science [26] وهو ما دفع سي رايت ميلز على القول بأن علم الاجتماع خاصة والعلوم الاجتماعية عامة قد تحولت إلى ما يمكن تسميته علوماً إدارية فأصبح علماء الاجتماع يرغبون في أن يكونوا فنيي الحياة النفسية والاجتماعية وأصبحت الأصالة العلمية لا تعني أكثر من مشكلة للبحث والنجاح في العمل لا يتعدى جمع بيانات كثيرة عن مشكلة جزئية صغيرة فلدى تحول الدراسات الاجتماعية إلى أمور مهنية في إطار النظام السائد يصبح الاهتمام بتقديم حلول تقنية للمشكلات الاجتماعية[27]
ويرتبط بذلك مشكلة البيانات حيث تتعامل بعض البحوث الميدانية مع البيانات الإحصائية الجاهزة ويتم تحليلها دون الاهتمام بالجوانب الاجتماعية المتعلقة بالبيانات الإحصائية
[28] وتصبح قاعدة العمل الميداني " دون كل شئ فأنت لا تدري ما الذي سيكون ذا أهمية فيما بعد" ويتحول اللهاث وراء البيانات إلى نوع من " الوسواس القهري" كما ذكرت إحدى الباحثات وهي تحكي خبرتها الميدانية قائلة: "سرت في عملي أحول أشد تفاصيل الحياة الاجتماعية للفرد إلى بيانات وكان الالتزام بتسجيل كل المعلومات التافهة وغير التافهة والتشبث بالعدد والأعداد قد وصل معي إلى منتهاه ... وعمدت على تقديم المعلومات الطبية في شكل إحصاءات رقمية مستعينة ببعض المتخصصين في البيولوجيا الطبية ومستخدمة أدواتهم البحثية النمطية المعتمدة" لكن أدركت الباحثة مخاطر تحكم البيانات بالمنهج والموضوع "فبدلاً من أن تصبح البيانات مساعداً في فهم تعريف القرويين أمراضهم وطرائقهم في علاجها (موضوع البحث ) أصبح الهدف ترجمة مقولاتهم عن الأمراض على بيانات موضوعية " مما حدا بالباحثة إلى تغيير أسلوبها " ليصبح التوحد مع الموضوع هو التوجه الذي يرشد عملية البحث عن المعلومات الميدانية" [29] فقد أدى التركيز على البيانات في أحوال كثيرة إلى تحول البيانات وجمعها إلى غاية في حد ذاته فأصبح طابع جمع البيانات والإحصاءات هو الطابع المميز لهذه البحوث أكثر من تقديمها لتفسيرات وتحليلات للمجتمع ومن الواضح أن الغرق في قصاصات مليئة بالجداول والأرقام مهما كانت دقتها دون إطار تحليلي كلائم لن يؤدي إلى نتائج تسهم في فهم الواقع وتفسيره.[30]
ولا يتوجه الانتقاد هنا لجمع البيانات ودقتها بل إلى التطرف في ذلك في ظل افتقاد الإطار النظري الموجه لتصبح الأداة بديلاً عن النظرية وأن تصبح البيانات بديلاً عن التفسير والتحليل وأن يتحول الباحث الاجتماعي إلى أداة معاونة للحاسب الآلي.
3- إشكالية التراكم والتعميم:
تعنى هذه الإشكالية بقضية التراكم البحثي فعادة ما ينظر على للدراسات الميدانية باعتبارها "تكشف" عن جزئيات من الواقع تتراكم وتتكامل لتعطي صورة متكاملة وتستند هذه الرؤية إلى افتراضين أساسيين: أن هذه الدراسات الميدانية باعتمادها الأسلوب الإحصائي يمكن أن تصل لنوع من التعميم على المجتمع محل البحث والافتراض الآخر أنه يمكن الربط بين هذه التعميمات الجزئية التي يتم التوصل إليها من خلال مراكمة الدراسات الميدانية باعتبارها حالات ممثلة ولكن هذه الافتراضات عرضة للتحدي بصورة متزايدة مع ضعف ارتباط بعض هذه البحوث بالبناء النظري في المجال البحثي المعني.
§ فمن ناحية يحذر البعض من الاستسلام للأحلام العريضة بشأن استخدام العينة في فهم الواقع الاجتماعي فكثير من البحوث الميدانية التي تعتمد على العينات لبلوغ نتائجها ليس في وسعها صياغة تعميمات نظرية لأن العينة مهما يكن من الإجراءات الإحصائية المستخدمة في تصحيحها وجعلها أكثر تمثيلاً لا يمكن أن تجعل منها حالة ممثلة مطابقة يمكن التعميم منها فالبحوث التي تستخدم العينات هي في التحليل الأخير دراسة حالة متخفية وبالتالي فهي دراسة حالة غير مستوفاة و لا دقيقة يشهد لذلك النتائج المختلفة وأحياناً المتضاربة التي تقدمها مثل هذه البحوث ولن يعدم الباحث من الدراسات الميدانية ما يؤيد وجهة نظره.
§ ومن ناحية ثانية فإن المؤالفة بين نتائج البحوث المختلفة دون إدراك الارتباط والتفاعل بين النتائج التي تم التوصل إليها وتصميم البحث لن تؤدي إلا إلى نتائج لا دلالة لها فتقديم إجابات تطرحها المشكلة البحثية من خلال الجمع بين نتائج بحوث عن أجزائها تم بحثها في حالة انفصال يتنافى مع طبيعة الظواهر الاجتماعية.
§ ومن ناحية ثالثة فإن الأساس الإحصائي لمثل هذه البحوث لا يخلو من نقد فالصيغة الإحصائية لبناء العينة هي:
N= (ts)2
D
1- 1 (t s)2
N d
حيث n تمثل عدد أشخاص العينة المطلوب تحديدها و N عدد أشخاص مجتمع الدراسة و d الخطأ الذي نقرر القبول به و t مساحة الثقة و s2 شروط تغيير المتغير x الذي لا نعرفه ولتحديد حجم العينة يجب معرفة ميدان شروط تغيير المتغير x فإذا كانت شروط تغييره كبيرة فإن n يجب أن تكون كبيرة والعكس بالعكس إلا إن S في العلوم الاجتماعية هي عبارة عن تقدير دائماً وعلى أساس هذا التقدير نكون ملزمين بتأسيس n أو بعبارة أخرى يتم تحديد حجم العينة انطلاقاً من تقدير يجري على أساس فرضية لم يتم التحقق منها قط تقول بأن التوزيع معتاد و فيما بعد يكون علينا أن نهمل حقيقة وجود عدة متغيرات ينبغي على تقدير S أن يأخذها في الحسبان وعادة ما تؤخذ هذه المتغيرات بشكل منعزل على حين أنه من المعروف أن لها بعدين أو أكثر وهذا الأمر هام لتحديد n علاوة على ذلك يستند تحديد العينة بواسطة الاختبار المدروس على فرضية أن متغيرات المراقبة توزع إحصائياً مثل المتغيرات التي ينبغي تحليلها وتفترض مثل هذه الفرضية وجود علاقة متبادلة وثيقة بين متغيرات المراقبة (السن – الجنس – السكن – الفئات الاجتماعية ...) ونموذج الجواب المعطى ومن المستحيل مراقبة هذه الفرضية ولهذا فليس لدينا أي وسيلة لتقويم قابلية التقدير للتغير.
وترتبط مشكلة التعميم بالنظرة الذرية أو التجزيئية لبعض هذه البحوث التي قدمت تفصيلات جزئية معزولة عن سياق بنائها الاجتماعي ويصعب أن تتسق هذه الجزئيات في كل متكامل كما تؤدي هذه النظرة إلى تشويه البحث فتشير إحدى الدراسات عن وضعية النساء والنظام الصحي إلى أن رصد وفهم هذا الموضوع اعتماداً على الجماعة موضع البحث غير ممكن بدون الأخذ في الاعتبار السلطة التي تمارسها الدولة على أهل المجتمع المبحوث بل والبنية الطبقية المندمجة في النظام الاقتصادي السياسي العالمي فتفتيت الواقع الاجتماعي إلى ذرات لا يمكن رؤيتها في علاقتها بالنسق الكلي وموقعها منه يتنافى مع شمولية الظاهرة الاجتماعية وديناميتها وربما يجد ذلك تفسيراً جزئياً في مذهب الموضوعية حيث تتحول الموضوعية إلى أيديولوجية تأخذ الواقع القائم كمعطى ولا تفترض المجتمع كنسق كامل وإنما تتناول بعض ظواهره الفرعية التي ينظر إليها كما لو كانت تنشأ وتتحول وتعمل في فراغ بعيداً عن السياق الاجتماعي لها ودون أن تتأمل في نشأة هذا الواقع وإمكانية تغيره بعبارة أخرى هي نظرة لا تاريخية فلا ينظر مثل هذه البحوث في رؤيتها للواقع لا تنظر إليه إلا في آنيته وتهمل أهم جوانب الواقع وهو صيرورته وتحوله فالإنسان موضع الدراسات الاجتماعية ليس موضوعاً يتصف بالوجود المكاني فقط فالإنسان كائن تاريخي يشكل التاريخ جزءاً من واقعه فالفارق بين الإنسان المصري والفرنسي ليس فرقاً بيولوجياً بقدر ما هو فارق تاريخي وعند نفي تاريخية الظاهرة في الدراسات الاجتماعية تتحول هذه البحوث إلى شئ أسبه بصورة فوتوجرافية ساكنة في لحظة معينة في حين أن الظاهرة الاجتماعية في صيرورة دائمة شأنها شان الحياة التي تتدفق في نهر لا يتوقف أبداً وفي ظل هذا الفهم السكوني للواقع يصبح الاهتمام بأسئلة بحثية تدور حول السؤال كيف دون أن تتطرق على السؤال لماذا فلا تتساءل حول البنى الاجتماعية والسياسية التي تفرز هذا الواقع
[31] الذي يحمل بصماتها إن إهمال هذه الأبعاد يؤدي إلى نتاج بحثي محدود القيمة لا يتعدى تجميعاً للمادة الميدانية في شكل جداول ثم التعليق عليها بوصف موجز يلخص ما تتضمنه هذه الجداول مضافاً إليه فقرات عن "الاتجاهات العامة" التي تنطوي عليها المادة الميدانية.[32]


ثانياً مشكلات العمل الميداني
1- البحوث الميدانية بين الكم والكيف
من الملاحظ وجود اتجاه متزايد نحو البحوث الكمية في البحوث الميدانية في مقابل البحوث التي تستخدم الأسلوب الكيفي حتى أصبح البعض يسوي بين البحث الميداني والبحث الذي يعتمد على الأسلوب الكمي بما يتطلب معالجة استخدام الأسلوب الكمي والكيفي وصولاً لنظرة تكاملية بينهما
أ‌- البحوث الكمية والكيفية
المناظرة بين المناهج الكمية والكيفية من المناظرات الكلاسية التي لم تعد تحظ بنفس الأهمية التي كانت عليها في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم فالكم والكيف مقولتان تعكسان جانبين هامين للحقيقة الموضوعية فكل شئ في الوجود له كم وكيف أما الكم فيدل على درجة تطور الشئ والمرحلة التي وصل إليها أو درجة كثافة خصائصه الجوهرية وفي مجال الظواهر الاجتماعية نجد النظام الاقتصادي مثلاُ له مستوى معين من التطور يميزه عن غيره وطاقة إنتاجية محددة فالمناهج الكمية إذن هي التي تشتمل على قياس او عمليات حسابية أو علاقات عددية ويميل المحبذون للمناهج الكمية للاهتمام بالتفاصيل الصغيرة وتقديم تعريف دقيق لما يتم عده أو قياسه ويكون قابلاً للتعريف بأسلوب موضوعي واشتراط إتمام عملية العد والقياس بعناية وأن تسمح الوسائل المستخدمة بتكرار عملية القياس بنجاح وأن يكون بالمستطاع إثبات صحة المعرفة المكتسبة دون أن يعني ذلك اختفاء القياسات النظرية أما الكيف فيتجلى في مجموعة من الخصائص والصفات يميز كل منها أحد جوانب الموضوع كما يعطي الكيف الفكرة العامة عن الموضوع ككل و لا تشتمل المناهج الكيفية على عدد أو قياس إنما تأخذ في الاعتبار الخصائص والفروق الكيفية ويعكس الخلاف بين الاتجاهين الكمي والكيفي سعي الباحثين إلى تحقيق هدفين مثاليين من أهداف العلم هما وضوح الرؤية والدقة القاطعة فعلى حين يحاول أنصار الاتجاه الكيفي الوصول إلى أقصى قدر ممكن من وضوح الرؤية للواقع الاجتماعي المتعدد الأبعاد المتشابك العلاقات من خلال النظرة الشاملة والتصور الخلاق يحاول أنصار الاتجاه الكمي تحقيق أكبر قدر من الدقة في دراستهم للظواهر الاجتماعية من خلال استخدام أدوات منهجية ثابتة في جميع المشاهدات واستخدام القياس الكمي.
ولكن تشير الدلائل إلى أن هذين الهدفين ليسا متعارضين بالضرورة فالتقدم العلمي كان دائماً ائتلافاً ناجحاً بين الوقائع والأفكار من خلال البدء بالمناقشة النقدية للتصورات والنظريات باستخدام الأساليب الكيفية لتعود دائماً إلى الحقائق التجريبية باستخدام المناهج الكمية التي تتخذ من العينات الكبيرة والمقاييس المقننة والمعالجات الإحصائية تكنيكاً لها يسمح بالوصول إلى علاقات وإقامة المقارنات ويكمل ذلك مرحلة تالية يتم فيها إجراء البحوث التصريرية باستخدام الأساليب الكيفية لتفسير العلاقات التي أسفرت عنها الدراسات الكمية بعبارة أخرى يمكن تحقيق وضوح الرؤية من خلال تعريف الباحث لبناء الواقع الاجتماعي وأبعاده وعلاقاته بصور كلية كيفية وتتحقق الدقة عندما يستند الباحث إلى هذه النظرة الواضحة ويحاول أن يتحقق من صدقها في ضوء الواقع باستخدام الأساليب الكمية الدقيقة
وقد أتاح التقدم المنهجي تجاوز هذه المناظرة فقد قامت إحدى الدراسات باستشارة أعضاء لجنة منطق ومنهج البحث بالجمعية الدولية للعلوم الاجتماعية فتوصلت إلى أن هناك عدة نقاط حظيت باتفاق واسع حولها منها
1- اختفاء الزعم بالتمييز بين مناهج البحث الكمية والكيفية 2- أن المناهج البحثية تتصف بأنها ذات طابع غير شامل فلكل منها نطاق تظهر فيه كفاءتها ولياقتها عن غيرها.
ومن ناحية أخرى فإن الدراسات المعنية بتحديد المعاني المختلفة التي تنطوي عليها التفرقة بين الكمي والكيفي من خلال استخدام الكلمات في مقابل الأرقام والطبيعي مقابل المصطنع والمعنى مقابل السلوك هذه الدراسات انتهت إلى أن الأمرشابه التبسيط المفرط فهذا التمييز يميل إلى تعتيم مدى التعقد الذي تتصف به المشكلات التي تواجهنا على حين يذهب آخرون إلى أنه ليس هناك باحث يقوم ببحث كمي فقط أو كيفي فقط كما أدى استخدام الكمبيوتر احياناً إلى تجاوز الفجوة بين الكمي والكيفي
ب‌-البحوث الميدانية الكمية والكيفية
يتضح مما سبق أن التمييز بين البحوث الكمية والكيفية هو تمييز نسبي حسب الطابع الذي يغلب على هذه البحوث ويمكن في هذا الصدد ملاحظة غلبة الطابع الكمي على البحوث الميدانية وقلة البحوث التي تعتمد الأسلوب الكيفي.
ويمكن تفسير ذلك جزئياً بالتقاليد البحثية التي صاحبت تطور العلوم الاجتماعية ففي مرحلة مبكرة حول ماكس فيبر الاهتمام في علم الاجتماع من مفاهيم تتجاوز الفرد وتشمله كالإنسان والبنى الاجتماعية إلى الإنسان والأفعال الصادرة عنه من خلال مستويين للدراسة دراسة الفعل من حيث هو سلوك خارجي والمستوى الآخر فهم هذا الفعل ذاتياً على خلاف دوركايم الذي اكتفى بدراسة الوقائع الاجتماعية الخارجية فقد ميز فيبر بين الفهم Understanding والتفسير واعتبر أن الفهم وصولاً للمعنى هو العنصر المميز للعلوم الاجتماعية ومن ثم فإن دراسة الظواهر الاجتماعية يجب أن تتم من الداخل والخارج معاً أو من خلال الملاحظة والوصف والفهم الذاتي بمعنى قدرة الباحث على وضع نفسه في موضع الشخص الذي يدرسه ليتفهم تجربته الإنسانية فبناء علم الاجتماع كعلم تعميمي يوجب استيعاب الفعل الاجتماعي على مستوى المعنى وفي الوقت نفسه تحليله إلى حد ما تحليلاً سببياً مقبولاً فتوجد أشياء كامنة في ما يتعلق بتصرفات الأفراد وهناك أشياء خاصة بالقيم والمعتقدات غير واضحة ولا صريحة وعلى الباحث الاجتماعي محاولة كشفها وإخراجها إلى حيز الوجود حيث لا يمكن الاعتماد على الوقائع الظاهرة وإهمال الأشياء الكامنة في شرح وتفسير التصرف الاجتماعي أما الاتجاه الآخر فيرى العلوم الاجتماعية كعلوم تبحث في مجتمع خاص عن حقيقة عامة وفي التنوع عن التماثل لابد وأن تستخدم الأساليب الكمية الدقيقة والقياس العلمي للارتباطات بين الظواهر ويشير ذلك كله أن لدى كل من المنهجين ما يمكن أن يسهم به في تطوير العلم وأن التأرجح بين الأساليب الكمية والكيفية مداً وانحساراً يتعلق بأنماط السلوك البحثي الراسخة إلى حد كبير ففي البداية أدى الاستخدام الكثيف للبحث المسحي بعد الحرب العالمية الثانية إلى أن تكون الغلبة للأسلوب الكمي لكن مع التطور الذي حققته المداخل العلمية الأخرى أحرز المنهج الكيفي تقدماً دعمته المشكلات الاجتماعية الجديدة مثل الإيدز والمخدرات وعلى مستوى البحوث الميدانية لا تزال الغلبة للأسلوب الكمي باستثناء بعض الدراسات الأنثروبولوجية.
جـ - حدود الفهم: مشكلة البحوث الميدانية الكيفية
يمكن التمثيل للمناهج الكيفية بالمدرسة الفنومنولوجية والاتجاهات المرتبطة بها مثل الأثنومثودولوجي والتفاعل الرمزي وتعتمد هذه الاتجاهات على مسلمة مفادها أن دراسة الواقع الاجتماعي يجب أن تبنى على أساس أنظمة المعنى الخاصة بالفاعلين الأفراد فالمدرسة الفنومنولوجية تعبر بشكل عام عن رؤية نظرية تنادي باعتماد الدراسات والبحوث الاجتماعية على الخبرات المباشرة للفاعلين كما تبدو في الظاهر وترى أن سلوك الإنسان يتحدد بمظاهر خبراته وليس بحقيقة موضوعية مادية خارجة عنه ويتفق أنصار هذه المدرسة على عدد من النقاط لخص الحصائص المميزة لرؤيتهم المنهجية:-
- فهم الوعي على أنه هو الذي يمدنا بالمعنى
- الادعاء بأن هناك تركيبات معينة أساسية للوعي وأنها بشئ من التفكير والتأمل تعطينا معرفة مباشرة ويختلف أنصار هذه الاتجاهات حول ماهية هذه التركيبات.
وقد تطورت المدرسة الفنومنولوجية في مراحل متعددة على يد مؤسسها هوسرل والذي اهتم بتحليل شعور الإنسان ووعيه بالنسبة لما يراه في حياته اليومية كأمور مفروغ منها لا يناقشها وحاول في دراساته أن بلقي الضوء على هذه الظاهرات وطالب بالتفكير فيها بعد التحرر من الأفكار السائدة حولها.
أما شوتز فقد ركز اهتمامه على الدراسة العلمية للسلوك الاجتماعي واهتم بمشكلة ركيب فهمنا للعالم من خلال الحياة اليومية وقال بأن أصل المعاني يتترسب في مجرى الوعي STREAM OF CONSCIOUSENESS وأن الخبرات الحياتية لا معنى لها إلا قي ضوء هذه المعاني المترسبة قي العقل والفكر أي في مجرى وعي الإنسان طوال حياته فنحن نفهم سلوك الآخرين بناء على عملية تصنيف حيث يحاول المشاهد أن يستفيد مما لديه من مفاهيم ومدركات سابقة تمثل أنواع السلوك المختلفة في ضوئها يفهم سلوك الناس وتتكون هذه المدركات من خلال خبرات الحياة اليومية
وتختلف مصادرنا التي نصنف عليها سلوك الأفراد حيث أننا نعيش في عالم متعدد المواقف فالفرد يصبح كالممثل الذي يلعب أدواراً مختلفة في العمل وبين أفراد الأسرة ... ويستدعب الفرد في كل حالة من هذه الحالات قوانين وأسس الأدوار المتعددة ليبني عليها نمط السلوك المناسب وإذا كان من السهل القيام بهذه الأدوار فإن الانتقال من حالة لأخرى يتطلب وثبة في الوعي للتغلب على الفروق بين هذه المواقف المختلفة
أما الاتجاه الإثنومثودلوجي الذي يرتبط بالعالم الاجتماعي "هارولدجارفينكل" فيرفض التفسيرات الاجتماعية البنائية التي تفتقر إلى إدراك وقائع التفاعل ويفترض في هذا الاتجاه وجود الفاعل الحر الذي يتفاوض عند التفاعل ويملك ترتيبه الخاص لطائفة متنوعة من خطط الفعل والأساليب العقلانية وتنحصر مهمة الباحث في استقصتء خطوط التفاعل التي يتبناها الفاعل والتفسيرات التي يعطيها لهذا الفعل وطرائق فهمه للفعل الموجه و لا تمثل بنية الواقع الاجتماعي هنا واقعاً معطى لكنها بنية تتم صياغتها وتفسيرها داخل التفاعل لذا تتمثل احد موضوعات البحث في الإثنومثودولوجي في اكتشاف المواقف التي يتم فيها تحطم التفاعل وهناك توجهان أساسيان في دراسات الإثنومثودولجي الأول يهتم باللغة ويركز على استخدام اللغة والعبارات في المناقشات اليومية بين الأفراد والثاني يهتم بالمواقف ويحاول تفهم طرائق الأفراد في التعامل مع المواقف الاجتماعية التي يتواجدون فيها.
وفي كل الأحوال فقد اهتم هذا الاتجاه بالدراسات الميدانية التي حاولت تجنب أخطاءها من إغفال القضايا المهمة عن الإنسان.
أما الاتجاه الثالث التفاعل الرمزي فيرى أن المعنى يتأسس في عملية التفاعل فيتواصل الأفراد مع بعضهم بعضاً ويخترعون المعاني أو يستنتجونها ويتصرفون بناء على ذلك ويتصرفون بناء على ذلك من خلال أنظمة المعنى إضافة إلى أن الفرد يدخل في تواصل ذي معنى مع نفسه ويتوصل إلى نفس أنواع المؤشرات الموجودة في التفاعل الذي يتم بين الأشخاص وهي عمليات معقدة تقتضي قراءة لمعاني الآخرين وتعديل المعاني بناء على هذه القراءة كما يتم تخيل معاني الآخرين وتعديل سلوك الفرد وتوقعاته في ضوء هذه العلميات كما يتم تناول استمرار الترتيبات الاجتماعية بوصفها أفعالا مشتركة إلى حد كبير
يتضح من العرض السابق وجود عدد من المشكلات التي تعترض تطبيق هذه الأساليب البحثية فمن ناحية يثير الاختلاف الثقافي بين الباحثين ومجتمع البحث مشاكل في فهم المعاني التي يضفيها هؤلاء المبحوثين على أفعالهم خاصة في ظل هذه الشبكة المعقدة من التفاعلات الاجتماعية التي يدخلون فيها خاصة في ظل الفارق الطبقي والاجتماعي ووضعية الباحث الذي قد يعجز عن تبادل الرموز مع بعض هذه الفئات الاجتماعية وقد يؤدي ذلك على اتجاه عكسي مناقض تماماً فاعتماد الباحثين على وجهات نظر المشاركين في الأحداث المطلوب دراستها للحصول على المعلومات قد يؤدي بالباحثين إلى تفسير تلك المعلومات بشكل واسع وإعطائها معاني أكثر من حقيقتها فيتصور الباحث بنية معرفية غير حقيقية عند المشاركين وقد يفترض ظروفاً غير موجودة في واقع الأمر .
ومن ناحية أخرى فإن تفسير الفرد لموقف ما وسط العديد من الأفراد يتأثر بمركز الفرد وسط هذه الجماعة وموقعه من النية السلطة فيها وهي مسائل وهي مسائل لا يحددها تفسير الفرد وفهمه للموقف الموجود فيه فقط وإذا كان من المهم فهم ما يضفيه الأفراد من معنى على سلوكهم فإن ذلك وحده لا يكفي للوصول لرؤية أوضح " للظاهرة الاجتماعية " التي تتطلب أيضاً أخذ الذاتية المشتركة الناشئة عن فهم التفاعلات الاجتماعية في الاعتبار
فبرغم أن أنماط التفاعلات الاجتماعية في أية مؤسسة قد تكون نتاج فهم أعضائها لظروفها فإن هناك احتمال لأن يكون هؤلاء الأعضاء غير واعين بتلك الظروف وليس ثمة التزام بالاقتصار على حقيقة الواقع الاجتماعي التي يتم الحصول عليها من الأعضاء في الموقف.
2- أدوات جمع البيانات الميدانية :
وتمثل هذه الأدوات جوهر البحث الميداني لذا كان من الضروري التأكيد ليس فقط على ضرورة مراعاة مقتضيات الدقة المنهجية في استخدامها وتكوينها بل وأيضا مراعاة اللياقة المنهجية لاستخدام كل أداة من هذه الأدوات بإدراك مجالاتها وحدودها إمكاناتها وتوظيفها حسي متطلبات التصميم البحثي.
ومن ناحية أخرى فإن هذه الأدوات نميت وطورت في سياق حضاري معين وترتبط قيمتها وجدواها بالإطار الثقافي والحضاري الذي نميت فيه فهي أدوات تخضع للنسبية الحضارية ومن ثم فلابد من تطويرها وتطويعها لاستعمالها في إطار حضاري مختلف وليتوفر فيها الصدق والثبات فمثلا تقوم أدوات جمع البيانات من استمارة ومقابلة على افتراض الآراء والمواقف الفردية المعبر عنها بشكل فردي إلا أن الخبرة الميدانية تقضي بضرورة مراجعة هذا الافتراض في ظل ما تشير غليه من ظروف اجتماعية أدت لإنكار فردانية الإنسان العربي حتى أصبح يعبر عن " الجماعة التي أصبحت جسماً" فعادة ما يتجمع أفراد الأسرة أو المنزل للمشاركة في الإجابة على أسئلة الاستبيان ويبدو إصرار الباحث على قيام المبحوث بالإجابة بمفرده أمراً غير مفهوم ولا مبرر فيتساءل البعض عن جدوى الاستمارة بهذا الشكل في مجتمع لا يزال فيه التبادل الرمزي المعيار الرئيسي للتواصل وحيث مصطلح الرأي الفردي نفسه كما هو شائع في المجتمعات الغربية المصنعة لا معنى له وحيث لا تخضع الثروة البلاغية لاستراتيجيات الأجوبة للرموز القابلة للتشغيل في الحاسب الآلي.
فمثلاً بالنسبة لاستمارة الاستبيان عادة ما يشار للجوانب المنهجية في إعدادها وصياغتها شكلياً وموضوعياً من حيث تحديد كم ونوعية البيانات المطلوبة بدقة من خلال التصميم الجيد للبحث وتحديد المتغيرات ومسح الأدبيات أو وسائل الإعلام – في استبيانات الرأي – وكذلك استيفاء شروط منهجية معينة سواء في تصميم الاستمارة أو صياغة الأسئلة أي من حيث ترتيب الأسئلة ونوعيتها فيجب بداية تأكيد سرية البيانات في أول الاستمارة أما الأسئلة فيجب أن تكون مرتبة ترتيباً منطقياً وتتسم بالبساطة وعدم التعالي وتجنب الأسئلة الموحية بالإجابة والتي تثير اللبس كأسئلة النفي تتضمن كلمات ذات معاني متعددة ... لكن الأهم ما مدى تكييف الاستمارة لتناسب سياق حضاري مختلف فحيث تسود الأمية ومناخ عدم اللامبالاة وعدم الاهتمام لا يتوقع فقط ارتفاع مستوى عدم الاستجابة بل إن المعرفة المتاحة للمبحوثين غالباً ما تكون محدودة ومن ناحية أخرى فإن البيئة المجتمعية تنعكس على إمكانات الإفادة من الاستمارة فحيث تتحدد موضوعات البحوث بعيداً عن اهتمامات الناس المبحوثين ومن ثم يجدون أنفسهم واقعين تحت ضغط " رسمي أو شكلي" للحديث فيما لا يهمهم و لا يعنيهم خاصة في ظل غربة الباحثين عن الواقع الاجتماعي ففي كثير من الأحيان لا تتجاوز معلومات الباحث عن مجال دراسته الإنساني والبشري هذه الاستجابات المصطنعة التي تقصر عن تقديم معرفة حية حقيقية عن موضوعات البحث بما ينعكس على طبيعة البيانات التي يقدمها المبحوثون كشكل من أشكال الاستجابة الاجتماعية التي تعامل المبحوثين "على قدر عقولهم" فتذكر إحدى الباحثات كيف سمعت الحكايات التي كان الناس يروونها عن "الامتحانات التي أعطاها لهم الباحثون : "الاستبيانات" والحكايات المضحكة البعيدة تماماً عن الواقع التي أجابوا بها كما أن غياب التدفق الحر للمعلومات الذي غالباً ما يأخذ شكل تدفق من في اتجاه واحد من أعلى لأسفل يؤثر على نتائج الاستبيانات التي تعد عديمة الجدوى على حين ينظر للاستبيانات واستطلاعات الرأي في الغرب على أنها أحد أدوات التأثير على صنع السياسة العامة وتزداد الأمور تعقيداً بالنسبة للمقابلة .حيث تسود قيمة الشك إزاء الباحثين سواء في الأوساط الشعبية في الريف في الريف والحضر التي تنظر إلى الباحثين كجزء من السلطة أو في حالات مقابلة الصفوة خاصة في حالة التخوف من الإدلاء بمعلومات وآراء قد يرونها تؤثر على علاقاتهم مع السلطة أو استمرارهم في مناصبهم كما تشير الخبرة الميدانية إلى وجود أوجه قصور تتعلق بعدم مراعاة الاعتبارات الحضارية أو الضغط على المبحوثين وعدم اللباقة في التعامل ومناقشة المبحوثين في إجاباتهم بل وأحياناً توجيه الإجابات .
كما يلاحظ أنه برغم أهمية استخدام الملاحظة في البحث الميداني سواء أكانت بالمشاركة أو بدونها في إعطاء وصف تفصيلي للظاهرة الاجتماعية إلا إنه يندر اللجوء إليها في البحوث الميدانية وبما كان ذلك نظراً لكلفتها العالية حيث تتطلب إعداداً على مستوى عال للباحث الذي يقوم بالملاحظة كما تتطلب بذل قدر اكبر من الوقت والجهد والمال فبرغم ثراء البيانات التي تقدمها الملاحظة كمياً وكيفياً إلا إنه يندر اللجوء إليها باستثناء بحوث علم الأنثروبولوجي التي تتطلب مشاركة الباحث وإقامته في المجتمع المبحوث لفترة طويلة.
ثالثاً بيئة البحث الميداني
تتم البحوث الميدانية في ظل بيئة تفرض عليها مشكلات معينة لعل أهمها موقف السلطة من البحوث الميدانية بما قد يفرضه من مشكلات في جمع البيانات الميدانية أو الاقتصار على موضوعات بحثية معينة ومن ناحية أخرى فإن الباحث الميداني يدخل في علاقة اجتماعية مع مبحوثيه وبالتالي تثور مشكلات طبيعة هذه العلاقة من حيث حقوق هؤلاء المبحوثين في الحفاظ على خصوصياتهم وأسرارهم وعدم استخدام المعلومات التي يدلون بها في غير صالح البحث وحقهم بداية ً في معرفة أهداف البحث ولحساب من يتم إجراؤه وحقهم في الامتناع عن المشاركة أو الانسحاب في أي وقت من البحث والبحوث الميدانية بطبيعتها تتطلب تعبئة للموارد المادية والبشرية والتي قد يقصر عنها الباحث الفرد بما يثير مشكلة تمويل البحوث الميدانية وتزداد المشكلة في حالة إذا كان التمويل يتم من جهات خاصة أو أجنبية تلقي بظلالها على نوعية البحث وأهدافه وطبيعة النتائج التي يتم التوصل إليها.
1- موقف السلطة من البحوث الميدانية:
لا تنجم المشكلات التي تواجهها البحوث الميدانية من المعوقات البيروقراطية التي تضعها السلطة إزاء هذه البحوث في العمل الميداني فقط بل وأيضاً من دورها في تشكيل مناخ البحث الميداني بصورة عامة سواء من خلال هيمنة مفاهيم معينة أو سيادة اتجاهات بحثية معينة والتأكيد على طرح موضوعات وغياب أخرى.
فمن البداية تقف السلطة موقف المتشكك من البحوث الميدانية اللهم إلا ما يجري تحت إشرافها ليتم توظيفها كأساليب فنية للتغلب على الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي ترى فيها بوادر تهديد لمركزها فيتطلب إجراء البحث الميداني موافقات عديدة لجمع البيانات من عدة جهات حكومية تخضع أداة البحث للفحص فمثلاً بالنسبة للاستمارة قد تستبعد بعض الأسئلة التي تراها "غير مناسبة" وقد تشتط في ذلك فتستبعد أسئلة تتعلق ببيان الانتماء الحزبي للمبحوثين أما استطلاعات الرأي فثمة عداء مستحكم بين أنظمة الحكم في العالم الثالث وهذه البحوث .
ومن ناحية أخرى تسهم السلطة في تشكيل المناخ الأيديولوجي السائد الذي تتم فيه هذه البحوث فكثيرا ما تنطلق هذه البحوث من مفهوم السلطة لمسائل كالتطرف أو الانحراف أو الاستقرار فتتغاضى عن التناقضات الحقيقية التي يخفيها هذا الاستقرار.
فموقف السلاطة من البحث الاجتماعي بصفة عامة والبحوث الميدانية بصفة خاصة لا يعكس إدراكها ووعيها بجدوى البحث الاجتماعي بقدر ما تعكس تخوفها أو خشيتها من تطرق البحوث على إثارة قضايا معينة قد يكون في إثارتها تهديد لمصالحها ومن ثم تختفي الموضوعات التي من شانها الكشف عن الخلل الحقيقي في المجتمع وأبنيته وتنصرف إلى بحث الموضوعات الهامشية أو تهميش القضايا الأساسية أو تقتصر على موضوعات معينة دون أخرى ففي الثلاثينات والأربعينات كان أي بحث يتناول مشكلات الطبقة العاملة والفئات المهمشة اجتماعياً كفيل بأن يلقي صاحبه في السجن وفي مراحل تالية كان أي تناول بحثي للقضايا التي تمثل من منظور السلطة تهديداً للاستقرار الاجتماعي غير مسموح به فكانت تعتبر محرمات بحثية فمن الملفت للنظر أيضا توقف معظم البحوث عند تاريخ معين لتناول أنظمة سياسية واقتصادية في فترات ماضية تارة بدعوى الموضوعية وتارة أخرى بدعوى عدم توفر البيانات وقد يأخذ ذلك شكل الاهتمام بنوعيات من البحوث كتلك التي تركز على بحث الطرف الضعف في علاقات القوى وتغفل الطرف الأقوى وتركز على الخاضعين وتغفل المسيطرين فتهتم ببحث الفقراء باعتبارهم ألغام اجتماعية تهدد بالانفجار يجب احتواؤهم وتغفل بحث الطبقة أو الشريحة الاقتصادية المتسببة
في زيادة الفوارق الطبقية.
كما ينعكس موقف السلطة من البحث في تناول بعض الباحثين لمشكلات بحثية تتناول ظواهر جزئية مفتتة كمشكلات فنية وتستغرق في بيانات تفصيلية لا تحمل رؤية لهذه الموضوعات في سياق إطارها الأشمل.
المشكلات الأخلاقية في البحث الميداني:
1- العلاقة مع المبحوثين:
يتم جمع البيانات الميدانية من خلال حالات إنسانية واجتماعية قد تكون أفراداً أو أسراً أو جماعات أو نظماً و مؤسسات اجتماعية ويدخل الباحث مع هؤلاء المبحوثين في علاقات إنسانية تؤثر طبيعتها وشكلها على طبيعة البيانات التي يصل إليها الباحث وقبل ذلك فهؤلاء المبحوثين "أناس " يتمتعون بحقوق إزاء الباحث باعتبار إنسانيتهم وحقهم في الخصوصية وسرية بعض جوانب حياتهم.
تكافؤ العلاقة مع المبحوثين:
لا تزال العلاقة مع المبحوثين يسودها طابع التعالي فلا يزال معظم الباحثين يستخدم أدوات البحث بصورة تحمل معنى الاستخفاف بالمبحوث الذي ينظر إليه على أنه أقل فهماً للواقع فيلزم الاحتياط بأخذ موقف حذر منه كما تشير إجراءات الثبات وإخفاء شخصية الباحث عن المبحوث في الملاحظة إلى وجود نظرة متعالية برغم أن عملية البحث الاجتماعي برمتها هب عملية إنسانية من حيث كونها تجري في وسط إنساني وبوصفها عملية تفاعل بين باحث إنساني وحالة أو موضع إنساني سواء أكان فرداً أو جماعة تستهدف ليس فقط جمع مجموعة من المعلومات عن جماعة اجتماعية أو موقف اجتماعي محدد بل أيضا فهم للقيم والعادات والنوايا وللأهمية والمغزى ومن ثم برز التأكيد من جديد على أن كلا الباحثين ومن تجرى دراستهم شركاء في بناء صرح الحقيقة وينبني على ذلك ما يمكن تسميته بحق الناس في المشاركة في اختيار موضوعات البحث التي يطلب منهم التعاون فيها فقد لا يجد هؤلاء الناس في المشكلة أو الموضوع الذي يستفتون حوله مشكلة أو موضوعاً هاماً ومشوقاً بالنسبة لهم ومن ثم يجدون أنفسهم واقعين تحت ضغط للحديث فيما لا يهمه و لا يعنيهم بينما يودون لو أتيحت لهم الفرصة لمناقشة مشكلات حقيقية وملحة بالنسبة لهم و لا ينصب الاهتمام هنا على تأثير ذلك على صدق البيانات ودقة النتائج بقدر ما ينصب على مدى أخلاقية وإنسانية فرض وإقحام موضوعات معينة على الناس وطلب تعاونهم بصددها برغم كونها لا تمثل مشكلات حقيقية وأيضاً افتعال مواقف بحثية مصطنعة تسبب ضيقاً وتوترات وتقتحم الخصوصية دون مقابل يذكر بل ودون معنى حقيقي في ذهن هؤلاء الناس
ويدخل في هذا الإطار طرق الاتصال أو التواصل بين الباحث الاجتماعي وموضوعاته الإنسانية لأن أساليب معينة للاتصال قد تخلق في حد ذاتها ضغوطاً وتوترات وأشكالاً من القلق لدى الحالات الإنسانية موضع الدراسة ومنها هذه الطرق بالغة التقنين التي لا تتيح فرصة لحوار إنساني حقيقي وينسحب ذلك أيضاً على لغة التواصل بين الباحث وموضوعاته الإنسانية ومدى ملاءمة هذه اللغة للإطار الاجتماعي والثقافي
- الخصوصية والسرية :
يتطلب جمع البيانات الميدانية أحيانا تدخلاً في شئون المبحوثين بما يعنيه من اقتحام لخصوصياتهم من خلال تعرية وكشف جوانب معينة قد لا ترحب هذه الحالات الإنسانية بكشفها أو قد يترتب على ذلك أضرار تحيق بها أو آثار سلبية بالنسبة لها وتظهر هذه المشكلة التعارض بين مبدأين أساسيين الحاجة إلى معرفة مشكلات الناس واتجاهاتهم وآرائهم ودوافعهم والحاجة إلى المحافظة على الحقوق الشخصية وأيضاً فيما يتعلق بجمع البيانات حول حالات إنسانية واجتماعية قد يجري استخدامها دون علم من جمعت عنه البيانات وأيضاً حق المبحوثين في عدم إساءة استخدام هذه البيانات ويلاحظ في هذا الصدد أن مسألة السرية مسألة نسبية تختلف من شخص لآخر لكن تبقى ضرورة مراعاة السرية التي يعود تقديرها إلى الباحث الاجتماعي المسئول بناء على الدراسة الموضوعية لكل حالة وأن يهدف الباحث إلى مخا فيه مصلحة المبحوث أولاً وإلى الصالح العام للبحث الاجتماعي بصفة عامة ولا يقتصر ذلك على الأفراد فقط بل ينسحب ذلك على الجماعات المبحوثة على اختلاف أنواعها ويجب أن تكون نتائج البحث وتوظيفها لصالحهم.
خاتمة حاولت السطور السابقة تقديم رؤية لبعض ما يعترض البحوث الميدانية من مشكلات انطلاقاً من قناعة بأن كفاءة هذه البحوث تتحسن بإدراك حدود هذه البحوث والمجالات التي يمكن أن تعمل فيها وأيضاّ إحاطتها بالضمانات التي تكفل تحقيق عدد من المعادلات التوازنية التي يفرضها التناول المنهجي القويم: بين النظرة الذرية التي تفترضها المعالجة المتعمقة للظاهرة المبحوثة وشمولية الظاهرة الاجتماعية وبين التحديد الدقيق للظاهرة المبحوثة ورؤية ارتباطاتها الأشمل مع بقية أجزاء الظاهرة الاجتماعية وبين فهم الظاهرة الاجتماعية من الداخل وقياسها من الخارج وبين وضوح رؤيتها وبين دقة هذه الرؤية و لا يمكن تحقيق هذه التوازنات إلا من خلال وعي منهجي بالتكامل بين التنظير والواقع وبالرؤرية المنهجية المنفتحة التي ترى في المنهج "الطريق الموصل للغاية" وبقدر تيسيره للغاية بقدر ما تكون صلاحيته دون أن يكون في ذلك نيل من صحته سواء أكانت هذه المناهج كمية أو كيفية إضافة إلى مراعاة اعتبارات اللياقة المنهجية لهذه المناهج والأدوات المستخدمة فيها وتطويعها للتتناسب مع البيئة الحضارية التي تختلف عن البيئة التي طورت فيها وهو ما يتطلب من البحث وعياً ومراناً بإمكانات هذه الأدوات وجوانب الخصوصية فيها والتي يجب مراعاتها حتى لا يتم تغليب الشكل على الجوهر والمضمون أخذاً في الاعتبار الطبيعة الخاصة للعلوم الاجتماعية باعتبارها علوماً إنسانية أيضاً فلا يمكن تطبيق الإجراءات الصارمة للعلوم الصلدة الطبيعية فيها فالتواصل الإنساني مع مجتمع المبحوثين بصورة ندية ومراعاة اهتماماتهم مشكلات لا تعرفها هذه العلوم لكنها تطرح نفسها بقوة في العلوم الاجتماعية التي يمثل الإنسان من خلال التفكير النقدي في الظواهر الاجتماعية هدفها ومادتها في آن واحد ويحيل ذلك إلى مجموعة من المشكلات الأخلاقية التي ترتبط بالعلاقة مع المبحوثين وحقوقهم في الحفاظ على خصوصياتهم وألا تستخدم البحوث الاجتماعية بصورة تتنافى مع مصالحهم وحقهم في السرية اقتناعاً بأن الباحثين والمبحوثين شركاء في بناء صرح المعرفة الاجتماعية يجب أن تتسم العلاقة بينهم بالندية والتكافؤ.
[1] ُ Encyclopedia of social Science, Vol. 5, P.418
[2] أماني قنديل ،"تصميم البحوث الميدانية في:
ودودة بدران (محرر ) ، "تصميم البحوث في العلوم الاجتماعية "، (القاهرة: مركز الدراسات والبحوث السياسية بجامعة القاهرة، 1992)ص.156

[3] حسن الساعتي، "تصميم البحوث الاجتماعية ومناهجها وطرائقها وكتابتها" (القاهرة: مكتبة رأفت، 1992) ص. 239.
[4] أماني قنديل ،مرجع سابق ، ص.155.
[5] نيل ج سميلسر، النظريات السوسيولوجية ، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية ، العدد 139 فبراير 1994، ص.9
[6] الآن شالمرز، الحسين سحبان وفؤاد الصفا (مترجمان) "نظريات العلم "، الدار البيضاء : دار توبقال للنشر،1991) ص.38.
[7] نيل ج سميلسر، النظريات السوسيولوجية ، مرجع سابق، ص.11.
[8] أماني قنديل ،"تصميم البحوث الميدانية، مرجع سابق، ص.153.
[9] نيل ج سميلسر، النظريات السوسيولوجية ، مرجع سابق، ص.11.
[10] نبيل السمالوطي، "الأيديولوجيا وقضايا علم الاجتماع النظرية والمنهجية والتطبيقية "، (الإسكندرية: دار المطبوعات الجديدة ، 1990) ص. 124.
[11] عبدالله محمد سليمان، دراسة السلوك بين التنظير والتجريب، في
جابر عصفور (محرر) ، مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، (الكويت: دار العروبة للنشر والتوزيع، 1988) ص.190.
[12] نبيل السمالوطي، "الأيديولوجيا وقضايا علم الاجتماع، مرجع سابق، ص.- ص 120-124.

المرجع السابق ص. 118.[13]
[14] سالم يفوت ، "فلسفة العلم المعاصر ومفهومها للواقع " (بيروت: دار الطليعة 1986) ص.246
[15] المرجع السابق ص 249
[16] الآن شالمرز، مرجع سابق،42.
[17] تركي الحمد ، "دراسات أيديولوجية في الحالة العربية" (بيروت:دار الطليعة ،1990)ص.23.
عبدالله محمد سليمان، دراسة السلوك بين التنظير والتجريب ، مرجع سابق، 194.[18]
[19] حول التحديد الدقيق للمشكلة البحثية انظر:
أحمد يوسف أحمد ، "تحديد المشكلة البحثية" في:
ودودة بدران (محرر)، تصميم البحوث في العلوم الاجتماعية، مرجع سابق ص.ص. 10-13.
[20] مصطفى سويف، الدلالة الأخلاقية لكفاءة العلماء في دول العالم الثالث، في:
ناهد صالح ، رباب الحسيني ، منيرة إسماعيل (محررون)، أخلاقيات البحث العلمي الاجتماعي ( القاهرة: المركز القومي للبحوث الاجتماعية ،1990) ص.127.
[21] أحمد يوسف أحمد ، "تحديد المشكلة البحثية" مرجع سابق،ص.14.
[22] محمد عزت حجازي، "الأزمة الراهنة لعلم الاجتماع في الوطن العربي" في:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ (وآخرون)، نحو علم اجتماع عربي: علم الاجتماع والمشكلات العربية الراهنة"(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ،1986)ص ص 23-24.
[23] سالم ساري ، الاجتماعيون العرب ودراسة القضايا المجتمعية، المرجع السابق،ص 190.
[24] المرجع السابق ،ص.192
[25] جورج غورفيتش، خليل أحمد خليل (مترجم) "الأطر الاجتماعية للمعرفة " (بيروت: المؤسسة الجامعية للنشر )1981 ، ص 261.
[26] تركي الحمد ،مرجع سابق ، ص.32
[27] المرجع السابق ص.34.
[28] صبحي محمد قنوص، "علم دراسة المجتمع: دراسة تحليلية في البناء والتغير الاجتماعي"، (طرابلس الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع ،1990)ص.66
[29] سهير لطفي، العمل الميداني في وطني مصر ، في:
كاميليا الصلح، ثريا التركي (محررتان )، في وطني أبحث: المرأة العربية في ميدان البحوث الاجتماعية ، (بيروت:مركز دراسات الوحدة العربية 1993ص.125
[30] على الدين هلال ،" البحث العلمي بين الحرية الفردية والمسئولية الاجتماعية في :
ناهد صالح ، مرجع سابق ،ص.27.

1 Comments:

At 1:13 AM , Blogger Telefone VoIP said...

Hello. This post is likeable, and your blog is very interesting, congratulations :-). I will add in my blogroll =). If possible gives a last there on my blog, it is about the Telefone VoIP, I hope you enjoy. The address is http://telefone-voip.blogspot.com. A hug.

 

Post a Comment

Subscribe to Post Comments [Atom]

<< Home