Monday, September 10, 2007

الإسلاميون وتحدي المجتمع المدني
تكتسب محاولة استكشاف أبعاد رؤية الإسلاميين للمجتمع المدني أهميتها الخاصة، لا لمجرد أنها محاولة لاستكناه رؤية أحد التيارات الاجتماعية السياسية الفاعلة في الواقع المعاصر لواحدة من أهم القضايا المطروحة علي أجندة الحوار حول تغيير الاجتماعي السياسي، بل لأن طروحات الإسلاميين حول المجتمع المدني تعكس أبعاداً منهجية هامة في رؤية التيارات الإسلامية تتعلق برؤيتهم للتاريخ والتراث، وتكييفهم للواقع المعاش ومنهج التعامل معه، وتعكس موقفًا من الآخر، سواء كان الآخر المختلف ضمن الجماعة السياسية أو الآخر المختلف حضاريًا.
وفي هذا الصدد تبرز مقولتان أساسيتان: الأولي تري أن تصور الإسلاميين للمجتمع المدني تصور حركي (دينامي) تطور عبر الزمن، سواء بالتجديد الفكري، أو بفعل ضرورات الواقع، وإلحاح المفهوم نفسه. أما المقولة الأخرى فتفترض وجود تميزات داخل هذه الرؤية تبعًا لموقف كل اتجاه من اتجاهات الإسلاميين إزاء العمل السياسي والعمل العام، ومدي انفتاحه علي التيارات الأخرى وتقبله للعمل معها، ومدي وجود خبرة عملية في العمل الأهلي والعمل المشترك بشكل عام مع التيارات الأخرى، وفي هذا الإطار يمكن طرح بعض الأبعاد التي تعبرعن المحاور الرئيسة في رؤية الإسلاميين للمجتمع المدني .
1- تصور الإسلاميين لأسباب إعادة طرح مفهوم المجتمع المدني:
يري بعض الإسلاميين أن احتدام النقاش حول المجتمع المدني والدعوة لإعادة تفعيله تعبر عن حالة مرضية عامة لدي المثقفين العرب كانعكاس لأزمتهم الفكرية التي أدت إلى معاناة كثير منهم من مشكلة انصراف الأمة بطوائفها وفئاتها عنهم، ويربط هؤلاء الإسلاميين هذه الأزمة بالتبعية الفكرية للغرب؛ حيث ارتبطت أجندة تفكير الطائفة المتغربة من المثقفين وأولويات اهتمامها بما هو قائم في الغرب بشقيه: الرأسمالي والاشتراكي السابق، فجزء من مثقفينا ولي وجهة شطر الغرب، فاتخذه قبلة يردد في رجع للصدي ما يتردد في الغرب من قضايا ومفاهيم وإشكالات، فإن قال الغرب ديمقراطية، قالوا: ديمقراطية، وإن قال: مجتمع مدني، قالوا: مجتمع مدني([1]) فطرح مفهوم المجتمع المدنى جاء فى سياق البحث عند الغرب عن وصفة سحرية ستزول بها كل أسقام المجتمع العربى، وتمثلت هذه الوصفة فى السبعينات فى الديمقراطية، وتاليًا فى تفعيل دور المجتمع المدنى الذى تم ربطه بعملية التغيير الحضارى، فجرى عرض مفهوم المجتمع المدنى كمفهوم يقدم حلولاً لمجموعة من الإشكالات الموجودة فى الواقع، مع المبالغة فى قيمة المفهوم وتأثيراته فى مواجهة مشاكل الواقع السياسى بكل تنوعاته، ومع إغفال عناصر القابلية للمفهوم التى غالبا ماتتحكم فى فاعليته.([2])
ولم يتم التعامل مع المجتمع المدنى كوصفة سحرية فقط، بل وكموضة من الموضات الفكرية الرائجة التى يجرى تسويقها بعد تعليبها وتغليفها فى اطار صناعة الأفكار والمفاهيم([3]) ،ومع نقل المفهوم بشكل انتقائى، تم التركيز فيه على أبعاد معينة واقتطاعها من سياقها الكلى والتاريخى، فأصبح المجتمع المدنى مجالاً للاقتتال بين الفرقاء، ومحورًا لتجديد عقيدة سياسية معينة ضمن شعارات الحرب العقائدية والسياسية الراهنة فى المجتمعات العربية.([4]) فأصبح مفهوم المجتمع المدنى من أهم المفاهيم السياسية المستخدمة فى الحرب ضد التيار الاسلامى وبالأخص فى مصر وتونس.([5])
وعليه فإن طرح المفهوم مجددًا جرى فى سياق السجال بين الاسلاميين والتيارت المناهضة لهم باسم الحداثة، كما ازداد تداول مفهوم المجتمع المدنى لدى الشيوعيين والماركسيين الذين لجؤوا إليه بعد تردد نتيجة سقوط المشروع الشيوعى بسقوط الاتحاد السوفيتي، فأرادو أن يجددوا مشروعهم السياسى ويضخوا فيه دماءً جديدة، فكانت الديمقراطية وحقوق الانسان والمجتمع المدنى هى القضايا المرشحة لضخ هذه الدماء.([6]) خاصة أن جزءًا كبيرًا منهم رأوا أن هذه القضايا هي أيديولوجيا النظام الدولى الجديد، فتجاوبوا معها سريعًا. ومن ناحية أخرى فقد تم استدعاء هذا المفهوم من طرف دعاة الديمقراطية في الوطن العربي علي اختلاف اتجاهاتهم كأداة تحليلية للمأزق السياسي الذي تعيشه الدول العربية المعاصرة، وللحرب ضد النمط الشمولي لهذا النوع من الدول وللتبشير بالنموذج الليبرالي للدولة غالبًا.
2- الاسلاميون والمجتمع المدنى: اشكالية التعريف.
إذا كان بعض الاسلاميين يقبل استخدام تسمية المجتمع المدنى([7]) فان بعضهم يتحفظ على هذه التسمية مؤثرًا مفهوم المجتمع الأهلى للدلالة على خصوصية المجتمع المدنى فى الخبرة العربية الاسلامية([8]) على حين يؤثر آخرون إطلاق اسم مؤسسات الأمة على تنظيمات المجتمع المدنى ([9]) إلا إنهم كلهم يجمعهم وعى حاد بتأثير خصوصية الخبرة التاريخية التى أنتجت المفهوم.
فلا يرى بعض الاسلاميين غضاضة فى استخدام مفهوم المجتمع المدنى مع إعطاء وصف المدنى مضامين مختلفة، بينما يرى آخرون أن مفهوم المجتمع المدنى فى نشأته واستخدامه المعاصر شديد الالتصاق بالتجربة الغربية لاسيما فى جانبها الليبرالى الديمقراطى، وتحديدًا شديد الالتصاق بتشكل حقوق المواطن، ووعيه مواطنته فى اجتماع سياسى مدنى مواجه للطابع الكنسى-الكهنوتى الشمولى للدولة ..... أما التعبير الاصطلاحى الذى تردد فى تراث العرب والمسلمين عبر تاريخ علاقتهم السياسية والاجتماعية والثقافية فهو الأخ والأخوية والإخوان والأهل، وكلها تعابير تنم وتصدر عن اجتماع سياسي سمته الأساسية الانتماء إلي الإسلام أو الولاء للأمة تبعًا لتدرج مراتب ذلك الولاء بدءاً من أهل الحارة، إلي أهل الحرف والطرق والطوائف، إلي أهل الأمصار([10])، ووفقا لهذا التمييز يقترح مفهوم المجتمع الأهلي باعتبار أنه ما يوازي مفهوم المجتمع المدني من حيث دلالة استقلالية المجتمع عن الدولة عبر مؤسسات ومنظمات مستقلة أو شبه مستقلة أو وسيطة.([11])
ويري باحثون إسلاميون أن جوهر مفهوم المجتمع المدني باعتباره مفهومًا ينتمي في جزء منه لدائرة المشترك الإنساني العام تتمثل في عناصر الطوعية المفضية إلي الالتزام، والتكوينات المؤسسة الوسيطة باعتبارها تكوينات مجتمعية تمثل محاضن الحماية الاجتماعية التي تعمل كوسائط لإبلاغ المطالب للسلطة والدفاع عن هذه المطالب. وتشير هذه العناصر إلي مفهوم مؤسسات الأمة التي تهتم بقضايا ومجالات تمس كيان الامة ملتزمة بعناصر الطوعية والالتزام.
وهذه المؤسسات هي نتاج حركة الامة في سياق الفكرة التي تؤكد علي أن يكون للمجتمع مؤسساته الحمائية القادرة علي حضانة الفرد وتهيئة البيئة لممارسة الحقوق النوعية المرتبطة بالمهنة أو الوظيفة أو الدور أو حقوق الإنسان العامة التي ترتبط به هذا الوصف، وذلك في مواجهة أي انتهاك لها، ومن ثم تتأسس فاعلية هذه المؤسسات في دعم الرابطة السياسية بين الحاكم والمحكومين، وتحديد شكل هذه العلاقة بحيث لاتأخذ شكل الخطوط النازلة من أعلي إلي أسفل فقط.([12])
وعليه يري بعض الاسلاميين أنه علي الرغم من حداثة تداول مفهوم المجتمع الأهلي بمعني المجتمع المدني في الأدبيات الاسلامية المعاصرة، فإنه مفهوم عميق التأصيل إسلاميًا من حيث التأصيل المعرفي والتجريب العلمي ([13])، بل ويذهب بعضهم إلي حد القول بأن سلطة مؤسسة المجتمع المدني التي تبلورت في مراحل متقدمة من تجربة الحكم الديمقراطي في الغرب هي في جوهرها واستهدافاتها فكرة اسلامية([14])، فهي فكرة سلطة المجتمع في موازاة سلطة الدولة تجسدها في الاسلام قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعلي هذا الأساس يقبل بعض الاسلاميين([15]) التعريف الاجرائي الذي أقرته ندوة "مركز دراسات الوحدة العربية" من أن المجتمع المدني هو المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة: منها أغراض سياسية كالمشاركة صنع القرار علي المستوي القومي، ومثال ذلك الأحزاب السياسية، ومنها أغراض مهنية، كما هو الحال في النقابات للارتفاع بمستوي المهنة والدفاع عن مصالح أعضائها، وفي أغراض ثقافية، كما في اتحادات الكتاب والجمعيات الثقافية التي تهدف الي نشر الوعي الثقافي وفقا لاتجاهات أعضاء كل جمعية، ومنها أغراض اجتماعية للإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية. ويري هؤلاء أن المجتمع المدني لصيق بما يسمي المنظمات غير الحكومية كالنقابات والجمعيات والأحزاب التي تمثل في حقيقتها مؤسسات الأمة، حيث لا مشاحة في الألفاظ اذا اتضحت المعاني([16]).
إلا إن إسلاميين آخرين يتحفظون علي فكرة التعريف الاجرائي للمجتمع المدني كجزء من التحفظ الأعم علي مفهوم التعريف الإجرائي نفسه وأسسه المنهجية، فالتعريف الإجرائي من وجهة النظر هذه يحاول من خلال الارتباط بفكرة المؤشرات الوصول لتعريف للمفهوم يتغافل عن أبعاده التاريخية وسيرته وتطوره، ويتعامل معه كما آلت اليه حالته، ومن ثم يبقي مفهوم المجتمع المدني موسومًا بالانتقائية المعيبة، كم ينفي إهمال الخبرة التاريخية حقيقة أنه من المتصور - في سياق الخبرة الاسلامية -أن تبرز أشكال اخري من المؤسسات التي قد لا تتخذ بالضرورة صورة الأحزاب السياسية أو النقابات أو الجمعيات([17]).
وترجع أهمية الاختلاف بين الاتجاهين السابقين الى النتائج المترتبة على تبنى أى منهما: فالمتبنين لمفهوم مؤسسات الأمة كبديل لمفهوم المجتمع المدنى يرون أن الرؤية الإسلامية تمتلك نظرة متميزة للتكوينات المؤسسية السابقة عليها أو ما يسمى بالمؤسسات التقليدية؛ حيث لم تسع الى تكسير هذه المؤسسات، بل سعت إلى إعادة تأسيسها قيمياً، فالانتماءات الأولية فى هذه الرؤية يمكن استثمارها باعتبارها المحاضن الطبيعية للفرد([18]) فالإسلام لايقول بإلغاء رابطة العشيرة أو القرية إنما قرر تنظيمها ووضع حدودها بالنسبة لموقعها فيما يتعلق بالروابط الأدنى والأعلى منها، ضمن التحديد الكلى الذى ترعاه رابطة الاسلام التوحيدية([19]) ولا يتناقض هذا مع فكرة الطوعية: فهذه الانتماءات والروابط وإن كانت لا تقوم على الاختيار فى تأسيسها فإنها تقوم على الطوعية فى ممارستها وأنشطتها ([20]) بينما يرى الاتجاه الآخر أنه لايمكن اعتبار مجتمع القبيلة مجتمع مدنيًا لأن الانتماء اليه وإدارته وحظ الارادة والعقل والاختيار فيه ضئيل، فهو مجتمع أقرب إلى المجتمع شبه الطبيعى كمجتمعات النحل، على حين أن المجتمع المدنى هو المجتمع الذى ينتظم فيه الناس بحرية ويطاوع بعضهم بعضاً على أساس القانون الذى يعبر عن إرادتهم.([21])
3- تمثل الإسلاميين للأسس الفلسفية للمجتمع المدنى:
يرى العديد من الاسلاميين أن نشأة وتطور المجتمع فى القرب أدت إلى استبطانه مجموعة من الأسس الفلسفية التى انعكست على طبيعته، ومن أهم هذه الأسس:
أ- التعاقدية :
يرى بعض الباحثين الإسلاميين أن التعاقدية من الأسس الفكرية التى يقوم عليها مجمل البناء الحضارى الغربى، وأن فكرة التعاقد كما هى فى الغرب تفترض أن الأفراد قادرون تماما على الفهم الكامل لجميع القوانين الآنية التى تتعرض لها فى الحياة، أو فى الوضع الحالى الذى تتعاقد فيه، كما أنها تفترض أنى لو استطعت أن أسخر الآخر أو التهمه فهذا حقى طالما أن العقد يسمح لى بذلك وطالما أملك القدرة عليه([22]).
ويعود مفهوم التعاقد بجذوره الفلسفية الى نظرية العقد الاجتماعى التى دشنها فلاسفة أوروبا فى نهاية القرن السابع عشر وخلال القرن الثامن عشر، وتقوم هذه النظرية على أن الأفراد كانوا يعيشون فى حالة طبيعية متخيلة يتمتعون فيها بحرية غير محدودة، ولكنه لم يكن يستطيع أن يطور ملكاته الفكرية والأدبية منفردًا، لذا تنازل الفرد عن بعض من حرياته من أجل التعايش مع غيره ، والحصول على منافع اجتماعية، وبذلك انتقل الى المدنية، فالمدنية تعنى الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة السياسية، والمجتمع الجديد هو وليد عقد بين أفراده بما يعنى أن كل الأنظمة الاجتماعية وضعية من وضع الانسان، ويقوم التحول إلى الحالة المدنية من خلال أساسين: هما الفردية والليبرالية، فالنظام الاجتماعى يقوم على عقد بين أفراد أحرار متساوين يبحثون عن صالحهم الخاص، ويقوم كل فرد باعتباره ذاتًا مستقلة ويرتبط بالفردية مفهوم الليبرالية، بمعنى وجود حيز من النشاط الخاص للأفراد لايخضع لتدخل الدولة التى أنشاها الأفراد وفق العقد الاجتماعى إعمالا لارادتهم الحرة، فمجال المجتمع المدنى هو كل الأنشطة التى تخرج عن تنظيم الدولة، وهو المجال المتروك المواطنين لكى يتحركوا فيه بحرية ويعبرون عن قدرتهم على الخلق والابتكار.([23])
العلمانية
وتعنى فى هذا السياق تأسيس النظام الاجتماعى الذى يقوم على السلطة المدنية المحدودة زمنيًا فى مقابل السلطة الكنسية التى تتسم بطابعها الثابت، وتستند إلى إرادة الهية، وفى هذا المجتمع يتصرف الأفراد استقلالاً عن أى قوة أخرى باستثناء إرادتهم الحرة .([24])
المدنية:
ويشير لفظ المدنى إلى المجتمع الحديث الذى قامت أسسه إبان عصر النهضة فى أوروبا، والذى قام على عدم الاعتراف بجميع التكوينات الارثيةالاجتماعية التقليدية والموروثة عن النظام القديم، لذا عادةً ما تستبعد التكوينات الإرثية من وصف المدنى (الأسرة والقبيلة..) ، ويقتصر على التنظيمات الطوعية الحرة التى ينضم اليها الفرد بملء إرادته.
ويرى المفكرون الاسلاميون أن هذه الأسس التى تأسس عليها المجتمع المدنى فى الغرب كانت لها تداعياتاها السلبية على قيامه بأهدافه؛ فالعلمانية - على سبيل المثال-إن كانت قد حررت الفرد من سلطة الكنيسة، فإنها فى عمقها فكرة مناهضة للمجتمع المدنى.([25])
فالحس المدنى عندما يتعمق يكون هو أساس القانون الذى يحترم كما يقول "كانت" انطلاقا من احترام الخير لذاته؛ إذ ينبغى أن يعامل المرء الناس وكأن كل واحد منهم يحمل مثلًا للإنسانية فى ذاته، إلا إن العلمانية لاتدعم هذه الفكرة، فالعلمانية تجعل الدنيا هى البداية والنهاية (إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا)
وعليه لا يلتزم الأفراد بفعل الواجب والخير إلا عندما يجلب منفعة مادية آنية أو دفعاً لضرر آنى، الأمر الذى يضاد فكرة التطوعية والغيرية المتطلبة لازدهار المجتمع المدنى، وإلا فأى نفع أجنيه عندما أضحى بملذاتى وأتبرع بأموالى للمجتمع؟! بعبارة أخرى فإنه بقدر ماتتسع فرص الحياة ولا تفتصر على هذا الحيز المحدود فى الدنيا، بقدر ما تتاسس فى المجتمع أخلاقيات المدنية، أى تزداد فرص التضحية والتحرر من الأنانية المركوزة فى طبيعة كل إنسان، وعلى قدر هذا التحرر يزدهر العمل الطوعى فى المجتمع هذا العمل الطوعي الذي يمثل أساس ازدهار المجتمع المدنى عدلاً واستغناءً عن السلطة.
والعلمانية بفصلها القيم وكل ماهو مطلق عن العالم هى فى المحصلة النهائية ضد المجتمع المدنى، بل هى موت الإنسان([26]) لانها ضد الغيرية بينما المدنية هى الغيرية ،وهى الإيثار، فهى ثمرة لتصعيد الدوافع والاستعلاء الخلقى والروحى والجمالى. صحيح أن العلمانية حررت العقل الغربى إلى حد كبير من الأساطير والأوهام، ومن تسلط الكنيسة وديكتاتورية الإقطاع، وأعادت للنشاط الدنبوى اعتباره، ونادت بالانسان مركزًا للكون، وبالسيادة الشعبية، وأسست الحداثة، إلا إنها فى الوقت نفسه كان لها آثارها السلبية على المجتمعات الغربية من خلال تهميشها للدين وتفكيكها القديم دون تبصر وإعلائها من شأن القيم المادية، فساهمت إلى حد كبير فى تفجير النزاعات الأنانية والاندفاع المحموم نحو الربح والإشباع الغريزى ونزعات السيطرة الفردية ومركزية الدولة التى لا يمكن إلا أن تنتج الاستبداد، فقد انتهت حركة العلمنة والحداثة فى المحصلة الى التسلط والاستبداد.([27])
4- رؤية الاسلاميين لتاريخية المجتمع المدني:
يميل الإسلاميون الي عدم التعامل مع المجتمع المدني كمفهوم مطلق في الزمان والمكان، بل باعتباره مفهوم متطورا مر برحلة طويلة اكتسب فيها أبعادًا جديدة، وجري فيها تهميش أبعاد معينة فيه لحساب أخرى حسب المرحلة التاريخية والمنظومة الفكرية التي جري تناوله في إطارها([28]) لذا يولي الإسلاميون أهمية بالغة للخبرة التاريخية التي نشأ وتطور فيها المجتمع المدني، حيث لا يمكن بحال عزل مفهوم المجتمع المدني عن السياق التاريخي الذي نشأ فيه، بمعني نشأة المفهوم داخل التشكيل الحضاري الغربي باعتبار أن المفهوم بلفظه والدلالات التي يحملها، والمفهوم الذي يحدده قد نشأ وتطور داخل هذا التشكيل بواقعه وصراعاته الاجتماعية والفكرية، فهذا التاريخ من شأنه أن يدل علي ظروف التاريخية التي أحاطت بتشكيله وتشكله حتي استقر علي ما آل إليه الآن من طرحه كقيمة مرجعية حاكمة أو ينبغي أن تحكم حركة التطورات العالمية في علاقة المجتمع بالدولة، كما أن إدراك هذا التاريخ من شأنه أن يوضح التضمينات الفلسفيه التي تقف وراء المفهوم فتتلبس به ولا تنفك عنه، وهذا الإدراك من شأنه أن يساعد علي تحديد أو بناء موقف أكثر تركيبًاMORE SAPHISTICATED وعمقا في النظر لمفهوم المجتمع المدني.([29])
على أن هذا الاهتمام البالغ بتاريخية المجتمع المدني ليس اهتمامًا نظريًا مجردًا، بل لما لربط تطور المفهوم ببيئته من تداعيات هامة من حيث تبني موقف معين ازائه، خاصة أن المفهوم المدني من المفاهيم التي ترتبط بمجموعة أخري من المفاهيم تشكل معا منظومة واحدة تستدعي بعضها بعضًا مثل المواطنة والشرعية وحقوق الانسان والمشاركة السياسية والتطوعية([30])
كما أنه مفهوم حضاري وفق التصور الذي يجعل منه رافدًا ضمن المشروع الحضاري، الأمر الذي يجب مراعاته عند تعدية المفهوم من النمط الحضاري الذي نشأ فيه أي نمط حضاري مغاير، بل ويذهب البعض إلي أن المفهوم عندما نقل من الخبرة الغربية نقلت عنه صورته في مرحلة تاريخية معينة، فتم نقل صورة المجتمع المدني التي نشأت في حالة نقض للطابع الديني للدولة وللسياسة، وهي صورة لم تعد صالحة لفهم صورة المجتمع المدني المتشكل مع التحولات العالمية التي قام الدين في ظلها بدور أساسي - في دول الاتحاد السوفيتي السابق - في مناهضة المجتمع لسلطات الدولة وأجهزتها البيروقراطية والحزبية، بل يمكن ملاحظة في تحركات البابا ومواقف كنائس أمريكا اللاتينية، وبعض وسائل الاعلام الكاثوليكي كمجلة ETUDES"" الفرنسية ما يشير الي عودة المسيحية كعامل محرك للمجتمع باتجاه الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان والتصدي للقهر الاجتماعي والطبقي.
فالعودة إلي التجربة التاريخية الغربية يجب أن تقترن بوعي تاريخي لمسار التجربة حتي اللحظة الراهنة، أما الاكتفاء برصد مفهوم المجتمع المدني في نصوص "جرامشي" فيعني استعارة مفاهيم وتجميدها في زمن غير زمنها ([31]) مع ما يترتب علي ذالك من التباسات تتصل بدعوة قطاعات من النخبة العربية الي القطيعة مع الدين بحجة العمل علي قيام مجتمع مدني في البلاد العربية، في حين أنها تستعدي بذلك مجتمعاتها وتعمق الشرخ بينها وبين شعبها[32]
إن الوعي بتاريخية المجتمع المدني يزيل أي حساسية ازاء المفهوم، ويفتح الباب لقبوله بعد تجريده من ملابساته التاريخية العارضة علي مضمونه الجوهري، وبذلك يمكن تجاوز موقفي التلقي والقبول الساذج للمفهوم وموقف الرفض الحاد له إلي موقف يتأسس علي حقائق التعامل المنهجي القاصد إلي الوضوح والضبط والتنظيم.
وهذا الموقف البديل ليس منهجًا تلفيقيًا، بل جمعًا متفاعلاً تتسق فيه العناصر، وتتحد فيه العلاقة بين الثوابت والمتغيرات في منظومة تأبي علي التناقض، ولا تتصف بالغموض، ولا تؤول إلي الفوضي في الاستخدام، ويعتمد هذا الموقف علي تحويل المفهوم إلي مجموعة من الظواهر والشروط الجوهرية في المفهوم ([33]) مع ملاحظة الاختلاف بين هذه الفكرة وفكرة المؤشرات.
ويمكن إجمال هذه الظواهر والعناصر والشروط في:
* الطوعية باعتبارها إحدي الأفكار التي تشير إلي مجموعة من الظواهر المهمة في تكوين التشكيلات الاجتماعية.
* المؤسسية وفكرة المؤسسات الوسطية التي تشير الي ضرورة توظيفها في سياق العلاقة السياسية والعلاقة الاجتماعية.
* أما العنصر الثالث فيتعلق بالغاية والدور، فهذه التكوينات المؤسسية يجب أن تتسم وفق شروط مفهوم المجتمع المدني بالاستقلال عن السلطه السياسية([34])
وهذه العناصر الثلاثة لدي محاولة تقصيها في الخبرة الاسلامية يمكن أن تؤدي إلي تلمس العديد من مؤسسات الأمة كمؤسسة العلماء ومؤسسة الفتوي، وتجاوز موقف الحكم ببادي الرأي بغياب تكوينات المجتمع المدني في الخبرة الإسلامية، بالرغم من أن أغلب الحضارات لابد وأن تجد تعبيرها المؤسسي المعبر عن الفاعلية المجتمعية إزاء قصور الدولة عن تلبية كل حاجات الاجتماع الانساني.
ويفصل مفكر إسلامي آخر([35]) العناصر والشروط السابقة، فيري التكوين المؤسسي يمثل هيكلاً تنظيمياً لجماعة بشرية يربطها نوع تقارب مشترك، وتوجد ذات جماعية بجوار الذات الفردية لكل من مكوناتها، وتقوم علي أساس تكوين فكري متجانس قادر علي تحقيق هذه الذات الجماعية وعلي قيامها في نفوس الأفراد بجوار الذات الفردية لكل منهم، وهي تتوخى تحقيق أهداف مشتركة، سواء لهذا التكوين المؤسسي أو لجماعة كبري تنظمه.
وأهم ما تتسم به هذه الأبنية التنظيمية أن الأفراد والجماعات يقيمونها بإرادتهم، وقد يجدون أنفسهم منتمين لها بالاندراج فيها تأسيساً على ما هو قائم أو منحدر من الماضي من تقاليد المجتمع وأعرافه([36]) لكن المهم أن الجانب الطوعي هو أساس البقاء والاستمرار. وهذه التنظيمات تنشأ لهدف يراد تحقيقه، كما هو حالة جمعيات البر والجمعيات الثقافية، وقد تتشكل للتعبير عن وجود جماعي قائم، فتتأسس لتنظيم هذا الوجود الجماعي وتنسق نشاطه وتزيده وعيًا بتكوينه الجماعي فتعبر عن احتياج لديه لاعتراف الجماعة الأكبر(الأمة – الدولة) بوجوده وحقوقه بما يتناسب مع حجمه وحاجته مثل الجماعات المذهبية أو اللغوية، وقد تنشأ هذه التنظيمات والهيئات عبر مسار تاريخي ممتد، وبالتراكم طويل المدى لقواعد أساليب ادارتها ونظم عملها، وعليه أصبحت شرعية وجودها نتاج صناعة شعبية أهلية بقواعد استقرت في الضمير الجمعي وانتقلت من ناس الي ناس بالتقبل الشعبي العام.
ويرصد المفكر الاسلامي أهم سمات تنظيمات المجتمع الأهلي في الخبرة الإسلامية في ([37])
* أنها قامت للتعبير عن مصالح وغايات مشتركة، وهذه الأهداف يصعب ان يحوطها الحصر فهي متنوعة ومتغيرة بحسب الأوضاع الاجتماعية و السياسية التي تنشأ فيها هذه المؤسسات التي يقوم بعضها بتحقيق هدف حفظ الوجود المعنوي لانتماء معين أو فكر معين.
*أنها متعددة متنوعة دون تشتت او تناثر، لأنها تقوم وفق تصنيفات شتي، فينتج تعدد معايير التصنيف وتنوعها (ثقافيًا وإقليميًا ولغويًا واقتصاديًا) تداخلاً بين دوائر الانتماء المتولدة عن هذه التصنيفات بما يوثق قوي التماسك في المجتمع ويدعم الشعور بالمساواة .
*أنها تنطلق من المرجعية العامة للمجتمع ولا تخرج عليها، فهي تصدر في مراحل تكوينها تهيؤا بالتقبل العام، وباستنادها لأسس الشرعية ومعايير الأحكام في الجماعة.
*تتمتع باستقلال دون تصادم مع المؤسسات السياسية، فوحدة الأطر المرجعية والتكوين الثقافي الواحد بين هذه الجماعات الفرعية ومؤسساتها هي التي تخطط التناسق والتجانس بينهما، وتبقي خاصية التلاؤم بينهما وبين الجامعة السياسية الأعم دون فرض هيمنة تنظيمية من خارجها.
* أنها تمثل حلقة الوصل بين النسق العقيدي والقيم السائدة .
* أما وظائف وأدوار مؤسسات المجتمع الأهلي في الخبرة الاسلامية فتتمثل في وظيفتين أساسيتين هما: بلورة اتجاهات الرأي العام وتقوية أواصر الترابط بين جماعاته، والتخفيف من أعباء الإدارة المركزية والحد من سلطاتها.
- المجتمع المدني ودولة الحداثة الزائفة
يميز أحد المفكرين المسلمين ([38]) بين ثلاث مراحل مر بها تاريخ الاسلام في علاقة السياسة -الدين والأمة، والدولة-الحكام/العلماء:
* مرحلة الاندماج بين الديني والسياسي فكان الدين سيدًا والسياسة في خدمته، ولم تتمايز الدولة عن الأمة ، ولم يكن الحاكم إلا فرداً فكانت هذه المرحلة العصر الذعبي الذي تحققت فيه المثالية الإسلامية في ظل الخلافة الراشدة.
* مرحلة انقلاب الملك علي الخلافة، وبداية الصراع بين الدين والسياسة الذي جرت تسويته علي أساس معادلة تعايش بينهما جوهرها اعتراف العلماء بشرعية الملك كأمر واقع مقابل اعترافه بسيادة الشرعية وبدور العلماء في تأويل نصوصها وإشاعة تعاليم الدين بين الناس والقضاء وفق أحكامه، وركز العلماء جهودهم في تأسيس سلطة الإجماع وجعلها في يد الأمة، بما حرم السلطة من إمكانية مصادرتها للدين واحتكارها المقدس وسلطة التشريع كمقدمة لتأسيس الدولة الثيوقراطية.
وقد ركز العلماء علي تقوية جانب المجتمع بما حد من سلطة الدولة المقيدة أصلا بالشريعة، وبما يسر للناس الاستغناء عن الدولة، فشهدت هذه المرحلة ولادة المجتمع المدني تلافيًا للخلل الحاصل علي مستوي السلطة، وحدًا لتغولها وتعويضًا لنواقصها وسدًا لثغراتها .
وهكذا أمكن لحضارة الإسلام أن ترسي دعلئم متينة لمجتمع مدني قوي جدًا لم يحد فقط من سلطان الدولة، و بل ضيق من مجال نفوذه إلي أبعد الحدود، تاركًا أوسع الفرص للمبادرات الفردية والجماعية أمام قوي المجتمع في شتي مجالات النشاط الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، فكان المجتمع الاسلامي في مرحلة ما قبل الاستعمار علي قدر من الحيوية والبحث عن التجدد، وكان له قدر من الانتظام الاجتماعي كما كان له استكفاؤه الذاتي من خلال نشاطه الاقتصادي والثقافي والاجتماعي حتي في اسوأ صور انحطاطه من خلال مؤسساته المتنوعة وعلمائه ([39]) غير أن الاحتلال الغربي جاء ليجهض تجربة تحديث المجتمع في إطار قيمه الذاتية فخاض المجتمع الاسلامي المرحلة الثالثة التي تميزت بغلبة السياسة علي الدين ،والحكام على العلماء.
إن الإجابة علي السؤال لماذا تدهورت أوضاع مؤسسات الأمة بعد ازدهار تتلخص في الحداثة الزائفة التي اقتلعت من جذورها، وشوهت مضامينها، وحرفت مقاصدها لتتقلص لمجرد شعار يزين استبداد الطغمة المتسلطة فتحوات الدولة إلى كنيسة حقيقية بالمعنى الذي ثار عليه الغرب، ولا أبلغ في الدلالة على هذا مما أورده المدعي العام التونسي في نص الحكم على الشيخ الرحموني عام 1962 من أن " المتهم سمح لنفسه أن يفهم القرآن خلاف ما فهمه فخامة الرئيس.([40])
وبالمثل تحولت العلمانية إلى مناهضة الدين، وهيمنة دولة الحداثة المغشوشة على ما أبقاه الإستعمار من مؤسسات المجتمع المدني، كما استولت على النقابات والأحزاب والجمعيات الخيرية والصحافة، وقرر بورقيبة بوضوح " إن عهد استقلال المنظمات القومية قد انتهى ولم يبقى هنا مجال لأن يبقى الحزب وحده، والاتحاد العام التونسي للشغل وحده والاتحاد القومي للفلاحين وحده." "إن التونسيين سواء وكانوا في الاتحاد العام للشغل أو في الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، أو في الاتحاد العام لطلبة تونس هم قبل كل شئ قوميون دستوريون."
لقد كان من بين نتائج هذه الفترة من التحديث الزائف إفراغ الإسلام من محتواه الفلسفي والتشريعي والسيطرة على مؤسساته واحتكار الحديث باسمه.
وجرى رفض الاعتراف بأي حزب أو هيئة يمكن أن تنافس الدولة في تمثيل الإسلام، أو تهدد بإيجاد توازن معها يفرض على الدولة التفاوض والمداولة والمساومة والبحث عن وفاق وتحقيق التداول والمساءلة، فكل ذلك من المحرمات في دولة التحديث الزائف – السيطرة على مؤسسات المجتمع المدني كالنقابات والجمعيات والأحزاب.
ومن ناحية أخرى فإنه في سياق قيام الدولة المركزية الحديثة كمشروع نهضوي تم تدمير العديد من المؤسسات الحديثة بحركة "إصلاح" فكري ضربت الدولة به في مؤسسات المجتمع المدنى القديمة معاول الهدم؛ لانها نظرت إليها من منظور التقليد للغرب، فلم ترى فى هذه المؤسسات إلا عقبات فى وجه الإحلال والتجديد تستحق الإزاحة والاقتلاع .
5- إعادة تأسيس المجتمع المدنى على أرضية اسلامية :
أ- بواعث إعادة التأسيس هذه:
على الرغم من حداثة تداول مفهوم المجتمع المدنى فى كتابات الإسلاميين، فإن ثمة رؤية سابقة مهدت لطرحه تدور حول تضخم المكون السياسى فى المشروع الاسلامى([41]) وهو ماتعتبره هذه الرؤية انحرافًا عن أصول هذا المشروع الذى قام كمشروع مجتمعى بالأساس يستهدف جعل الشريعة حقيقة معاشة فى الزمان والمكان ضمن عملية حضارية وتربوية ممتدة.
ومن ثم تسعى هذه الرؤية لاستعادة الثقل فى المشروع الإسلامى من الدولة إلى الأمة، ومن السلطة إلى المجتمع ومن الثورة إلى التربية المجتمعية، وتعتبر هذه الرؤية أن الوجود الاسلامى فى مؤسسات المجتمع المدنى قديم جدًا حتى قبل بروز الحركة الاسلامية على المستويات السياسية المعاصرة[42]، وعلى جانب آخر، يرى بعض المفكرين الإسلاميين أن المشكل الرئيس الذى يعانى منه العرب شعوبًا وأقطارًا في هذا الزمان هو مشكل تنظيمى، لا بمعنى الجوانب الإدارية أو تنظيم المؤسسات العامة على النحو الذى يناقشه الفكر الدستورى، بل بمعنى إدارة المجتمع وطبيعة التشكيل الذى يربط مؤسسات المجتمع كلها، ويجانس بينها، ويواجه أزماتها، وهو مشكل مرتبط بشكل حيوى بإشكالية المجتمع المدنى فى عالمنا العربى المعاصر.[43]
الاجتهاد فى صياغة رؤية الأمة للمجتمع المدنى وتضمن اجتهاد المفكرين الاسلاميين فى هذا المجال الساعى لتاسيس العقدى للمجتمع المدنى الاسلامى بشكل يتسق مع الرؤية الاسلامية للعالم ويتجاوز الرؤية الغربية التى تحكمت فى نشاة المفهوم وتطوره ، إضافة لبيان المبادىء النظرية التى تصوغ وتدفع قيام المجتمع المدنى الإسلامى وفق عناصر رؤية دوره ووظبفته من منظور اسلامى.
ب-التأسيس العقدى للمجتمع المدنى الاسلامى
* التوحيد
فالعقيدة الاسلامية تقوم على مبدأ الإله الواحد المفارق لكل مخلوقاته برغم شدة قربه منهم (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) فهذه العقيدة تمنع أى اعتقاد حلولى يسمح لأى دولة أو كنيسة أو حاكم أو شيخ أن يدعى تمثيله لسلطة الإله المطلقة،وتماهيه معها بما يبرر استبداده وتسلطه.
والاجتماع الاسلامى بقيامه على رابطة العقيدة مجتمع مؤسس على الاختيار الصرف فى ظل كفالة حرية العقيدة، وهى بذلك ألصق بمعنى التمدن والمجتمع المدنى، لأن الانتماء فى هذا المجتمع لا يتأسس على أى معنى من معانى الغريزة و الخوف بل على الاختيار الطوعى لجماعة العقيدة ([44]) والعلاقة بين المجتمع والدولة وفق هذا التصور تقوم على البيعة أى على عقد حر يستمد من الحاكم سلطته وهى سلطة تبقى محكومة بالشريعة المستمدة من نصوص الدين،وهى بدورها قابلة لتأويلات متعددة يقدمها العلماء الذين لاينتظمون فى مؤسسة تحتكر فهم الدين وتجعل منهم سلطة طبيعية لاحيلة للناس فيها صحيح أن العلماء يفسرون الدين ولكنهم يقومون بذلك باعتبارهم مجتهدين لا ناطقين باسم السماء وتبقى اجتهاداتهم مجرد فهم معين واجتهاد غير ملزم وأحد المشاريع المطروحة على المجتمع الإسلامى ليبتقبلها أو يرفضها
وهنا يلتقى الاسلام والديمقراطية باعتبار أنهما يؤكدان على اختيار المجتمع لقانونه وحكمه فالمجتمع الاسلامى مجتمع تعددى لا يصادر الدين فيه حرية الفرد والاختيار لأن الدين لم تحتكره مؤسسة معينة عامة أو خاصة وإنما استمر مصدر إلهام والتوجيه متاحا لكل فرد فى المجتمع ولا يملك العالم المجتهد إلا أن يقدم فكرته ويطرحها على الناس تاركا لهم حرية الاختيار([45]) وهذه التعددية الفكرية التى تأسست على الاختيار الحر هى التى انبسقت عنها وتأسست عليها التعددية التنظيمية ([46]) فأنشأ المجتمع الاسلامى العديد من المؤسسات الفكرية والتربوية والخدمية التى عبرت عن مجتمع مدنى مفعم بالحياة.
الإيمان باليوم الآخر، إذا كانت العلمانية ترى أن العالم المعاش وحده هو الحيوان فإن القرآن الكريم يقرر فى وضوح (إن الدار الآخرة لهى الحيوان ): الحياة الحقيقية وبهذا تأخذ الحياة بعدا لانهائى فتزدادا فرص التخلص من النزعة الأنانية طلبا للصواب الذى لايقتصر على الدنيا فقط. ومن ثم يرقى الحس المدنى عند الأفراد باعتباره يقوم على الغيرة والتضحية. ([47])
عقيدة الاستخلاف: التى تقدم قاعدة متينة للمساواة بين الناس باعتبارهم جميعا مخلوقات الله (الخلق عيال الله ) وبذلك ينهار كل أساس للتفاضل بين الناس غير أعمالهم كما أن رؤية الانسان كخليفة لله تعالى فى الأرض يعيد الاعتبار للنشاط الدنيوى على أساس أنه مزرعة للآخرة ومجال تجلى قدرات الانسان الموهوبة له من الله تعالى وتصريفها وفق ما أراد الله.
ووفق مفهوم الاستخلاف تظل الجماعة هى التى تتحمل مسؤوليتها، فالمجتمع مسئول عن كافة قضاياه وشئونه، ولا يجوز بحال أن تقوم الدولة أو غيرها بدور البديل أو النائب عنه، فما الدولة إلا مجرد أداة من أدوات الجماعة لأداء وظيفة الاستخلاف أى عمارة الارض وبسط قيم الحق والعدل والخير.([48])
جـ - قيم المجتمع المدنى الإسلامى
المسؤولية الجماعية للأمة([49])
فالخطاب القرانى يتوجه بتكاليف الله تعالى للأمة سواء كانت تكاليف فردية أو جماعية فالإسلام لا يخاطب الفرد فحسب وإنما يخاطب الجماعة فى عمومها أيضا فثمة فروض أوجبها الإسلام على الجماعة بجمعها وبوصفها كلاً متميزاً عن ذات الأفراد المندرجين فيها وهى مايطلق عليها فروض الكفاية والتى تشير إلى قواعد التزام الجماعة بإقامة مؤسسات تسد حاجة الأمة بكل تكويناتها فاذ لم يتحقق الاكتفاء الذاتى للأمة على مختلف الأصعدة تحولت فروض الكفاية إلى فروض عين على من توفرت فيه أهلية القيام بها حتى يؤديها على الوجه الأكمل
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
وهذا المبدأ تعبير عن أقصى حالات الإيجابية الاجتماعية كما أن تشريعات الإسلام فى مجال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تعكس المسئولية الاجتماعية فى أحسن صورها فهي تقدم نموذجا للواجبات الكفائية التى تعنى أن المجتمع مسئول عن الشئون والقضايا المختلفة ولا تسقط هذه المسؤلية إلا من خلال الامتثال بعض أفراده بما يحقق كفاية امتثال الواجب. ([50] )
*التعددية
.تعني التعددية في جوهرها القبول بالاختلاف والتسليم به حقًا للمختلفين([51]) والتعددية بمعني الاختلاف من حقائق الإبداع الرباني في الخلق وقد لفت البيان الإلهي الأنظار إليها لتنبيه العقول إلى الإقرار بحق الاختلاف فالإسلام بإقراره حرية العقيدة وتنوع الاجتهادات الفكرية أسس لقبول الاختلاف الفكري الذي يؤسس بدوره للتعددية المؤسسية ولحكمة بالغة تبني القران الكريم مدخل التأليف لا التوحيد (فألف بين قلوبكم) فالتأليف من شأنه أن يبقي علي ذاتية العناصر التي تم التأليف بينها لتتفاعل معا دون نفي لأي منها، أما التوحيد فينفي الجزئية ويحقق الاندماج التام في الكل([52]) وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن موقف الإسلام من الأحزاب فأجاب بأن الأحزاب التي أهلها مجمعون علي ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان منهم مؤمنون، وان كانو ذادوا علي ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان علي حق أم الباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله ورسوله. ([53])
*الشوري
الشورى مبدأ إنساني وأخلاقى معناه حق الجماعة في الاختيار وتحمل مسؤولية قرارتها في شؤنها العامة، والشورى التزام شرعى يدخل في باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولا يحق للأمة التنازل عن أدائها([54]) ومبدأ الشورى يقصد به إيجاد التكامل بين الفرد والجماعات المكونة للأمة ومجموع الأمة، فالحرية ليست مقصورة علي حرية الأفراد، بل تمتد الي المجموعات المكونة للأمة سواء كانت هيئات أو منظمات مهنية ونقابية أو جماعات وأحزاب، والمهم في حق الشورى ألا يحرم الأفراد من حق تكوين الهيئات والنقابات والمنظمات من أي نوع، و تفيد هذه المنظمات لدى قيامها هي أيضا علي الشوري في حفظ التوازن المشار اليه بين حرية الفرد والجماعة([55])
د - في إشكالية العلاقة مع الدولة:
تكاد تجمع أدبيات الاسلاميين في قضية العلاقة بين المجتمع والدولة علي الطابع التكافلي والتكاملي لهذه العلاقة علي خلاف السمة الصراعية التي اتسمت بها نشأة المجتمع المدني في الغرب وان استطاع تجاوزها فيما بعد([56]) وتبني هذه الأدبيات علي انحياز كامل للمجتمع بأعتباره الاصل وان الدولة او السلطة هي الفرع الذي لا يمكن أن يجب الأصل ولا أن يستعاض به في أداء مهامه فالأولوية لتعظيم دور الأمة والمجتمع، ومنع تغول الدولة وتحولها إلي كيان شمولي، والعمل علي تحريك كل فئات المجتمع وشرائحه في عملية البناء والنهضة دون أن يعني ذلك أن المجتمع المدني بديل عن الدوله العادلة ([57]) بل إن المجتمع المدني بمؤسساته التي تتمتع بألاستقلال المالي والإداري وبما يقدمه من خدمات في مجالات الحياة المختلفة أحد مصادر قوة الدولة، وفي الوقت نفسه فإن وجود دولة قوية أنسب لنشأة مجتمع مدني قوي، فالمجتمع المدني يمكن أن يخفف عن الدولة أعباء القيام بتلك الخدمات والرؤيا الاسلامية في هذا الشأن أنه لا يجب ان تمتد يد الدولة علي عمل يمكن أن يقوم به المسلمون أفراداً وجماعات. بهذا المعني يمكن أن يكون العمل الأهلي أحد أهم آليات ضبط العلاقة بين المجتمع والدولة في إطار تعاوني لا يسمح فيه للدولة بالتضخم علي حساب المجتمع بحجة توفير الخدمات العامة بينما هي تحتكر المبادرات الاجتماعية وتصادر الجهود التطوعية، في حين يستمر دور الدولة القوية في حدود وظائفها الأساسية والتي لا تتخطاها بالتدخل في الشؤن الأهلية([58] )
بعبارة أخري فإن المجتمع بحاجة إلى أن يتشبت بمسؤلياته المجتمعية من خلال مؤسساته المدنية ولكنه تشبت لا يلغي دور الدولة وضرورتها، فثمة حاجة إلي موازنة دقيقة وواعية تأخد بعين الاعتبار ضرورات الدولة كمؤسسة جامعة ، وفي الوقت ذاته الانتفاع بإبداعات المجتمع وأنشطته الأهلية المتعددة. ([59])
[1] هشام جعفر . العمل الأهلي: رؤية إسلامية
[2] سيف الدين عبد الفتاح :المجتمع المدني والدولة في الفكر والممارسة الاسلامية المعاصرة في كتاب ندوة المجتمع المدني في ودوره في تحقيق الديمقراطية(بيروت..مركز درسات الوحدة العربيه 1988)

[3] المرجع السابق
[4] برهان غليون .بناء المجتمع المدني العربي
[5] راشد الغنوشي . الحركة الاسلامية والمجتمع المدني محاضرة القيت في جامعة برتوريا اغسطس 1994
[6] هشام جعفر، العمل الأهلي: رؤية إسلامية، مرجع سابق
[7] راشد الغنوشي . الحركة الاسلامية مرجع سابق
[8] المرجع السابق
[9] وجيه كوثراني، المجتمع المدني في الخبرة الاسلامية في كتاب:
ندوة المجتمع المدني في ودوره في تحقيق الديمقراطية (بيروت: مركز درسات الوحدة العربية، 1988).
[10] سيف الدين عبد الفتاح : المجتمع المدني والدولة، مرجع سابق.
[11] وجيه كوثواني، قياسا بتاريخنا مجتمع مدني أم مجتمع أهلي ؟ الحياة،4/21/5991.
[12] سيف الدين عبد الفتاح: المجتمع المدني والدولة، مرجع سابق.
[13] تقديم زكي البلاد لكتاب :
مجموعة باحثين، إنماء المجتمع الأهلى ، ( بيروت : دار الصفوة، 1996) ص6.
[14] هانى حفص، رأى فى أولويات المشروع الاسلامي الشيعي المعاصر، مجلة الكلمة، العدد12 صيف 1996، وأيضا محمد حسن الأمين، التبليغ والسلطة، مجلة الكلمة، العدد 1 سنة 3 10 شتاء 96 19.
[15] راشد الغنوشي، الحركة الاسلامية والمجتمع المدني، مرجع سابق.
[16] المرجع السابق
[17] سيف الدين عبد الفتاح: المجتمع المدني والدولة ، مرجع سابق.
[18] هشام جعفر . العمل الأهلي: رؤية إسلامية ، مرجع سابق.
[19] طارق البشري، منهج النظر في أسس البناء الديمقراطي والتعددية ومؤسسات المجتمع المدني
[20] منير شفيق، الاسلام في معركة الحضارة، ( الكويت: دار القلم،989 1) ص 104- 107.
[21] طارق البشري، مرجع سابق
[22] راشد الغنوشي، فكرة المجتمع المدني بين الغرب والاسلام.
[23] هشام جعفر، العمل الأهلي: رؤية إسلامية ، مرجع سابق.
[24] صلاح الدين الجورشي، دور الثقافة في إنماء المجتمع الأهلي، في:
مجموعة باحثين، مرجع سابق، ص 35

[25] راشد الغنوشي، فكرة المجتمع المدني بين الغرب والاسلام، مرجع سابق.
[26] عبد الوهاب المسيري،
[27] راشد الغنوشي، الحركة الاسلامية والمجتمع المدني، مرجع سابق.
[28] المرجع السابق
[29] وجيه كوثراني، المجتمع المدني في الخبرة الاسلامية، مرجع سابق
[30] هشام جعفر، العمل الأهلي: رؤية إسلامية ، مرجع سابق
[31] المرجع السابق.
[32] طلال عتريس، مؤسسات المجتمع المدنى أو الأهلى: التباسات المفهوم والدور والغاية مجلة المنطلق العدد 118، ربيع،1997 ، ص 67-69.
[33] سيف الدين عبد الفتاح، المجتمع المدني والدولة، مرجع سابق.

[34] وجيه كوثراني، المجتمع المدني في الخبرة الاسلامية، مرجع سابق.
[35] المرجع السابق.
[36] فؤاد ابراهيم، تسوية القطيعة بين النخبة والمجتمع الأهلى فى: إنماء المجتمع الأهلى، مرجع سابق.
[37] راشد الغنوشى، فكرة المجتمع المدنى، مرجع سابق.
[38] سيف الدين عبد الفتاح، المجتمع المدني والدولة، مرجع سابق.
[39] محمد صادق الحسينى، التوازن بين الفرد والجماعة فى إنماء المجتمع الأهلى فى كتاب:
إنماء المجتمع الأهلى، مرجع سابق.
[40] طارق البشرى منهج النظر فى النطم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الاسلامى (مالطا مركز دراسات العالم الاسلامى 1991)
[41] طارق البشرى منهج النظر فى اسس البناء الديمقراطى مرجع سابق

[42] المرجع السابق
[43] راشد الغنوشى اسس المجتمع الاهلى فى الاسلام
[44] راشد الغنوشى، الحركة الاسلامية والمجتمع المدنى، مرجع سابق.
[45] راشد الغنوشى، أية حداثة؟ ليس مشاكلنا مع الحداثة؛ قراءات سياسة ، السنة2 ، العدد الرابع خريف1992
[46] راشد الغنوشى الحركة الاسلامية، مرجع سابق.
[47] طارق البشرى، الحوار الاسلامى العلمانى ، مجلة الانسان ، العدد السادس ، السنة الأولى، نوفمبر 1991
[48] هشام جعفر،الحركة الإسلامية وما بعد السياسة.
[49] سيف الدين عبدالفتاح، مرجع سابق.
[50] طارق البشرى، منهج النظر فى أسس البناء الديمقراطى
[51] محمد العليوات ، ملامح عامة للمجتمع الأهلى فى التطور الإسلامى، فى كتاب: إنماء المجتمع االأهلى
[52] محمد سليم العوا، التعددية السياسية من منظور إسلامى، مجلة الإنسان، العدد الثاتى، السنة الأولى أغسطس 1990
[53] طه جابر العلوانى ؛ التعددية: أصول ومراجعات، ( القاهرة: المعهد العالمى للفكر الاسلامى، 1996.
[54] محمد سليم العوا ؛ المرجع السابق
[55] هبة رؤوف عزت ؛ حول منهج النظر فى التعدد والشورى ؛ ندوة التعددية الغربية والطائفية والعرقية فى العالم العربى، ( واشنطون: المعهد العالمى للفكر الاسلامى، 1993
[56] توفيق الشاوى، فقه الشورى والاستشارة، ( المنصورة : دار الوفاء، 1992).
[57] محمد محفوظ، نحو مجتمع أهلى عربى إسلامى ، مجاة الكلمة، شتاء 1999
[58] هشام جعفر، مرجع سابق.
[59] محمد محفوظ ، مرجع سابق.

0 Comments:

Post a Comment

Subscribe to Post Comments [Atom]

<< Home