منهجية التغيير في الفكر العربي من وعى الهوية إلى تجديد الذات
إنما غيرت الأمة!
بهذه العبارة وصف رجاء جاروديه تحوله من المادية إلى الاشتراكية الممتزجة بعناصر دينية إلى حنيفية الاسلام لكن العديد من المفكرين العرب لم يكن بحاجة إلى إطلاق هذه المقولة برغم أنهم تغيرت مواقعهم خلال مسيرتهم الفكرية تغيراً قد يبدو للبعض أنه تحول كامل عن النهج الذى ارتضوه فى الفكر والحركة وهؤلاء المفكرون والمثقفون – بهذا الوصف – ليسوا بطبيعة الحال من الهوامل ولا النوابت أعداء المدينة الفاضلة الذين يعيشون لأنفسهم دون التفات لأى مشاعر إنسانية كريمة كما لم تنقصهم الشجاعة ليخفوا اقتناعهم الفكرى مدارة للحال الحاضرة Status Q أو خوفاً من سطوة العامة أو بطش متسلط باغ وإنما عايشت وتوارثت هذه الأجيال المعاصرة من المفكرين وعياً عميقاً بالمأزق الذى تعانيه مجتمعاتها سواء قياساً إلى أنموذج التنظيم الاقتصادى الاجتماعى الذى وصلت فى ظله هذه المجتمعات أوج إيناعها وازدهارها أو مقارنة بالمجتمعات الأخرى الموسومة بالمتقدمة.
فمفكر مثل "برهان غليون" - كأحد الذين يرفعون لواء الدفاع عن العناصر الأصلية فى الحضارة العربية إزاء هجمة البغى القادم من " الشمال " متشحاً برداء العولمة - نجده فى الستينات من القرن المنصرم يتوجس من حديث الهوية أنه قد يكون تبريراً فجاً للاستبداد حيث تصبح طغمة قليلة من السراة المتنفذين هى المحددة لمن " نحن " فى مواجهة " الآخر " العدو بل وتتعدى هذا لتعطى لنفسها حق تحديد القيم " الأصيلة " التى تعطى لهذه " النحن " كينونتها.
وهذا التوجس مشروع تماما؛ً فالعديد من المفكرين الأحرار إما مغيب فى سجون دول الطوائف العربية أو مطارد فى المنافى، وفى الأغلب تسقط عنهم جنسية بلادهم، وهى التعبير القانونى عن الانتماء لهذه البلاد التى طالما عملوا وجهدوا لرفعتها وارتقائها .
ولم يحل هذا الواقع المؤلم بين هؤلاء العلماء وسعيهم للخروج بأمتهم من هذه الوهدة بل كان محفزاً لهم، خاصة وأنهم قد تكونت عندهم ملكة النظر القويم بالاعتبار بسنن الله تعالى فى الأمم الماضية، ومقارنة حال مجتمعاتهم بها وبغيرها من الأمم الحاضرة، وجمعوا إلى ذلك الهمة العالية التى تأبى عليهم أن يقعدوا عن الحركة لإيقاظ إخوانهم من السبات الذى استولى عليهم، ورفع حالة " الجمود على الموجود" من الأفكار والسلوكيات، ودفعهم إلى معترك الجهاد الذى ما تركه قوم إلا ذلوا بين نظرائهم .
فامتدت نظراتهم إلى خبرات الحضارات الأخرى وما يجرى عرضه من مناهج للخروج من الحالة الموسومة " بالتخلف " عن ركب المجتمعات المتقدمة، وأكثرها بضاعة مزجاة يختلط فيها سوء المقصد بصحة وصف الواقع المتردى، وأقلها يلتبس فيه نبل الغاية بسذاجة التصور. .
وكان الوعى بالآخر حاداً، فكأنه أصبح معياراً أخر إلى جانب المعيار الذاتى، وزاد من خطورة هذا الوضع سوء فهم الآثار المروية بأن توكيد الذات لا يكون إلا بمخالفة الآخر. صحيح أن التميز والبعد عن الإمعية أصل مستقر فى الحضارة الاسلامية، وأن الإسلام حرص على بناء الشخصية الممتازة عما عداها إلا ان هذا الامتياز لا يتأتى بمجرد المخالفة وإنما بارتباط هذه الشخصية بالقيم " السماوية "، وهى بهذا الوصف قيم إنسانية لأن الاسلام – العنصر المكون لهذه الحضارة – هو بطبيعته عالمى شامل لكل الإنسانية، وهو شريعة تستهدف سعادة الانسان فى الدارين دار الابتلاء أو الحياة الدنيا وفى دار البقاء والتكريم الآخرة والتي هى حيوان الإنسان، فكانت المحاولات التالية أكثر تركيباً لا تقصر بحثها فى التساؤل لماذا تأخرنا عنهم بل تبحث عن مقومات النهوض الحضارى بالانسانية جمعاء، وترى هذا المأزق الحضارى متعدد الأسباب بقدر ما هو متنوع الأعراض، وترى أنها ليست أزمة مقصورة على جماعة إنسانية بعينها صهرتها الخبرة التاريخية فى العيش المشترك متفاهمة بلغة واحدة، بل أزمة الانسان، وأن تحرير الإنسان بهذا الوصف وحده كفيل بالارتقاء بالنوع الإنسانى كله، وأنه على المدى البعيد سيؤدى هذا التحول إلى تبنى قيم الحضارة الإسلامية باعتبارها الحضارة الأكثر تسامحاً واحتراماً للذات الإنسانية، مع الوعى بأن هذا التحول ليس قسراً ولا حتمية كونية " ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم " .
ومن هذه المحاولات محاولات كفرت بالشقشقات والشنشنة التى عرفتها من الحكومات الاستبدادية من أنها هى التى تحفظ وجود الجماعة التى لولا وجودها فى سدة الحكم لا نفرط عقد هذه الجماعة وأصبحت هباء منثوراً فى أحسن الأحوال، أو حتى اختفت مادياً من سجل الحياة البشرية وبادت شأن عاد وثمود !
فأكدت هذه المحاولات على ضرورة تحقيق أسباب العيش المادية من الموجودات فيما أشير عليه باستراتيجية تلبية الحاجات الأساسية فأصبحت هناك رؤية ضمنية فى خطاب هذه المحاولات بأن هذا هو السبيل الوحيد الذي يكفل على المدى البعيد تحقيق طراز الحياة الكريمة للمجتمع العربى، خاصة وان هذه المحاولات رأت أنه يمكن استثمار التناقض بين المعسكرين الاشتراكي والليبرالي أو الاستظهار بواحد منها دون أن تعي أن أياً من هذين المعسكرين لن يسمحا لأى قوة صغرى بأن تتجاوز ما يقدرانه لها، وأن مثل هذا الاستظهار لا يمكن تحمل نفقته لأنه فى النهاية سيؤدى إلى فقدان مقومات هذا " المجتمع العربى " فيصبح مسخاً تابعاً .
فكانت المحاولات التالية أكثر وعياً بأن الإنسان هو محور أية حضارة فهو الذى يشيد معمارها وتنهار عندما يفتقد مبرراً لوجوده فتنتابه حالات من الاغتراب بما يعنيه الاغتراب من إحساس بالوهن والأنوية ويدلنا التاريخ على أن حضارة كحضارة اليونان زوت عندما كفت عن التساؤل والبحث فى كل القضايا دقها وجلها فحرصت هذه المحاولات على استجلاء كل العوامل المعوقة لتفجير طاقات الإنسان وتحرير قدراته الكامنة لتتحول إلى قوة راشدة .
فبدأت بنقض الأساطير الشائعة حول أزمة الأمة العربية الإسلامية سواء أكانت هذه الأساطير أساطير متوارثة كأسطورة المستبد العادل – وإن كان البعض يرى تسللت مع غيرها من الفكار الغربية كالقومية في أوائل عصر النهضة – أو أسطورة التخلف التقني وعدم القدرة على استيعاب مستحدثات العلوم وتحويلها إلى منتجات وآلات أو أسطورة أن العديد من الجماعات في هذه البلاد مجبولة على الكسل و الاستسلام لأول سائق يضع النير في أعناقها ولو كان يقودها إلى هلاكها أو كانت أساطير مستحدثة كالقول بأن هذه الجماعات تفتقد وجود فئة المنظمين الذين يخاطرون بأموالهم و لا يستسلمون للكسب المضمون ويحسنون تقدير الموقف فيعرفون متى يقدمونوكتى يحجمون وأخطر هذه الأساطير المستوردة هذه الأسطورة التي تلصق هذا الوضع المتردي بالأديان التي تدين بها شعوب هذه المنطقة والدين الإسلامي تحديداً
وتجعل خروج هذه المنطقة من من حالتها هذه مشروط بأن تقلص مساحة الدين في حياتها حتى ليبدو مظهراً احتفالياً من بقايا التراث أو فلكلوراً تقوم على رسومه طائفة تتعيش على أدائها وطورة هذه الأسطورة أنها تصطنع لها سنداً يبدو قوياً من تاريخ هذه المنطقة حيث كان يجري استغلال طبيعة الإسلام ك"دين" بالمعنى الكامل الشمولي لهذه الكلمة أي كنظام يهيمن على كافة مناشط الحياة والادعاء بأن هذه الهيمنة لا تتحقق إلا بتسلط قاهر يلزم الناس بأحكام الدين ومن هنا تبدو مقولة " الدين أس ( لقيام الجماعة المسلمة ) والسلطان حارس (لهذا الأس)" مقولة حمالة أوجه فالدين باعتباره الأساس الذي تقوم عليه الجماعة لا يتم تفعيله في حياتها إلا بالالتزام الفردي والجماعي بالقيم والممارسات التي يوجبها فولاية " السلطان" هي ولاية وظيفية وتكتسب حقيتها بقدر ما تقوم به من وظائفها بل إن كلمة السلطان في دلالاتها اللغوية الأصلية تعني الحجة وهي كذلك أيضاً في اللغة الإنجليزية أما ما حدث طوال فترات مديدة من تاريخ أقوام هذه المنطقة فهو محاولات لطمس حقيقة الدين وإحلال صورة مغشوشة محله.
ولعل أكثر من رصد هذه المحاولات بدقة ورصد آثار هذا التدين المغشوش وعلاقاته في المجتمع كان المفكر العربي المسلم عبدالرحمن الكواكبي حيث أسهب في وصف العلاقات المتداخلة بين الاستبداد وهذا الضرب من التدين المغشوش بحيث يمكن كل منهما للآخر فوصف الكواكبي هذه العلاقة بشكل لا نظير له في درته " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" الذي دفع حياته ثمناً له على ما ترجحه بعض الروايات.
وأهم ما يسم محاولات هؤلاء المفكرين أنها كانت بعيدة عن التفسير الأحادي أو مجرد إلقاء التبعة على هذه الفئة أو تلك الجماعة الحاكمة بعينهاوأنها استفادت من العديد من الدراسات التي وإن اتسمت بطابعهخا الجزئي ومحدودية نطاقها فإنها تجلي بوضوح أنماط الشخصية التي يمكن أن تفرزها التنشئة الفاسدة في أزمنة الاستبداد ولعل أذيعها دراسات علي الوردي عن أنماط الشخصية العراقية وما وصف بنمط الشخصية الفهلوية في مصر أو هذا الإنسان الأقرب إلى ما عرف في التراث العربي باسم " المكدي" وهو إنسان يتعجل رزقه بأباب شتى : قليل من العلم وكثير من الدعاوى والادعاءات الباطلة مع ذرابة لسان ومكر قد يؤدي به في النهاية إلى الحرمان مما نصب طويلاً للتوصل إليه.
وهذا النمط من الشخصية يشيع في أيام الاستبداد حيث المر كله موكول إلى الأهواء المتقلبة والتي ينشأ عنها حالة من الخمود والإحساس بالتشيؤ والاغتراب فيرى الإنسان نفسه فاقداً لكل إمكانات العمل عاطلاً عن أي قدرة فهو مجرد عود وسط بيداء تعصف بها الريح عليه ليبقى أن سيكن في جوار أقرب صخرة أو جلمود.
ولو اقتصرت هذه الحال على جيل واحد أدرك حقيقة وضعه لهان الخطب وبقى أمل في الأفق باندثار عادات هذا الجيل لكن الحاصل أن هذه العادات تتحول إلى أسلوب حياة أو ثقافة يطلق البعض عليها ثقافة القهر التي تتسم بشيوع العنف في معاملات وسلوكيات حامليها هذا العنف الذي يتوجه أحياناً إلى الذات فيدمرها قبل أن يحطم الآخرين سواء كان هذا العنف عنفاً مادياُ يدمر الأحياء والموجودات أو عنفاً كامناً في بنية العلاقات الاجتماعية حذر منه الدين فقال عليه الصلاة والسلام "المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه ولا يخذله، بحسب إمرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم أو كما قال وورد أيضاً اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة والظلم هنا كما بينت الأحاديث النبوية الشريفة هو كل تعد على الحريات الإنسانية ليس بتقييدها وحسب بل بأي محاولة لإيجاد بيئة أو ظروف تمنع ممارستها بشكل إيجابي تحت أي دعوى أو بأي إدعاءات ففي أحيان عدة كان يتم إشعاعة جو من الإرهاب لتوجيه سلوكيات الناس في وجهة محددة بزعم أنهم سلبيون لا يدركون مصالحهم ولابد من حفزهم على المشاركة في تحقيق الأهداف التي وضعها سلفاً هؤلاء المستبدون باسم الجماعة وكانت وسائل هذا الإرهاب كما هو الغالب السيف تشهيراً وعنفاً يصل إلى حد التصفية الجسدية أو الذهب أمولاً ومغانم (مناصب وأضواء..) وفي أحيان أخرى كانت تتم مصادرة القدرة على التفكير ذاتها وهي الأخطر وذلك بطوفان من اللغو غير المجدي الذي يشل ملكة التفكير القويم أو بشغل الناس بالعمل غير المجدي مقابل أدنى حد من ضروريات الحياة الذي يقيم أودهم وفي هذه الظروف القاسية تنتشر كل الأمراض الاجتماعية حتى لتصبح أساس العلاقات الاجتماعية الأمر الذي ارتاع له مفكرون ومصلحون من الشرق والغرب فوصف المقريزي والبغدادي الانحطاط الذي وصل إليه مجتمع المماليك حتى أصبح الناس يأكلون بعضهم بعضاً حقيقة لا على سبيل المجاز فعندما تستعر لفحات الاستبداد يكتوي الناس بها في دينهم وأعراضهم واموالهم لأنها تقتل الملكة التي التي يمتاز بها الإنسان عن سائر المخلوقات أعني العقل الذي يتمكن به الإنسان من الاختيار وهو لا يختار إلا الأقرب إلى الفطرة التي فطره الله عليها من التعاون والإيثار وعمارة الأرض التي يعيش فيها.
صفوة القول إن الفساد غالباً ما بيدا من الراس من الطغمة الباغية المتشحة بزي العسكر والمتحالفة غالباً مع القلة المترفة المستأثرة بكد المعدومين والتابعة لقوى البغي العالمي فتستدمج أسوأ أفكاره وما نبذه منذ زمن بعيد من عوائده وتخضع لشروطه واوامره.
فسعت جهود التغيير لنقض هذا التحالف وتقويض أسسه بما يقتضيه هذا من مخالفته في الدوافع والأفكار والسلوك العملي إلا إن هذا التفكير المقتصر على المخالفة لم يكفل التزام جادة الطريق وهو وإن ساعد في الهدم فإنه لا يضمن سلامة البناء فكان لابد من العودة للأصول الأولى أو الجذور التي حفظت تجدد شجرة الحضارة العربية الإسلامية وهنا تكون العودة بالمعنى الذي قصده الأستاذ امين الخولي عندما أوضح أن العودة للأصول ليست عودة لمسقط النهر بمعنى الحياة في الصورة نفسها التي عاشها الرعيل الأول من الصحابة والسلف فهذا محال عقلاً وشرعاً وإنما هي كما وصف "محمد إقبال" وعلي شرعيتي عودة إلى الذات تخليصاً لها من الغبش والدرن الذي أصابها بتطاول أمد الاستبداد وتطرق الوهن إليها.
ومن أهم هذه الأصول أن يكون أساس استحقاق الحكم هو خدمة المجموع لا التمكن من آلات القمعوالقتل والقدرة على اصطناع الأنصار وكفالة الوسائل والآلت الاجتماعية التي تجعل هذا الأصل واقعاً ملموساً فالله تعالى غني عن العالمين وعندما أنزل الدين انزله لسعادة الإنسان في الدارين وتعبد الناس بما يجعلهم في صلاح ويكفل لهم القدرة على الإصلاح لهذا قيل في تعريف السياسة الشرعية إنها " ما كان الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد" وإذا كان الحكم كما يقولون مفسدة لمن يتولاه والحكم المطلق مفسدة مطلقة فقد كفلت الأصول الإسلامية وسائل تضمن التزام الحاكم بمقصود الشارع على النحو الذي يظهر من اجتهاد الجماعة المسلمة ومن أهم هذخه الوسائل نزع أي شرعية عن أي حاكم لا يلتزم بالشورى وعدم تركيز الثروة في يد فئة محدودة في المجتمع "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم " وضمان عدم احتكار جماعة ما للعرفة واستئثارها بالمنافع التي تتيحها وفي إطار هذه الصول وإعمالاً لها تكونت مؤسسات مثل الأوقاف والجامعات الإسلامية والهم أن هذه الأصول غرست في الشخصية المسلمة نوازع الحرية وقررت الحكام التي تدعن إنماء هذه الحرية فالإنسان كما تقرر هذه الصول ليس هملاً بل هو أثر للنفخة الإلهية وهو من أسجد الله تعالى له الملائكة وسخر له الكون وهو ليس هباء او مجرد آلة حية يمكن التضحية بها لتحقيق هدف كائناً ما كان هذا الهدف أو بأي دعوى بل المساس بحياته مساس بالنوع الإنساني كله " فكانما قتل الناس جميعاً" وأي إهدار لكرامة الإنسان غير مقبول تحت أي ظرف وأي مسمى وهذا الإنسان فرض الله تعالى عليه إعمار الكون وهو قادر على تغيير عالمه.
وفي الوقت نفسه ضمنت هذه الأصول الإسلامية حرية العمل اجتماعي الذي يستهدف تزكية النفس والمجتمع فلا مكان في المجتمع الإسلامي للإجراءات التي تستهدف بث روح الشك بين الناس وتقييد حركتهم ومراقبتهم في سكناتهم وحركاتهم وحسابهم عليها إذا بدا أنها تخالف بوجه من الوجوه ما يفرضه الحاكم لمصلحته فهذا الجو الإرهابي مناقض لما عرفه مجتمع المدينة النبوية من إطلاق الحريات لكل السكان للعمل الجماعي والعيش الكريم.
وعليه كان الوعي بخطورة الحكم العسكري وتحويل وظيفة الدفاع عن الأمة إى شان تختص به فئة معينة تصطنعها الجماعة الحاكمة تقوم في الحقيقة بقهر ابناء الأمة إذ تتحكم في - إن لم تكن تستأثر - المراكز القيادية في الجيش وتسعى لأن يكون موالياً لها بشكل مطلق على خلال ما تمليه تقاليد الحضارة الإسلامية التي ترى الجهاد مفهوماً شاملاً يعني استفراغ الجهد وبذل الوسع في سبيل تحقيق نمط الحياة الإسلامي وإزاحة القيود التي تعترض الدعوة إليه بمختلف الوسائل بما فيها شن الحرب على قوى الاستبداد الدخلي والخارجي
ويضمن نمط الحياة هذا لا تحرير الإنسان من قيود الاحتياج المادي والخواء الفكري وحسب بل تمكينه من تطوير حياته على النحو الذي يرتئيه ملائماً وقد يرى البعض هذه الكلمات نوعاً من الأفكار الخيالية وما هذا إلا أثر لتنشئة الاستبداد والتغيير رهن بالبدء يتغيير النفس ودعوة الغير والحفاظ على الوعي بهذه الغاية وتطوير الوسائل وطرق الفعل والحركة المؤدية إليها.
إنما غيرت الأمة!
بهذه العبارة وصف رجاء جاروديه تحوله من المادية إلى الاشتراكية الممتزجة بعناصر دينية إلى حنيفية الاسلام لكن العديد من المفكرين العرب لم يكن بحاجة إلى إطلاق هذه المقولة برغم أنهم تغيرت مواقعهم خلال مسيرتهم الفكرية تغيراً قد يبدو للبعض أنه تحول كامل عن النهج الذى ارتضوه فى الفكر والحركة وهؤلاء المفكرون والمثقفون – بهذا الوصف – ليسوا بطبيعة الحال من الهوامل ولا النوابت أعداء المدينة الفاضلة الذين يعيشون لأنفسهم دون التفات لأى مشاعر إنسانية كريمة كما لم تنقصهم الشجاعة ليخفوا اقتناعهم الفكرى مدارة للحال الحاضرة Status Q أو خوفاً من سطوة العامة أو بطش متسلط باغ وإنما عايشت وتوارثت هذه الأجيال المعاصرة من المفكرين وعياً عميقاً بالمأزق الذى تعانيه مجتمعاتها سواء قياساً إلى أنموذج التنظيم الاقتصادى الاجتماعى الذى وصلت فى ظله هذه المجتمعات أوج إيناعها وازدهارها أو مقارنة بالمجتمعات الأخرى الموسومة بالمتقدمة.
فمفكر مثل "برهان غليون" - كأحد الذين يرفعون لواء الدفاع عن العناصر الأصلية فى الحضارة العربية إزاء هجمة البغى القادم من " الشمال " متشحاً برداء العولمة - نجده فى الستينات من القرن المنصرم يتوجس من حديث الهوية أنه قد يكون تبريراً فجاً للاستبداد حيث تصبح طغمة قليلة من السراة المتنفذين هى المحددة لمن " نحن " فى مواجهة " الآخر " العدو بل وتتعدى هذا لتعطى لنفسها حق تحديد القيم " الأصيلة " التى تعطى لهذه " النحن " كينونتها.
وهذا التوجس مشروع تماما؛ً فالعديد من المفكرين الأحرار إما مغيب فى سجون دول الطوائف العربية أو مطارد فى المنافى، وفى الأغلب تسقط عنهم جنسية بلادهم، وهى التعبير القانونى عن الانتماء لهذه البلاد التى طالما عملوا وجهدوا لرفعتها وارتقائها .
ولم يحل هذا الواقع المؤلم بين هؤلاء العلماء وسعيهم للخروج بأمتهم من هذه الوهدة بل كان محفزاً لهم، خاصة وأنهم قد تكونت عندهم ملكة النظر القويم بالاعتبار بسنن الله تعالى فى الأمم الماضية، ومقارنة حال مجتمعاتهم بها وبغيرها من الأمم الحاضرة، وجمعوا إلى ذلك الهمة العالية التى تأبى عليهم أن يقعدوا عن الحركة لإيقاظ إخوانهم من السبات الذى استولى عليهم، ورفع حالة " الجمود على الموجود" من الأفكار والسلوكيات، ودفعهم إلى معترك الجهاد الذى ما تركه قوم إلا ذلوا بين نظرائهم .
فامتدت نظراتهم إلى خبرات الحضارات الأخرى وما يجرى عرضه من مناهج للخروج من الحالة الموسومة " بالتخلف " عن ركب المجتمعات المتقدمة، وأكثرها بضاعة مزجاة يختلط فيها سوء المقصد بصحة وصف الواقع المتردى، وأقلها يلتبس فيه نبل الغاية بسذاجة التصور. .
وكان الوعى بالآخر حاداً، فكأنه أصبح معياراً أخر إلى جانب المعيار الذاتى، وزاد من خطورة هذا الوضع سوء فهم الآثار المروية بأن توكيد الذات لا يكون إلا بمخالفة الآخر. صحيح أن التميز والبعد عن الإمعية أصل مستقر فى الحضارة الاسلامية، وأن الإسلام حرص على بناء الشخصية الممتازة عما عداها إلا ان هذا الامتياز لا يتأتى بمجرد المخالفة وإنما بارتباط هذه الشخصية بالقيم " السماوية "، وهى بهذا الوصف قيم إنسانية لأن الاسلام – العنصر المكون لهذه الحضارة – هو بطبيعته عالمى شامل لكل الإنسانية، وهو شريعة تستهدف سعادة الانسان فى الدارين دار الابتلاء أو الحياة الدنيا وفى دار البقاء والتكريم الآخرة والتي هى حيوان الإنسان، فكانت المحاولات التالية أكثر تركيباً لا تقصر بحثها فى التساؤل لماذا تأخرنا عنهم بل تبحث عن مقومات النهوض الحضارى بالانسانية جمعاء، وترى هذا المأزق الحضارى متعدد الأسباب بقدر ما هو متنوع الأعراض، وترى أنها ليست أزمة مقصورة على جماعة إنسانية بعينها صهرتها الخبرة التاريخية فى العيش المشترك متفاهمة بلغة واحدة، بل أزمة الانسان، وأن تحرير الإنسان بهذا الوصف وحده كفيل بالارتقاء بالنوع الإنسانى كله، وأنه على المدى البعيد سيؤدى هذا التحول إلى تبنى قيم الحضارة الإسلامية باعتبارها الحضارة الأكثر تسامحاً واحتراماً للذات الإنسانية، مع الوعى بأن هذا التحول ليس قسراً ولا حتمية كونية " ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم " .
ومن هذه المحاولات محاولات كفرت بالشقشقات والشنشنة التى عرفتها من الحكومات الاستبدادية من أنها هى التى تحفظ وجود الجماعة التى لولا وجودها فى سدة الحكم لا نفرط عقد هذه الجماعة وأصبحت هباء منثوراً فى أحسن الأحوال، أو حتى اختفت مادياً من سجل الحياة البشرية وبادت شأن عاد وثمود !
فأكدت هذه المحاولات على ضرورة تحقيق أسباب العيش المادية من الموجودات فيما أشير عليه باستراتيجية تلبية الحاجات الأساسية فأصبحت هناك رؤية ضمنية فى خطاب هذه المحاولات بأن هذا هو السبيل الوحيد الذي يكفل على المدى البعيد تحقيق طراز الحياة الكريمة للمجتمع العربى، خاصة وان هذه المحاولات رأت أنه يمكن استثمار التناقض بين المعسكرين الاشتراكي والليبرالي أو الاستظهار بواحد منها دون أن تعي أن أياً من هذين المعسكرين لن يسمحا لأى قوة صغرى بأن تتجاوز ما يقدرانه لها، وأن مثل هذا الاستظهار لا يمكن تحمل نفقته لأنه فى النهاية سيؤدى إلى فقدان مقومات هذا " المجتمع العربى " فيصبح مسخاً تابعاً .
فكانت المحاولات التالية أكثر وعياً بأن الإنسان هو محور أية حضارة فهو الذى يشيد معمارها وتنهار عندما يفتقد مبرراً لوجوده فتنتابه حالات من الاغتراب بما يعنيه الاغتراب من إحساس بالوهن والأنوية ويدلنا التاريخ على أن حضارة كحضارة اليونان زوت عندما كفت عن التساؤل والبحث فى كل القضايا دقها وجلها فحرصت هذه المحاولات على استجلاء كل العوامل المعوقة لتفجير طاقات الإنسان وتحرير قدراته الكامنة لتتحول إلى قوة راشدة .
فبدأت بنقض الأساطير الشائعة حول أزمة الأمة العربية الإسلامية سواء أكانت هذه الأساطير أساطير متوارثة كأسطورة المستبد العادل – وإن كان البعض يرى تسللت مع غيرها من الفكار الغربية كالقومية في أوائل عصر النهضة – أو أسطورة التخلف التقني وعدم القدرة على استيعاب مستحدثات العلوم وتحويلها إلى منتجات وآلات أو أسطورة أن العديد من الجماعات في هذه البلاد مجبولة على الكسل و الاستسلام لأول سائق يضع النير في أعناقها ولو كان يقودها إلى هلاكها أو كانت أساطير مستحدثة كالقول بأن هذه الجماعات تفتقد وجود فئة المنظمين الذين يخاطرون بأموالهم و لا يستسلمون للكسب المضمون ويحسنون تقدير الموقف فيعرفون متى يقدمونوكتى يحجمون وأخطر هذه الأساطير المستوردة هذه الأسطورة التي تلصق هذا الوضع المتردي بالأديان التي تدين بها شعوب هذه المنطقة والدين الإسلامي تحديداً
وتجعل خروج هذه المنطقة من من حالتها هذه مشروط بأن تقلص مساحة الدين في حياتها حتى ليبدو مظهراً احتفالياً من بقايا التراث أو فلكلوراً تقوم على رسومه طائفة تتعيش على أدائها وطورة هذه الأسطورة أنها تصطنع لها سنداً يبدو قوياً من تاريخ هذه المنطقة حيث كان يجري استغلال طبيعة الإسلام ك"دين" بالمعنى الكامل الشمولي لهذه الكلمة أي كنظام يهيمن على كافة مناشط الحياة والادعاء بأن هذه الهيمنة لا تتحقق إلا بتسلط قاهر يلزم الناس بأحكام الدين ومن هنا تبدو مقولة " الدين أس ( لقيام الجماعة المسلمة ) والسلطان حارس (لهذا الأس)" مقولة حمالة أوجه فالدين باعتباره الأساس الذي تقوم عليه الجماعة لا يتم تفعيله في حياتها إلا بالالتزام الفردي والجماعي بالقيم والممارسات التي يوجبها فولاية " السلطان" هي ولاية وظيفية وتكتسب حقيتها بقدر ما تقوم به من وظائفها بل إن كلمة السلطان في دلالاتها اللغوية الأصلية تعني الحجة وهي كذلك أيضاً في اللغة الإنجليزية أما ما حدث طوال فترات مديدة من تاريخ أقوام هذه المنطقة فهو محاولات لطمس حقيقة الدين وإحلال صورة مغشوشة محله.
ولعل أكثر من رصد هذه المحاولات بدقة ورصد آثار هذا التدين المغشوش وعلاقاته في المجتمع كان المفكر العربي المسلم عبدالرحمن الكواكبي حيث أسهب في وصف العلاقات المتداخلة بين الاستبداد وهذا الضرب من التدين المغشوش بحيث يمكن كل منهما للآخر فوصف الكواكبي هذه العلاقة بشكل لا نظير له في درته " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" الذي دفع حياته ثمناً له على ما ترجحه بعض الروايات.
وأهم ما يسم محاولات هؤلاء المفكرين أنها كانت بعيدة عن التفسير الأحادي أو مجرد إلقاء التبعة على هذه الفئة أو تلك الجماعة الحاكمة بعينهاوأنها استفادت من العديد من الدراسات التي وإن اتسمت بطابعهخا الجزئي ومحدودية نطاقها فإنها تجلي بوضوح أنماط الشخصية التي يمكن أن تفرزها التنشئة الفاسدة في أزمنة الاستبداد ولعل أذيعها دراسات علي الوردي عن أنماط الشخصية العراقية وما وصف بنمط الشخصية الفهلوية في مصر أو هذا الإنسان الأقرب إلى ما عرف في التراث العربي باسم " المكدي" وهو إنسان يتعجل رزقه بأباب شتى : قليل من العلم وكثير من الدعاوى والادعاءات الباطلة مع ذرابة لسان ومكر قد يؤدي به في النهاية إلى الحرمان مما نصب طويلاً للتوصل إليه.
وهذا النمط من الشخصية يشيع في أيام الاستبداد حيث المر كله موكول إلى الأهواء المتقلبة والتي ينشأ عنها حالة من الخمود والإحساس بالتشيؤ والاغتراب فيرى الإنسان نفسه فاقداً لكل إمكانات العمل عاطلاً عن أي قدرة فهو مجرد عود وسط بيداء تعصف بها الريح عليه ليبقى أن سيكن في جوار أقرب صخرة أو جلمود.
ولو اقتصرت هذه الحال على جيل واحد أدرك حقيقة وضعه لهان الخطب وبقى أمل في الأفق باندثار عادات هذا الجيل لكن الحاصل أن هذه العادات تتحول إلى أسلوب حياة أو ثقافة يطلق البعض عليها ثقافة القهر التي تتسم بشيوع العنف في معاملات وسلوكيات حامليها هذا العنف الذي يتوجه أحياناً إلى الذات فيدمرها قبل أن يحطم الآخرين سواء كان هذا العنف عنفاً مادياُ يدمر الأحياء والموجودات أو عنفاً كامناً في بنية العلاقات الاجتماعية حذر منه الدين فقال عليه الصلاة والسلام "المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه ولا يخذله، بحسب إمرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم أو كما قال وورد أيضاً اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة والظلم هنا كما بينت الأحاديث النبوية الشريفة هو كل تعد على الحريات الإنسانية ليس بتقييدها وحسب بل بأي محاولة لإيجاد بيئة أو ظروف تمنع ممارستها بشكل إيجابي تحت أي دعوى أو بأي إدعاءات ففي أحيان عدة كان يتم إشعاعة جو من الإرهاب لتوجيه سلوكيات الناس في وجهة محددة بزعم أنهم سلبيون لا يدركون مصالحهم ولابد من حفزهم على المشاركة في تحقيق الأهداف التي وضعها سلفاً هؤلاء المستبدون باسم الجماعة وكانت وسائل هذا الإرهاب كما هو الغالب السيف تشهيراً وعنفاً يصل إلى حد التصفية الجسدية أو الذهب أمولاً ومغانم (مناصب وأضواء..) وفي أحيان أخرى كانت تتم مصادرة القدرة على التفكير ذاتها وهي الأخطر وذلك بطوفان من اللغو غير المجدي الذي يشل ملكة التفكير القويم أو بشغل الناس بالعمل غير المجدي مقابل أدنى حد من ضروريات الحياة الذي يقيم أودهم وفي هذه الظروف القاسية تنتشر كل الأمراض الاجتماعية حتى لتصبح أساس العلاقات الاجتماعية الأمر الذي ارتاع له مفكرون ومصلحون من الشرق والغرب فوصف المقريزي والبغدادي الانحطاط الذي وصل إليه مجتمع المماليك حتى أصبح الناس يأكلون بعضهم بعضاً حقيقة لا على سبيل المجاز فعندما تستعر لفحات الاستبداد يكتوي الناس بها في دينهم وأعراضهم واموالهم لأنها تقتل الملكة التي التي يمتاز بها الإنسان عن سائر المخلوقات أعني العقل الذي يتمكن به الإنسان من الاختيار وهو لا يختار إلا الأقرب إلى الفطرة التي فطره الله عليها من التعاون والإيثار وعمارة الأرض التي يعيش فيها.
صفوة القول إن الفساد غالباً ما بيدا من الراس من الطغمة الباغية المتشحة بزي العسكر والمتحالفة غالباً مع القلة المترفة المستأثرة بكد المعدومين والتابعة لقوى البغي العالمي فتستدمج أسوأ أفكاره وما نبذه منذ زمن بعيد من عوائده وتخضع لشروطه واوامره.
فسعت جهود التغيير لنقض هذا التحالف وتقويض أسسه بما يقتضيه هذا من مخالفته في الدوافع والأفكار والسلوك العملي إلا إن هذا التفكير المقتصر على المخالفة لم يكفل التزام جادة الطريق وهو وإن ساعد في الهدم فإنه لا يضمن سلامة البناء فكان لابد من العودة للأصول الأولى أو الجذور التي حفظت تجدد شجرة الحضارة العربية الإسلامية وهنا تكون العودة بالمعنى الذي قصده الأستاذ امين الخولي عندما أوضح أن العودة للأصول ليست عودة لمسقط النهر بمعنى الحياة في الصورة نفسها التي عاشها الرعيل الأول من الصحابة والسلف فهذا محال عقلاً وشرعاً وإنما هي كما وصف "محمد إقبال" وعلي شرعيتي عودة إلى الذات تخليصاً لها من الغبش والدرن الذي أصابها بتطاول أمد الاستبداد وتطرق الوهن إليها.
ومن أهم هذه الأصول أن يكون أساس استحقاق الحكم هو خدمة المجموع لا التمكن من آلات القمعوالقتل والقدرة على اصطناع الأنصار وكفالة الوسائل والآلت الاجتماعية التي تجعل هذا الأصل واقعاً ملموساً فالله تعالى غني عن العالمين وعندما أنزل الدين انزله لسعادة الإنسان في الدارين وتعبد الناس بما يجعلهم في صلاح ويكفل لهم القدرة على الإصلاح لهذا قيل في تعريف السياسة الشرعية إنها " ما كان الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد" وإذا كان الحكم كما يقولون مفسدة لمن يتولاه والحكم المطلق مفسدة مطلقة فقد كفلت الأصول الإسلامية وسائل تضمن التزام الحاكم بمقصود الشارع على النحو الذي يظهر من اجتهاد الجماعة المسلمة ومن أهم هذخه الوسائل نزع أي شرعية عن أي حاكم لا يلتزم بالشورى وعدم تركيز الثروة في يد فئة محدودة في المجتمع "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم " وضمان عدم احتكار جماعة ما للعرفة واستئثارها بالمنافع التي تتيحها وفي إطار هذه الصول وإعمالاً لها تكونت مؤسسات مثل الأوقاف والجامعات الإسلامية والهم أن هذه الأصول غرست في الشخصية المسلمة نوازع الحرية وقررت الحكام التي تدعن إنماء هذه الحرية فالإنسان كما تقرر هذه الصول ليس هملاً بل هو أثر للنفخة الإلهية وهو من أسجد الله تعالى له الملائكة وسخر له الكون وهو ليس هباء او مجرد آلة حية يمكن التضحية بها لتحقيق هدف كائناً ما كان هذا الهدف أو بأي دعوى بل المساس بحياته مساس بالنوع الإنساني كله " فكانما قتل الناس جميعاً" وأي إهدار لكرامة الإنسان غير مقبول تحت أي ظرف وأي مسمى وهذا الإنسان فرض الله تعالى عليه إعمار الكون وهو قادر على تغيير عالمه.
وفي الوقت نفسه ضمنت هذه الأصول الإسلامية حرية العمل اجتماعي الذي يستهدف تزكية النفس والمجتمع فلا مكان في المجتمع الإسلامي للإجراءات التي تستهدف بث روح الشك بين الناس وتقييد حركتهم ومراقبتهم في سكناتهم وحركاتهم وحسابهم عليها إذا بدا أنها تخالف بوجه من الوجوه ما يفرضه الحاكم لمصلحته فهذا الجو الإرهابي مناقض لما عرفه مجتمع المدينة النبوية من إطلاق الحريات لكل السكان للعمل الجماعي والعيش الكريم.
وعليه كان الوعي بخطورة الحكم العسكري وتحويل وظيفة الدفاع عن الأمة إى شان تختص به فئة معينة تصطنعها الجماعة الحاكمة تقوم في الحقيقة بقهر ابناء الأمة إذ تتحكم في - إن لم تكن تستأثر - المراكز القيادية في الجيش وتسعى لأن يكون موالياً لها بشكل مطلق على خلال ما تمليه تقاليد الحضارة الإسلامية التي ترى الجهاد مفهوماً شاملاً يعني استفراغ الجهد وبذل الوسع في سبيل تحقيق نمط الحياة الإسلامي وإزاحة القيود التي تعترض الدعوة إليه بمختلف الوسائل بما فيها شن الحرب على قوى الاستبداد الدخلي والخارجي
ويضمن نمط الحياة هذا لا تحرير الإنسان من قيود الاحتياج المادي والخواء الفكري وحسب بل تمكينه من تطوير حياته على النحو الذي يرتئيه ملائماً وقد يرى البعض هذه الكلمات نوعاً من الأفكار الخيالية وما هذا إلا أثر لتنشئة الاستبداد والتغيير رهن بالبدء يتغيير النفس ودعوة الغير والحفاظ على الوعي بهذه الغاية وتطوير الوسائل وطرق الفعل والحركة المؤدية إليها.
0 Comments:
Post a Comment
Subscribe to Post Comments [Atom]
<< Home