Sunday, December 31, 2006

مارتن بوبر و محمد إقبال و نيكوس كازنتزاكس :
الحملة من أجل الروحانية
ياسمين لودي
قسم العلوم السياسية ـ جامعة بردو ـ إنديانا
لقد تمت حكاية تاريخ الحداثة في أشكال مختلفة و متعددة من مناحي التاريخ الإنساني في العلم و التكنولوجيا في الفلسفة و علم النفس إلا أن الجانب السياسي من الحكاية سيطر على الوعي الإنساني إذ كان الجانب الوحيد الذي له تأثيره المباشر و الأدوم على كل من واجها فقد غيرت السمات الأهم للحداثة السياسية ـ النزعة الإنسانية Humanism و القومية و العلمانية ـ غيرت جوهر بنية الحياة الإنسانية فقد استبدلت العلمانية بالروحانية التي كانت تسيطر على الحياة العامة و قصرتها على المجال الخاص و حلت القومية محل الجماعة التي كانت عملاً يربط بين الإنسان و الإنسان و استبدلت السلطة البشرية بالسلطة المقدسة المفترض سموها على ما عداها لقد حررت هذه التغيرات الكاسحة الوعي الإنساني بكل تأكيد و لكنها بلا شك قلبت نسق القيم أيضاً فأعلت النزعة الإقصائية على الوحدة (مارتن بوبر) و الكفاءة على التقويم و الحس الجمالي و الأيديولوجية على الحرية (كازانتزاكس)
لقد قام ماران بوبر و إقبال و كازانتزاكس احتجاجاً على قلب تراتبية(هيراركية) القيم بالنضال لإعادة حيوية الدين و توحيد الإنسانية و إضفاء الطابع الروحي على العالم العلماني و مع ذلك فإن هذه الأهداف لم تجرهم بعيداً عن المعترك السياسي بل بالأحرى أقحمتهم في السياسة و الحركات القومية و المفاوضات الدولية فالموجه الأول لحياة هؤلاء القادة المغيرين له لاه روافد :إنقاذ الإنسان إنقاذ تراثه الديني إنقاذ تقاليده و مألوفاته الاجتماعية و يعبر عن هذا الاتجاه في الحياة مفكر تغييري آخر جوزي أورتيجا فيقول "أنا تعني أنا إضافة للظروف التي إن لم أنقذها فلن أنقذ نفسي " بعبارة أخرى لم كازانتزاكس الوحيد الذي مارس "سياسات الخلاص " فالظاهرة المتفردة للعصر المتحول أن قلة من الأفراد استشرفت المستقبل في جانبيه :المجد القادم و الحرمان الذي لا مفر منه و يحولهم هذا الإدراك إلى حالة كتلك التي للمخَلِّص فمن المتضمنات الخفية في المفهوم أن المخلص ألذي سينقذ القيم القديمة يجد أساسه في إدراك أن المستقبل لا يزال قيد التشكيل و هكذا يبقى الأمل مسيطراً .
نشئ لأمل و الرغبة درباً للاختيار التحولي طلباً لتحويل وتغيير كل الحياة العامة و الخاصة أخذاً في الاعتبار حقيقة أن بوبر و إقبال و كازانتزاكس اختاروا الاقتراب من الحياة ككل متكامل أكثر من كونها أجزاء متفرقة فقد قررت تفسير فلسفتهم السياسية على ضوء ظروف الحياتية التي ربما كنت درباً دائرياً إلا أنني أعتقد أن ذلك سيكون مثمراً و مع ذلك فقد اختصرت النقاش حول أوجه حياتهم التي لم أجدها ذات دلالة فيما يخص نقاشنا إلى حدها الأدنى و لم أحاول في هذه الورقة تفسير و مقارنة أفكار و فلسفة هؤلاء المفكرين الثلاثة فقط و لكن حاولت أيضاًَ إظهار أن أفكارهم كانت جزئياً نتاج مجموعة مشتركة من التأثيرات

تراثهم
لقد اخترت هؤلاء المفكرين الثلاثة لعدة أسباب :فالمفكرين الثلاثة مارتين بوبر و محمد إقبال و كازانتزاكس جميعهم ينتمون تقريباً لنفس الجيل فكتبوا بصورة معمقة و مكثفة و في أشكال فلسفية و جمالية عن الدين و الإنسان و العالم و واجهوا الاتجاهات الدينية الأرثوذكسية و فضلوا التصوف و كانوا مشاركين بصورة كاملة في الحركات الاجتماعية و السياسية في زمنهم و أفضل ما يمكن أن يوصف به جوهر فكرهم انه وجودي و من المهم ملاحظة كل هذه الحقائق السابقة لأنها مؤشرات غير معتادة في هذا الوقت : الإنسان من نمط ثقافي دولي مع شخصية متميزة فهو متفلسف إلا أنه يجد الفلسفة شكلاً غير كاف من أشكال التعبير لوصف الحياة لديه نوع من المزاج الديني لكنه يجد الدين في صورته الأرثوذكسية غير كاف للتعبير عن رغبات الفرد الدينية كما انه تدفعه عوامل اجتماعية إلا أنه يجد الظروف السياسية معادية له تنبع هذه الاتجاهات المشتركة تجاه هذه الأشكال الثلاثة من حقيقة أن مارتين بوبر محمد إقبال و كازانتزاكس خبروا تأثيرات متشابهة مذهب الحياتية Vitalism و التصوف يضاف إلى ذلك أنهم ـ في سنواتهم التكوينينة الأولى ـ اشتركوا مع مجتمعاتهم في الإحساس بالعزلة و الإحباط و قلة الحيلة بوبر في أوربا و إقبال في الهند البريطانية و كازانتزاكس في كريت التركية خبروا بصورة مباشرة التبعية و الخضوع و التفرقة العنصرية لذلك فمن دواعي إكبارهم أنهم سلكوا الطريق الذي شقه مذهب الحياتية الحديث
مذهب الحياتية
كان فريدريك نيتشة و هنري برجسون هما فلاسفة الحياة الذان أثرا على مارتين بوبر و محمد إقبال و كازانتزاكس لقد كانت أفكار الفلاسفة الآخرين مهمة أيضاً لكن لفهم التشابهات في أفكارهم فإنه يكفي دراسة التأثيرات المشتركة فمذهب الحركية عند نتشة و التأكيد على الحياة و الاعتراف بأهمية التوتر الذي تخلقه الرغبات المتصارعة كان له تأثير هائل على المفكرين الثلاثة و يقترح موريس فريدمان أن تأثير نيتشة يفهمنا ـ جزئياً ـ حركية فلسفة بوبر و اهتمامها بالإبداع و العظمة و تأكيدها على الواقعي و العياني كمقابل للمثالي و التجريدى و فهم فكرة فلسفة بوبر عن إثمار الصراع و تأكيدها على قيمة دوافع و بواعث الحياة و كلية الكينونة كمقابل للفكرية المنفصلة
و قد اعترف بوبر نفسه بالتأثير الهائل لأفكار نتشة عليه عندما كان صغيراً جداً فيعترف بوبر الناضج بدينه العميق لنتشة :" سعيه الدءوب لإجابة السؤال الأنثربولوجي ما الإنسان و الذي يقدم للفلسفة الأنثربولوجية دافعاً جديداً " و كان هذا هو السؤال الحق الذي اهتم به في معظم أعماله و مع ذلك فقد قدم بوبر تعليقات نقدية هامة على أفكار نتشة في أعماله الفكرية و كان هذا في ذاته أمراً طريفاً : إذ لما وجد بوبر أنه من الضروري دراسة أفكار نتشة فإن هذا الأخير وضع ـ بشكل ما و بصورة جزئية ـ أجندة بوبر
و إذا كانت درجة تأثير نتشة على بوبر موضع تساؤل فإن تأثير نتشة على إقبال و كازانتزاكس ليس محلاً للنقاش فكلاهما مدين لحد بعيد لنتشة بالعديد من المفاهيم الفلسفية خاصة التأكيد على "الحياة " و قيمهم عن "الفاعلية ولروح و النضال الذي لا يلين للتأسيس لروح الإنسان بصورة عيانية و كان لابد أن يتم التأكيد على الحياة عند بوبر وإقبال في أثناء مواجهة أكثر الحقائق رهبة و رعباً عن الحياة " صمت الكون" المقنط بالنسبة لإقبال و الهاوية الأعمق عند كازنتزاكس التي يشبهها بالسكون الأعظم للكون .
و قد أشار رونالد نكلسون إلى أن إقبال تشرب بخلاصة و روح الأدب الأوربي و تدين فلسفته بالكثير لنتشة و برجسون و تذكرنا قصائده بشللي و بطريقة مماثلة ذكر جيمس لي أنه في بحث كازانتزاكس عن فلسفة تأكيدية تآلفت أن تعاليم نتشة لتعطي فكر كازانتزاكس تألقاً مجازياً و رمزياً لا يمكن إنكاره و تأملات فكرية و ملكة نقدية جعلت من الممكن الانطلاق من إسار الماضي و كملت تعاليم هنري برجسون التي كان لها تأثيراتها الأولية الأعمق هذه النواحي
و لكن كانت الفكرة الأكثر إزعاجاً لبوبر إقبال و كازنتزاكس هي تلك التي قدمها نتشة من أن الإله قد مات و كان رد فعل إقبال و بوبر على هذه الفكرة قوياً فانتقدوا جميعاً نتشة: فقد وجد كازنتزاكس في هذه المقولة دافعاً و حافزاً لإنقاذ الإله لان هذا الإعلان عن موت الإله يعني أن الإله موجود فقط لو رغبه الناس و كرسوا أفكارهم و حياتهم له و بينما نبذ إقبال و كازانتزاكس هذا المفهوم باعتباره سخفاً فإن حملتهم الحقة من أجل الروحانية كانت في الحقيقة نضالاً لإنقاذ الإله و على حين أرعبت مقولة ماركس الشهيرة عن الدين المتدينين المتشددين الأرثوذكس فإن مقولة نتشة نبهت بطريقة صادمة الناس ذوي الميل الصوفي ليهبوا لمساعدة الإله
لقد كان برجسون هو الذي أمد الفلاسفة الثلاثة بمفهوم محدد بدقة للإله علاقته بالإنسان فوفقا لبرجسون فإن أفضل تعريف للإله هو تعريفه كحب و أن لهذا الحب محله : كل الخلق و لما كان يطلب حبنا فإنه في حاجة إلينا كما نحن في حاجة إليه و وصل برجسون من هذا المفهوم للإله إلى خلاصة بأن الإله ليس مطلق العلم و لا مطلق القدرة لأنه يعتمد على إرادة الإنسان أكثر من ذلك فقد أشار برجسون إلى أن الأديان تتلاقى على فكرة أن الإله كائن يمكنه إقامة اتصال بنا و أن حبه و قدرته على إيصال هذا الحب لنا هو ما يجعل الاتحاد بين الإله الإنسان ممكناً و يتفق بوبر مع الأفكار السابقة و وفقاً لذلك أعلن الإنسان كصاحب للرب و أشار إلى أن مفهوم برجسون عن أن مهمة وفقاً لضميره (نداءه الداخلي ) أن يكون مشاركاً للرب في عمله هو بصورة أساسية مفهوم يهودي
و قد تبنى إقبال نفس مفهوم برجسون عن مهمة الإنسان كعامل مشارك فاقترح أن الإنسان المبدع و خالق مشارك مع الرب و أن الكون لا زال في حالة كل كامل و لما كان الإنسان يساعد في خلق النظام من الفوضى فإنه يشارك في الخلق و يحوز الإنسان مثل هذه المشاركة و بأن يصبح متفردا أثر فأكثر أعلى درجات التطور الإنساني : الخلافة الإلهية و يصل الإنسان لهذه الذروة العالية من مهمته الروحية بالخضوع للقانون الإلهي و حب الآخرين و يستخدم إقبال الحب في أوسع معانيه “ الرغبة في الاستيعاب و التشرب الكامل “ و في أعلى صورها خلق القيم و المثل السعي لتحقيقها “ إن مثل الإنسان هو الإله :الفرد الأكثر تفرداً أما بالنسبة لكازنتزاكس فإن الإله له جوهر مختلف بصورة كلية و يشير كيمون فريد أن الإله عند كازنتزاكس يتطابق مع القوة الحيوية القوة المندفعة عبر كل المخلوقات التي تناضل من اجل حرية أكثر خلوصاً و صفاءً فيدرك الإله على أنه كائن مشابه إلا أنه لا يتصوره متعيناً كشخص أو شئ أو هدف يتبعه الإنسان كما في أكثر اللاهوت المسيحي بل كحلول و تطابق مع الإنسان (كما في حالة العشاء الرباني ) كجزء من الروح المناضل في ظل الطبيعة التي وجدت العمل المشارك الخالص في الإنسان إن تأثير برجسون لا يمكن أن نخطأه هنا : فمفهوم القوة الحيوية Elan Vital إسهام متفرد لفلسفته و فكرة العامل المشارك لها جذور في فكره أيضاً و قد وجد كازنتزاكس أن الإله عرضة للخطر في كل مكان و انه يمكن إنقاذه إذا ناضلت كل روح لإنقاذه لأن بخلاصه نحوز الخلاص يكمن الإسهام الأساسي لمذهب الحيوية في فكر بوبر و إقبال كازنتزاكس في سمت الحركية الظاهرة في فلسفتهم و تأكيد الحياة الذي يحضون عليه و نضالهم لإنقاذ الإله و تتردد هذه الأفكار في فهمهم و اعتناقهم للتصوف كتعبير عن الرغبة في الوحدة و تحويل العالم
التصوف
التصوف شكل من أشكال التعبير تمتد جذوره في الرغبة الدينية العميقة التي تحتج على التقاليد المقيدة في الدين في شكله الأرثوذكسي و من ملامح المشتركة للتصوف تكريس الوجدان للإله و طلب التوحد المطلق معه و الاعتقاد في أولوية الحدس على العقل في كشف الحقائق المطلقة فالنشوة الالهية التي يطلبها المتصوفة غالباً ما تقودهم إلى (الأخروية ) أن يصبحوا من آهل الآخرة و نفي هذا العالم أما التصوف الذي أثر على إقبال و بوبر فكان من نوع آخر : فكان كلاهما من متصوفة هذا العالم أما كازنتزاكيس فقد تأثر بكل من تصوف السعي في الدنيا و الإقبال على الآخرة لم يتأثر بوبر فقط بالهسيدية بل كان مسئولاً أيضاً عن نشر التعاليم الهاسيدية على المستوى الشعبي و جعلها جزءً من الفكر الغربي فقضى خمسة أعوام في عزلة تامة كرسها لدراسة الهاسيدية و كانت أحد أعماله الأولى مجموعة من نوادر التعبيرات الصوفية من أجزاء مختلفة من العالم أعطاها عنوان “ اعترافات الوجد “إلا أنه تأثر بصورة أولية بالهاسيدية فقد ذكر أن مهمة الإنسان كل إنسان وفقاً لتعاليم الهاسيدية توكيد العالم و توكيد نفسه لتحويل كليه بذلك من اجل مرضاة الإله فأحد الأهداف الهامة للهسيدية تحويل العالم على سبيل المثال إضفاء الطابع الروحي على العالم بكامله و ربما كان هذا سبب اضطهاد الهاسيد على أيدى التقليديين فيبدأ الطريق الهاسيدي ببحث الروح و الخطوة التالية عثور المرء على طريقه المتفرد للقاء الرب ثم يصبح مصمماً على طلب وحدة جسده بروحه و ختاماً الوحدة مع كل المخلوقات لتحقيق الهدف المطلق : أن ندع الرب داخلنا إلا أن ذلك لا يعني ـ وقفاً لهوجو برجمان ـ التوحد الصوفي بين روح الإنسان و الرب بل بالأحرى أن الرب يتغلغل في العالم و انه و حاضر فيه و مع ذلك فإن السعي لتوحيدو تحويل العالم لا تتفرد به الهاسيدية فيبدأ التصوف من توكيد العالم و الاحتجاج ضد النزعة الشكلانية غير الضرورية في الدين و التأكيد على شرعية المشاعر و الحماس الديني يعتقد المتصوفة أيضاً بتحويل العالم و تقديمه قرباناً للرب و الإنسان و لكن المتصوفة أنكروا العالم فيما بعد و جعلوا هدفهم التوحد المطلق مع الإله و هو ما اعتبره إقبال تحللاً للتصوف أما المتصوفة المتأخرين فلا يرغبون في العودة من راحة " تجربة الاتحاد" و حتى عندما يعود الصوفي فإن عودته لا تعني الكثير للبشرية ككل و هكذا ميز إقبال بين نمطين من الوعي : الوعي الصوفي ضد و مقابل الوعي النبوي و اضطرت هذه الرؤية إقبال على تعديل التصوف كله بصورة نهائية إلا أن أثر التصوف على فكره كان بالغ العمق فتقويمه الرفيع للرغبة و الحدس لاكتساب المعرفة مثال على هذا التأثير الذي يمكن عزوه بصورة خاصة إلى المتصوف الفارسي جلال الدين الرومي الذي كان له تأثيره العظيم على إقبال و في مواجهة فكرة التوحد المطلق التي يشر بها متأخرو المتصوفة أتى إقبال لفهم متعمق لعلاقة الإنسان بالمقدس إنها الانفصال في الوحدة فبالنسبة لإقبال كان للهوية الذاتية القيمة العليا تشبه الإله و على حين كانت الصوفية و الهاسيدسية الحركات الصوفية الباطنية التي أثرت على إقبال و بوبر فإن كازنتزاكس لم يرتبط بثقافة و لا دين و لا حركة بعينها بما في ذلك النزعة الجمالية فقد بحث في كل ثقافات العالم و دياناته و حركاته عن الطريق القويم و شمل بحثه كنوزاً ثقافية عظيمة بدءً من الرؤى البسيطة في حكايات الحبر ناحمان انتهاءً بالرؤى جليلة الشأن للبوذية و على حين سعت كل الحركات الصوفية للتغلب على الثنائيات و العثور على وحدة شاملة فإن كازنتزاكس سلك طريقاً آخر لقد ناضل الثنائيات و لم يعقد قط حلاً وسطاً بينها فبقى متصوفاً مناضلاً
يذكر كولن ولسون أن المرء قد يتوقع بعض التوليفات و التركيبات Synthesis الروحية مثل تلك التي في "الأخوة كرامازوف " لكنه لم يفعل ذلك قط فبقت التناقضات غير محلولة :الروح في جانب و الجسد و اضطراب العالم المادي في جانب آخر لم يرض ذلك ولسون إلا أنه كان علامة على أمانة كازنتزاكس الروحية و علامة تصوفه تصوف المعاناة الذي يبدو نتيجة اتجاهين متضادين الحب الشهواني للحياة و انجذاب عميق للزهد و التقشف
إجمالاً التصوف طريق للخروج من الدين الشعائري الفاتر إلى النداء الأعلى نداء الروح لذلك كانت العودة للتصوف دعوة للثورة و العصيان ولو في المجال الروح يقود هذا الطريق تفسيرات غير متشددة أرثوذكسية للنصوص الدينية و من ثم رؤية جديدة للمستقبل
الرؤية
كان لدى بوبر و إقبال و كازنتزاكس إحساس كبير بالمسئولية الاجتماعية لذلك كانت رؤيتهم للمستقبل مثالية فالواقعي هو من يكون إحساسه بالأمور العملية و التطبيقية أكبر من إحساسه بالمسئولية و لا أقول بأن المثاليين غير عمليين أو أن العمليين لا مسئولين بل المسألة أي من الاحساسين أكثر تثميناً لأن هذا الإحساس يحدد منظور الفرد و حاجج إقبال بأن
"لمسة المثالية الحقة هي التي تبعث الحياة و تبقي على الواقع و من خلالها فقط يمكن أن نكتشف و نؤكد المثال ... حياة المثالي تتكون ليس في قطيعة كاملة مع الواقع الذي يميل لتحطيم الكلية العضوية للحياة إلى متقابلات مؤلمة و بل في نشاط دائم و مثمر يقوم به المثالي ليلائم الواقع مع رؤي متشبع بها و شرح كينونتها الكلية "
و يتفق بوبر و كازنتزاكس مع مقولة إقبال أكثر من ذلك إذا كان لكل كمهم رؤيته المثالية التي تختلف عن رؤية الآخر إلا أنهم على اتفاق أنها لن تصبح واقعاً في حياتهم و ربما بقيت مجرد "رؤية" و إن ذكر بوبر أن المرء لا يشك مطلقاً في أنها ستتحقق و ستحدث لدى اكتمال الزمن في نهايته : في المستقبل المطلق


بوبر : في الجماعة العضوية
لاحظ روبرت ولتش أن بوبر في كتاباته البكرة وضع فلسفته الاجتماعية على قاعدة من مفهومي فردناند تونيس الجماعة Gemeinschaft (Community) و المجتمع (Society)Gesllschaft و أن بوبر وجد الرابطة أن الرابطة العضوية في الجماعة هي الأفضل فيعرف بوبر الجماعة متحاشياً كلاً من الفردية و الجماعية باعتبارها التنظيم الوحيد الذي فيه يكون الإنسان مع الإنسان على حين تقوم الجماعية على أساس الضمور المنظم للوجود الشخصي فحاول بوبر تجاوز ثنائية الفردية و الجماعية و من ثم حل مشكلة تناقض البادئ في التنظيمات الإنسانية و الأهم ـبالنسبة لبوبر ـ الصراع بين الإنسان و الإنسان و سبب هذا الصراع ليس الصراع من أجل القوة بل سوء الظن الوجودي من الكل ضد الكل و يمكن بالتغلب على سوء الظن هذا و بالنضال من أجل حوار حقيقي أن ينجح الأفراد و الشعوب في رغبتهم بأن يصبحوا (جماعة) إنسانية حقيقية و بتحديد سوء الظن الوجودي و ليس القوة كجذر للمشكلة أظهر بوبر أن عدم الرغبة في التصرف بصورة موضوعية محدد أهم للإنسانية أكثر من الرغبة في القوة فأبان أنها ليست القوة بل هستريا القوة هي الشر
تتخذ الجماعة كأساس لها الثقة و الحوار بين أعضائها و لا يشر ذلك إلى إرادة التصرف بصورة موضوعية فقط بل و التسليم بواقع اختلاف الآراء الذي نحتاج للتغلب عليه يذكر والتش أن الجماعة كمخلوق طبيعي و فقاً لتونيس مؤسس بصورة أصلية على الدم و الغريزة و لكنها تصبح أيضاً مثالية لأنها تؤسس على الإرادة الحرة للناسMen لكن هذه العبارة تسئ عرض فكرة بوبر و تونيس عن الجماعة فوفقاً لكليهما تتأسس الجماعة فقط من خلال الاعتراف بالطبيعة العلائقية للإنسان على سبيل المثال تنبني الجماعة على أساس تحقق وجود رابطة طبيعية بين الإنسان و الإنسان يعني ذلك بالنسبة لبوبر أن الإنسان يجب أن يتحول حقيقة المعرفة الموحية بصورة مباشرة أو غير مباشرة من خلال نبي و الاعتراف بالرابطة الطبيعية بينه و بين الكل المخلوقات بالنسبة لتونيس الإرادة الحرة شرط تأسيس المجتمع و الذي يمثل تنظيماً اختيارياً طوعياً و لا يعترف بالإنسان ككائن علائقي لذا يكمن الاختلاف بين الجماعة و المجتمع في المبدأ المؤسس لكلا التنظيمين : تحقيق الربط العضوي بين البشر مقابل الإرادة الحرة للارتباط كأعضاء مستقلين بصورة مطلقة
ذكر بوبر أن روح إسرائيل هي روح التحقق و هي فكرة اعتنقها بصورة ثابتة كحقيقة لا يمكن إنكارها و تمثل جوهر فكره السياسي الاجتماعي و مع ذلك لم يكن بوبر دوجمائياً فتغيرت رؤيته للأمور مع تغير الظروف فقد كان صهيونياً متحمساً ناضل ضد كل التحيزات ليحافظ على روح إسرائيل و يميل كثير من المعلقين لمعاملة أفكار بوبر السياسية كإضافات و مكملات غير هامة لفلسفته و أفكاره المتعلقة بالدين لكن السياسة بالنسبة لبوبر كانت بعداً جوهرياً لحياة حواره و خدمته للرب فكما أكد أن السياسة ليست أمراً خارجياً عن حياة الروح و لست ببساطة مهمة لا يمكن تجنبها تفرضها علينا عرضاً مقتضيات التاريخ فيرى بوبر أن السياسة كمصفوفة غير محدودة من العلاقات بين الأشخاص و الحياة اليومية تقدم اختباراً ضرورياً و تعطي واقعاً عيانياً للتعاليم الأخلاقية و الدينية و تجعل الصهيونية مثل هذا الاختبار ممكناً و يعلق بوبر مميزاً بين الصهيونية و القومية فالقومية الحديثة في خطر دائم من سيطرة هستريا القوة عليها فقد نشأت القومية كظاهرة جديدة تؤشر لمرض يجب عليها أن تتغلب عليه و عندما تنجح في ذلك لا تعود موجودة و مع ذلك فهي تؤسس نفسها كمبدأ دائم هو القومية الزائفة
لكن الصهيونية ليست كالقومية فالصهيونية الحقة و حب صهيون و الرغبة في تأسيس ما يشبه “مدينة ملك عظيم “ ملك حي باق إذاً رسالة و مهمة الصهيونية الحقة هي تأسيس مدينة الرب فانتقد بوبر كل أولئك الذين بدوا راضين بإنشاء إسرائيل كدولة قومية لقد كان خلاص الناس و العالم بأكمله يشغل قمة فكره وهو ما يشرح تدعيمه لفكرة دولة ثنائية القومية التي اقترحها قادة حركة ليكود و في وقت لاحق دعم رؤيته الأكثر صعوبة عن إنشاء اتحاد فدرالي بالشرق الأوسط أكثر من ذلك فقد شعر أن بوبر أن مثل هذا الاتحاد ممكن إذا التقى الممثلون الروحيون لكل المجتمعات دون أية تحفظات من أي نوع ليقيموا حواراً حقيقياً و في قلب مفهوم بوبر للصهيونية تقع فكرة المبدأ الانتقائي العضوي بأجندته المحددة أولاً جماعة نخبوية من العمال تتكون لإنشاء جماعة يهودية إنتاجية عظيمة ثم ثانياً: تحاول إنشاء حياة تعاونية مع الجيران و كانت رؤية بوبر الأخيرة في كتاباته عن اتحاد الشرق الأوسط الفدرالي
من المعروف أن أفكار بوبر لم تكن مقبولة من معظم الناس المعنيين فيؤكل معسكر في تلك المنطقة و حتى أصدقاءه المقربين وجدوا أحياناً أنه من الصعب قبول أفكاره فعلى حين كانت أفكار بوبر السياسية /الاجتماعية تبدو بسيطة و عقلانية كان من الصعب تصور عالماً يقبل بمثل هذه المثاليات العالية لأن العالم ليس بسيطاً و لا عقلانياً يضاف لذلك أن عدم الثقة الوجودي في العلاقات السياسية الذي أصل بوبر له ليس مشكلة يمكن التغلب عليها فهي مشكلة الشرق الأوسط التي لا يمكن إنكارها و على حين ناضل بوبر و ساعد على إنشاء إسرائيل كدولة قومية أعلن إقبال الحاجة لدولة مستقلة لمسلمي الهند إلا أنه لم يعش ليراها تصبح حقيقة و لو تم له ذلك لعانى كما عانى بوبر
إقبال عن المجتمع التطوعي
عاد إقبال شأنه شأن بوبر لمنابع الحياة الروحية لشعبه و فسر النصوص المقدسة بغرض تأسيس حياة اجتماعية مناسبة للمسلمين الهنود و أمده تفسيره بفهم لمشكلات مجتمع حديث على خلاف معظم الديانات الأخرى عرف الإسلام و حدد بنية للمجتمع و لا الجماعة لشعبه و مع ذلك استمر إقبال في استخدام اصطلاح حتى لو كان تفسير الجماعة بشير لأمر مختلف
"ينبذ الإسلام كحركة ثقافية النظرة السكونية القديمة للكون و ينتهي إلى نظرة حركية و يعترف كنسق حركي للتوحيد بقيمة الفرد بوصفه كذلك و ينبذ رابطة الدم كأساس لوحدة الإنسانية لقد أصبح البحث عن أساس نفسي بصورة محضة للوحدة الإنسانية ممكناً فقط في ظل مفهوم أن كل الحياة الإنسانية هي روحية في أصلها"
من الأفكار ذات الأهمية الجوهرية لإقبال فكرة أن الإنسان ليس بحاجة لنبذ هذا العالم ليصبح شخصاً متديناً فبالنسبة إقبال يربط الإسلام المؤمنين بمشاركة كاملة في النظام السياسي الاجتماعي ذي الطبيعة القيمية = Social Polity لقد وجد نكلسون أن مجتمع إقبال يتأسس عندما يناضل كل فرد نحو الكمال لنه بذلك يساعد في تأسيس مملكة الرب فعند إقبال " كل الحياة فردية و الرب نفسه فرد فهو الفرد الأكثر تفرداً " و توكيد الذات و ليس نفيها هي المثال و أفضل تصرف يمكن أن يأتيه المرء أن يصبح أكثر فأكثر أشبه بالفرد الأكثر تفرداً :الرب فالطريق إلى الذاتية يجب أن يكون متاحاً للجميع لذا يوفر المجتمع الطيب مثل هذه الحاجة
بين إقبال أن مملكة الرب على الأرض تعني ديمقراطية أفراد اكثر أو اقل تفرداً يرأسهم أكثر الأفراد تفرداً على هذه الأرض من الواضح أن ما كان بذهن إقبال هو مجتمع فكل الأفراد متساو الأهمية حتى لو لم يحققوا الذاتية لكن يجب أن يكون القائد المترئس للديمقراطية هو الأكثر قدرة و ليس الأكثر شعبية و مع ذلك فإنه يقود و لا يحكم و للأفراد أكبر حرية و القيود الوحيدة عليهم أن مصلحة المجتمع سابقة على مصلحة الأفراد فليس فرد أعظم من آخر و لا يمكن أن يدعي أحد مكاناً أرفع على أساس من المركز الاجتماعي أو الثروة أو حتى الروحانية فالرب لا يعترف بأي وساطة و قانون الرب هو الذي يجب أن يكون دستور المجتمع بحق إلا أن قانون الرب يجب أن يكون مفتوحا للتفسير لقد وجد إقبال أن إغلاق باب الاجتهاد أمر خطر لأنه لا يمكن أن يقود إلا إلى تحلل المجتمع و إعاقة النمو الروحي الحقيقي إن الخضوع لوحدة المجتمع و احترام و طاعة القانون و مشاركة كل عضو في النظام السياسي polity كلها تصرفات جوهرية لتنمية مجتمع كامل و هذه التصرفات تصرفات طوعية و يؤكد إقبال أن العقل و الخبرة يظهران لنا أن فرداً ينمو و يتطور لأتم إمكاناته فقط بالحياة في مجتمع متحضر . يرى إقبال بصورة واضحة أن "الإرادة الرشيدة " وراء وحدة المجتمع و هذه مرة أخرى أحد صفات المجتمع إما الجماعة فتستند على الإرادة الطبيعية “ وفقاً لتونيس .وجد إقبال مثله مثل بوبر أن القوة ليست شراً في ذاتها فقد تستخدم بصورة صحيحة أبعد من ذلك فإن اتحادنا مع المجتمع شأنه شأن اتحادنا مع الرب ليس مطلقاً لكنه انفصال في ظل الوحدة.
عندما تطبق هذه الفكرة على الوضع السياسي الاجتماعي للمسلمين الهنود كانت تعني إنشاء دولة تملك تقرير مصيرها داخل الهند فكان إقبال أول عضو في رابطة المسلمين ( حزب سياسي في الهند البريطانية ) يقترح مثل هذه الخطوة التي لم تستقبلها أغلبية المجتمع بشكل طيب بل و صعدت الخلافات المجتمعية لقد حث إقبال محمد على جناح على العمل على دولة قومية مستقلة للمسلمين و رفض جناح بداية هذه الفكرة لكن إقبال استمر في الكتابة إليه و غيرت هذه المثابرة فكر جناح لذلك يعد إقبال الأب المؤسس لباكستان و لكن يجب التذكير بان إقبال آمن في الأصل بإمكانية الحياة في مساواة في أمة هندية واحدة ثم أصبحت نظرية الأمتان (أن الهنود الهنوس أمة و المسلمين أمة أخرى)التي قدمها إقبال لرابطة المسلمين أصبحت أساساً للمطالبة بدولة منفصلة و إنشاء باكستان
لقد وضع لإقبال قدماً نظرية الأمتان لسببين رئيسيين : أولاً أنه كان مقتنعاً بأن الإسلام أكد الحياة في العالم و أن جوهر الحياة أن "يصبح" و ليس أن" يكون" أما الفلسفة الهندوسية فكانت لحد بعيد نفي للعالم و تهدف للهروب من دورة الحياة و هو ما جعل إقبال يحس بفجوة اكبر من أن يتم تجاوزها فلم يكن قادراً على تصور دولة قومية موحدة بمثل هذين الطرفين المتباعدين في الرؤى و طريقة الحياة ثانياً أن التوترات الاجتماعية كانت عالية بصورة خطيرة في الهند فقد عملت سياسة فرق تسد البريطانية عملها و كما هو الوضع اليوم ، لم يواجه بلد التوتر المجتمعي المخيف الذي واجهته و استمرت تواجهه الهند و استمر هذا البلد ديمقراطياً .
كان لإقبال شأنه شأن بوبر رؤى متعددة للتنظيم السياسي فقد حلم إقبال الشاب بدولة إسلامية واحدة لكن إقبال الناضج اعترف بان ذلك من قبيل التفكير بالأماني و كان إقبال الوطني يأمل بدولة ديمقراطية واحدة للهند و لكن كانت المشكلة الحقيقية في أسلوب الحياة و الأيديولوجيات و الثقافات المتصارعة و ختاماً فقد وطد المجددين المسلمين دولة مستقلة للمسلمين الهنود في باكستان لم يعش لإقبال ليراها و ربما كان ذلك أفضل أخذاً بحقيقة أن رؤية لإقبال لباكستان كانت شديدة المثالية دولة ينمو فيها الأفراد و يتطورون نحو الكمال في حرية كاملة لكن هذه الرؤية كانت تتطلب إرادة قوية داخل الدولة لخلق و توجيه مصيرها باتجاه قوة أعظم بالنسبة لإقبال القدر هو أيما يطمح إليه المرء و يحققه من خلال الممارسة السليمة لإرادته ذكر هاري ماي مقارناً بين بوبر و إقبال أن كليهما كان على إطلاع و معرفة باعمال الآخر و ان إقبال تأثر ببوبر و لكن تفسيري لأفكارهم يظهر أن فلسفاتهم تختلف بصورة جوهرية إلا أنهم اشتركوا في روح مشتركة كان معلمها الظمأ للروحانية و الحرية و الانسجام الاجتماعي
كازنتزاكس : في التوافق و الانسجام الدولي
تطورت افكار كازنتزاكس السياسية شأنه شان بوبر عبر فترة طويلة من السنين فطوال حياته و ارتبطاته بايديولوجيات و برامج متنوعة بقى بحثه الأولي عن الحرية و الانسجام و الوحدة لا يتغير فارتباطاته السياسية العديدة التي غطت كل درجات المواقع السياسية جلبت عليه انتقادات حادة من كل أنحاء اليونان فكتب بيتر باين "لقد أغضب كازنتزاكس الناس لأنه بدا يعتنق كل شيء بدلأ من الدفاع عن موقف واحد بصورة ثابتة و الأسوأ أنه بدا في عزلته الوليمبية لا يعتنق أي شيء" صحيح أنه لم يلتزم بصورة نهائية باي برنامج سياسي لكنه حينما ألزم نفسه بمشروعات سياسية متنوعة مثل القومية و الشيوعية و سياسات الحياة Vitalist و مذهب العالمية كان مخلصاً جداً و اكثر من ذلك فقط طلب تحرير كل الناس من الصراع و الظلم و الاستعباد من خلال كل المشاريع التي أيدها فلاحظت كاترينا روك ان كازنتزاكس أكد أن اليونان فقط لا يمكن إنقاذها فيجب إنقاذ كل الأمم معاً أو تهلك معاً لقد حلم كازنتزاكس الثالي بعالم يحصل المرء فيه على حرية كاملة تصبح حرية حتى من الالتزام بالحرية لقد كان مقتنعاً بان كل القضايا تقيد الانسان ظلال أفكار ماكس ستيرنر
بين باين أن افكار افكار كازنتزاكس تقدمت شيئاً فشيئاً لتكون ذات توجهات مستقبلية فتوجهه المثالي الساسي نحو المستقبل كما كانت ايضاً توحهات بوبر و إقبال فالمستقبل شبيه للروح و الماضي شبيه بالجسد الذي كان منجذباً أيضاً بصورة كبيرة له لذا ناضل كازنتزاكس لإرضاء كل الرغبات فالوجود الحقيقي الأصيل بالنسبة كلازنتزاكس يرتبط بالجسد فتتضمن الحياة في حرية تقليص للحاضر الخادع و الذي يتم فيه التأكيد على الفرد كقوة تجاوز ترانسيدانت. و بالفعل يجري توحد الماضي و المستقبل لخلق الحاضر أي الواقع الفعلي و يلاحظ كيمون فراير أن كازنتزاكس ناضل لتحويل رؤيته من الروح إلى الفعل الحي و تحويل الكلمة إلى جسد و لذا ربما يستحيل الجسد مع الزمن إلى شيء أكثر روحانية و في الفصل المعنون رؤية يصف كازنتزاكس الرب بانه عنوان النضال فلم يكن غريباً انه اختار أن يشارك في كل نضال من أجل الحرية و أنه رأى لينين كمسيح و دفع إسهاماً كبيراً لروسيا لكن كازنتزاكس لم يستطع الالتزام بالشيوعية طويلاً و بينما تشير الرؤية النقدية إلى أنه كان ينقصه الالتزام فإن التقدير المتعاطف لهذا المفكر سيقودنا إلى نتيجة أنه كان ملتزماً باي حركة فقط طالما ناضلت من أجل الحرية فإذا توقفت عن هذا النضال النبيل أنهى التزامه بها
قد تطرأ على المرأ من الفقرة السابقة فكرة أن كازنتزاكس كان فوضوياً إلا أن ذلك ليس تقويماً دقيقاً فيرى جيمس لي أنه غابت عن الكثيرين رؤية حقية أنه نادراً ما تحقق نظام اجتماعي حر عن طريق مبادرات التكنوقراط أو “تعديلات النسق من أعلى فلا يمكن أن يتحقق نظام حر بناء إغ من خلال روح الانسان و فعل يتدفق من إحساس الفرد بالظلم مصحوباً بالبحث عن العدالة الاجتماعية يرتبط باتباع مثالية تطلب النبالة

و على حين تمثل الحرية المثل الأعلى للأفراد فإن مثالية النظام السياسي يجب أن تكون التوافق و الانسجام و لا يعنى كازنتزاكس بالانسجام حالمة حالمة من السلبية و لكنه يعني توفيق و تعاون متجدد ـ دون توقف ـ مع القوى المتضادة فالانسجام نفسه نضال و ليس سلاماُ و يشترك كازنتازاكس في هذه الفكرة مع إقبال الذي وجد أن المعنى العام الشائع للسلام هو الموت في الحياة لأن هذا المعنى يشير إلى حياة دون نضال أما عند إقبال و كازنتزاكس فالحياة نضال تماماً كما أن الرب أيضاً نضال و النضالالناجح نضال يؤلف بصورة مستمرة بين الرغبات و الأشياء و القيم في نسيج ثري من الوحدة
كانت فلسفة كازنتزاكس عن عن التحرر و النضال نتاج التأثير الهائل لحركة كريت من أجل الاستقلال عن الحكم التركي فأعلن أن النضال بين كريت و الأتراك حركة في طريق متفرد و بدون هذا النضال كانت حياته ستأخذ مجرى مختلفاً و كانت رؤيته للتوافق أثراً لليونان "التوافق بين العقل و الجسم "كان القيمة اليونانية الأسمى إذ أن تضخم أحدهما حتى يغلب الآخر عده اليونانيون امراً بربرياً و هكذا أمدت كريت كازنتزاكس بالحافز الموجه لنضاله و لأن يجد معنى و غرضاً للحياة على حين أمدته اليونان بالإجابة : حقيقة الانسجام و التوافق الخلاقة و مع ذلك لم يخضع كازنتزاكس في حياته الشخصية للتوافق لأن التوافق يتضمن بعض الحلول التوفيقية و الحلول الوسط و من ثم ناضل الحياة لقد شغل عدة مراكز سياسية لمدير العام لوزارو الشئون الاجتماعية ، وزير التربية و مدير ترجمة في اليونسكو و مع ذلك لم ينجح في الوصول لذروة نجاحه في أي برنامج او خطة اجتماعية : فلم يحقق هدف حياته الطويل في قيادة مجتمع مشترك من الفنانيين أو معهده المفترض للثقافة اليونانية في الولايات المتحدة و الدولية الروحية
الملمح المشترك لحياة بوبر و إقبال و كازنتزاكس أنهم لم ينجحوا في برنامجهم السياسي و الاجتماعي فقد أثروا تأثيراً هائلاً على العديد من الأفراد و لكن ليس على جمهرة الناس التي كانت حيوية لتبن ناجح لرؤاهم ، فكان الذي ينقصهم نمط الأشخاص المتطلبين لإنجاز رؤيتهم لقد أملوا في أن يجعلوا الأفراد يتوقون لتكريس أنفسهم لتحقيق المثاليات التي عملوها من ثقافاتهم و أدبياتهم من خلال معاناتهم لذلك كانت كتاباتهم موجهة للرجل العادي لا للفلاسفة و لا علماء الاجتماع بعبارة أخرى كانوا يمارسون مهمة الشاعر القومي الذي يكتب عنه برفاليكس ": إن مهمته ان يحفظ الوعي بالتاريخ حياً من خلال أسطورة تربوية حية " و يقترح أن " عامة ما يقابل المرء فكرة مسيطرة في الأدب القومي تعبر عن توق جوهري و اتجاه لا يهتز للروح القومية و قد أعاد بوبر و إقبال و كازنتزاكس ـ دون شك ـ الحنين الأساسي لشعبهم و أعادوا تفسير طريق الروحنة الذي وصفته أديانهم و أعادوا بث الحياة في مفهوم الانسان المثالي الذي طورته ثقافتهم و مع ذلك فإنهم لم يستخدموا الوسائل التقليدية لنشر هذا التجديد لأن المؤسسات الدينية لم تعد تجذب الجماهير و اختاروا بدلاً من ذلك الجانب السياسي لتقديم تفسيراتهم لمثالياتهم القومية
بوبر في المسئولية
كما ذكرنا آنفاً فقد شخص بوبر المرض الأساس وراء الصراع السياسي كسوء ظن وجودي فبالنسبة بوبر لايمكن أن يكون ثمة إنقاذ للخلاص إلا عبر تجدد علاقات الحوار و يعني هذا ـ فوق كل شئ ـ عبر التغلب على سوء الظن الوجودي فهو الذي يقسم العالم و يجعل الوحدة مستحيلة إلا أن التغلب على سوء الظن الوجودي ليس سهلاً " فلا يمكن استبدال الثقة به بل الإخلاص و الصراحة المنبعثة من جديد يظهر من ذلك أن بوبر كان لديه كانب عملي تطبيقي فعنده الاستجابة الحقة وحدها يمكن أن تنزع سوء الظن الذي أفسد وحرف الحداثة القومية فشجع الاغتراب

منهجية التغيير في الفكر العربي من وعى الهوية إلى تجديد الذات
إنما غيرت الأمة!
بهذه العبارة وصف رجاء جاروديه تحوله من المادية إلى الاشتراكية الممتزجة بعناصر دينية إلى حنيفية الاسلام لكن العديد من المفكرين العرب لم يكن بحاجة إلى إطلاق هذه المقولة برغم أنهم تغيرت مواقعهم خلال مسيرتهم الفكرية تغيراً قد يبدو للبعض أنه تحول كامل عن النهج الذى ارتضوه فى الفكر والحركة وهؤلاء المفكرون والمثقفون – بهذا الوصف – ليسوا بطبيعة الحال من الهوامل ولا النوابت أعداء المدينة الفاضلة الذين يعيشون لأنفسهم دون التفات لأى مشاعر إنسانية كريمة كما لم تنقصهم الشجاعة ليخفوا اقتناعهم الفكرى مدارة للحال الحاضرة Status Q أو خوفاً من سطوة العامة أو بطش متسلط باغ وإنما عايشت وتوارثت هذه الأجيال المعاصرة من المفكرين وعياً عميقاً بالمأزق الذى تعانيه مجتمعاتها سواء قياساً إلى أنموذج التنظيم الاقتصادى الاجتماعى الذى وصلت فى ظله هذه المجتمعات أوج إيناعها وازدهارها أو مقارنة بالمجتمعات الأخرى الموسومة بالمتقدمة.
فمفكر مثل "برهان غليون" - كأحد الذين يرفعون لواء الدفاع عن العناصر الأصلية فى الحضارة العربية إزاء هجمة البغى القادم من " الشمال " متشحاً برداء العولمة - نجده فى الستينات من القرن المنصرم يتوجس من حديث الهوية أنه قد يكون تبريراً فجاً للاستبداد حيث تصبح طغمة قليلة من السراة المتنفذين هى المحددة لمن " نحن " فى مواجهة " الآخر " العدو بل وتتعدى هذا لتعطى لنفسها حق تحديد القيم " الأصيلة " التى تعطى لهذه " النحن " كينونتها.
وهذا التوجس مشروع تماما؛ً فالعديد من المفكرين الأحرار إما مغيب فى سجون دول الطوائف العربية أو مطارد فى المنافى، وفى الأغلب تسقط عنهم جنسية بلادهم، وهى التعبير القانونى عن الانتماء لهذه البلاد التى طالما عملوا وجهدوا لرفعتها وارتقائها .
ولم يحل هذا الواقع المؤلم بين هؤلاء العلماء وسعيهم للخروج بأمتهم من هذه الوهدة بل كان محفزاً لهم، خاصة وأنهم قد تكونت عندهم ملكة النظر القويم بالاعتبار بسنن الله تعالى فى الأمم الماضية، ومقارنة حال مجتمعاتهم بها وبغيرها من الأمم الحاضرة، وجمعوا إلى ذلك الهمة العالية التى تأبى عليهم أن يقعدوا عن الحركة لإيقاظ إخوانهم من السبات الذى استولى عليهم، ورفع حالة " الجمود على الموجود" من الأفكار والسلوكيات، ودفعهم إلى معترك الجهاد الذى ما تركه قوم إلا ذلوا بين نظرائهم .
فامتدت نظراتهم إلى خبرات الحضارات الأخرى وما يجرى عرضه من مناهج للخروج من الحالة الموسومة " بالتخلف " عن ركب المجتمعات المتقدمة، وأكثرها بضاعة مزجاة يختلط فيها سوء المقصد بصحة وصف الواقع المتردى، وأقلها يلتبس فيه نبل الغاية بسذاجة التصور. .
وكان الوعى بالآخر حاداً، فكأنه أصبح معياراً أخر إلى جانب المعيار الذاتى، وزاد من خطورة هذا الوضع سوء فهم الآثار المروية بأن توكيد الذات لا يكون إلا بمخالفة الآخر. صحيح أن التميز والبعد عن الإمعية أصل مستقر فى الحضارة الاسلامية، وأن الإسلام حرص على بناء الشخصية الممتازة عما عداها إلا ان هذا الامتياز لا يتأتى بمجرد المخالفة وإنما بارتباط هذه الشخصية بالقيم " السماوية "، وهى بهذا الوصف قيم إنسانية لأن الاسلام – العنصر المكون لهذه الحضارة – هو بطبيعته عالمى شامل لكل الإنسانية، وهو شريعة تستهدف سعادة الانسان فى الدارين دار الابتلاء أو الحياة الدنيا وفى دار البقاء والتكريم الآخرة والتي هى حيوان الإنسان، فكانت المحاولات التالية أكثر تركيباً لا تقصر بحثها فى التساؤل لماذا تأخرنا عنهم بل تبحث عن مقومات النهوض الحضارى بالانسانية جمعاء، وترى هذا المأزق الحضارى متعدد الأسباب بقدر ما هو متنوع الأعراض، وترى أنها ليست أزمة مقصورة على جماعة إنسانية بعينها صهرتها الخبرة التاريخية فى العيش المشترك متفاهمة بلغة واحدة، بل أزمة الانسان، وأن تحرير الإنسان بهذا الوصف وحده كفيل بالارتقاء بالنوع الإنسانى كله، وأنه على المدى البعيد سيؤدى هذا التحول إلى تبنى قيم الحضارة الإسلامية باعتبارها الحضارة الأكثر تسامحاً واحتراماً للذات الإنسانية، مع الوعى بأن هذا التحول ليس قسراً ولا حتمية كونية " ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم " .
ومن هذه المحاولات محاولات كفرت بالشقشقات والشنشنة التى عرفتها من الحكومات الاستبدادية من أنها هى التى تحفظ وجود الجماعة التى لولا وجودها فى سدة الحكم لا نفرط عقد هذه الجماعة وأصبحت هباء منثوراً فى أحسن الأحوال، أو حتى اختفت مادياً من سجل الحياة البشرية وبادت شأن عاد وثمود !
فأكدت هذه المحاولات على ضرورة تحقيق أسباب العيش المادية من الموجودات فيما أشير عليه باستراتيجية تلبية الحاجات الأساسية فأصبحت هناك رؤية ضمنية فى خطاب هذه المحاولات بأن هذا هو السبيل الوحيد الذي يكفل على المدى البعيد تحقيق طراز الحياة الكريمة للمجتمع العربى، خاصة وان هذه المحاولات رأت أنه يمكن استثمار التناقض بين المعسكرين الاشتراكي والليبرالي أو الاستظهار بواحد منها دون أن تعي أن أياً من هذين المعسكرين لن يسمحا لأى قوة صغرى بأن تتجاوز ما يقدرانه لها، وأن مثل هذا الاستظهار لا يمكن تحمل نفقته لأنه فى النهاية سيؤدى إلى فقدان مقومات هذا " المجتمع العربى " فيصبح مسخاً تابعاً .
فكانت المحاولات التالية أكثر وعياً بأن الإنسان هو محور أية حضارة فهو الذى يشيد معمارها وتنهار عندما يفتقد مبرراً لوجوده فتنتابه حالات من الاغتراب بما يعنيه الاغتراب من إحساس بالوهن والأنوية ويدلنا التاريخ على أن حضارة كحضارة اليونان زوت عندما كفت عن التساؤل والبحث فى كل القضايا دقها وجلها فحرصت هذه المحاولات على استجلاء كل العوامل المعوقة لتفجير طاقات الإنسان وتحرير قدراته الكامنة لتتحول إلى قوة راشدة .
فبدأت بنقض الأساطير الشائعة حول أزمة الأمة العربية الإسلامية سواء أكانت هذه الأساطير أساطير متوارثة كأسطورة المستبد العادل – وإن كان البعض يرى تسللت مع غيرها من الفكار الغربية كالقومية في أوائل عصر النهضة – أو أسطورة التخلف التقني وعدم القدرة على استيعاب مستحدثات العلوم وتحويلها إلى منتجات وآلات أو أسطورة أن العديد من الجماعات في هذه البلاد مجبولة على الكسل و الاستسلام لأول سائق يضع النير في أعناقها ولو كان يقودها إلى هلاكها أو كانت أساطير مستحدثة كالقول بأن هذه الجماعات تفتقد وجود فئة المنظمين الذين يخاطرون بأموالهم و لا يستسلمون للكسب المضمون ويحسنون تقدير الموقف فيعرفون متى يقدمونوكتى يحجمون وأخطر هذه الأساطير المستوردة هذه الأسطورة التي تلصق هذا الوضع المتردي بالأديان التي تدين بها شعوب هذه المنطقة والدين الإسلامي تحديداً
وتجعل خروج هذه المنطقة من من حالتها هذه مشروط بأن تقلص مساحة الدين في حياتها حتى ليبدو مظهراً احتفالياً من بقايا التراث أو فلكلوراً تقوم على رسومه طائفة تتعيش على أدائها وطورة هذه الأسطورة أنها تصطنع لها سنداً يبدو قوياً من تاريخ هذه المنطقة حيث كان يجري استغلال طبيعة الإسلام ك"دين" بالمعنى الكامل الشمولي لهذه الكلمة أي كنظام يهيمن على كافة مناشط الحياة والادعاء بأن هذه الهيمنة لا تتحقق إلا بتسلط قاهر يلزم الناس بأحكام الدين ومن هنا تبدو مقولة " الدين أس ( لقيام الجماعة المسلمة ) والسلطان حارس (لهذا الأس)" مقولة حمالة أوجه فالدين باعتباره الأساس الذي تقوم عليه الجماعة لا يتم تفعيله في حياتها إلا بالالتزام الفردي والجماعي بالقيم والممارسات التي يوجبها فولاية " السلطان" هي ولاية وظيفية وتكتسب حقيتها بقدر ما تقوم به من وظائفها بل إن كلمة السلطان في دلالاتها اللغوية الأصلية تعني الحجة وهي كذلك أيضاً في اللغة الإنجليزية أما ما حدث طوال فترات مديدة من تاريخ أقوام هذه المنطقة فهو محاولات لطمس حقيقة الدين وإحلال صورة مغشوشة محله.
ولعل أكثر من رصد هذه المحاولات بدقة ورصد آثار هذا التدين المغشوش وعلاقاته في المجتمع كان المفكر العربي المسلم عبدالرحمن الكواكبي حيث أسهب في وصف العلاقات المتداخلة بين الاستبداد وهذا الضرب من التدين المغشوش بحيث يمكن كل منهما للآخر فوصف الكواكبي هذه العلاقة بشكل لا نظير له في درته " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" الذي دفع حياته ثمناً له على ما ترجحه بعض الروايات.
وأهم ما يسم محاولات هؤلاء المفكرين أنها كانت بعيدة عن التفسير الأحادي أو مجرد إلقاء التبعة على هذه الفئة أو تلك الجماعة الحاكمة بعينهاوأنها استفادت من العديد من الدراسات التي وإن اتسمت بطابعهخا الجزئي ومحدودية نطاقها فإنها تجلي بوضوح أنماط الشخصية التي يمكن أن تفرزها التنشئة الفاسدة في أزمنة الاستبداد ولعل أذيعها دراسات علي الوردي عن أنماط الشخصية العراقية وما وصف بنمط الشخصية الفهلوية في مصر أو هذا الإنسان الأقرب إلى ما عرف في التراث العربي باسم " المكدي" وهو إنسان يتعجل رزقه بأباب شتى : قليل من العلم وكثير من الدعاوى والادعاءات الباطلة مع ذرابة لسان ومكر قد يؤدي به في النهاية إلى الحرمان مما نصب طويلاً للتوصل إليه.
وهذا النمط من الشخصية يشيع في أيام الاستبداد حيث المر كله موكول إلى الأهواء المتقلبة والتي ينشأ عنها حالة من الخمود والإحساس بالتشيؤ والاغتراب فيرى الإنسان نفسه فاقداً لكل إمكانات العمل عاطلاً عن أي قدرة فهو مجرد عود وسط بيداء تعصف بها الريح عليه ليبقى أن سيكن في جوار أقرب صخرة أو جلمود.
ولو اقتصرت هذه الحال على جيل واحد أدرك حقيقة وضعه لهان الخطب وبقى أمل في الأفق باندثار عادات هذا الجيل لكن الحاصل أن هذه العادات تتحول إلى أسلوب حياة أو ثقافة يطلق البعض عليها ثقافة القهر التي تتسم بشيوع العنف في معاملات وسلوكيات حامليها هذا العنف الذي يتوجه أحياناً إلى الذات فيدمرها قبل أن يحطم الآخرين سواء كان هذا العنف عنفاً مادياُ يدمر الأحياء والموجودات أو عنفاً كامناً في بنية العلاقات الاجتماعية حذر منه الدين فقال عليه الصلاة والسلام "المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه ولا يخذله، بحسب إمرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم أو كما قال وورد أيضاً اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة والظلم هنا كما بينت الأحاديث النبوية الشريفة هو كل تعد على الحريات الإنسانية ليس بتقييدها وحسب بل بأي محاولة لإيجاد بيئة أو ظروف تمنع ممارستها بشكل إيجابي تحت أي دعوى أو بأي إدعاءات ففي أحيان عدة كان يتم إشعاعة جو من الإرهاب لتوجيه سلوكيات الناس في وجهة محددة بزعم أنهم سلبيون لا يدركون مصالحهم ولابد من حفزهم على المشاركة في تحقيق الأهداف التي وضعها سلفاً هؤلاء المستبدون باسم الجماعة وكانت وسائل هذا الإرهاب كما هو الغالب السيف تشهيراً وعنفاً يصل إلى حد التصفية الجسدية أو الذهب أمولاً ومغانم (مناصب وأضواء..) وفي أحيان أخرى كانت تتم مصادرة القدرة على التفكير ذاتها وهي الأخطر وذلك بطوفان من اللغو غير المجدي الذي يشل ملكة التفكير القويم أو بشغل الناس بالعمل غير المجدي مقابل أدنى حد من ضروريات الحياة الذي يقيم أودهم وفي هذه الظروف القاسية تنتشر كل الأمراض الاجتماعية حتى لتصبح أساس العلاقات الاجتماعية الأمر الذي ارتاع له مفكرون ومصلحون من الشرق والغرب فوصف المقريزي والبغدادي الانحطاط الذي وصل إليه مجتمع المماليك حتى أصبح الناس يأكلون بعضهم بعضاً حقيقة لا على سبيل المجاز فعندما تستعر لفحات الاستبداد يكتوي الناس بها في دينهم وأعراضهم واموالهم لأنها تقتل الملكة التي التي يمتاز بها الإنسان عن سائر المخلوقات أعني العقل الذي يتمكن به الإنسان من الاختيار وهو لا يختار إلا الأقرب إلى الفطرة التي فطره الله عليها من التعاون والإيثار وعمارة الأرض التي يعيش فيها.
صفوة القول إن الفساد غالباً ما بيدا من الراس من الطغمة الباغية المتشحة بزي العسكر والمتحالفة غالباً مع القلة المترفة المستأثرة بكد المعدومين والتابعة لقوى البغي العالمي فتستدمج أسوأ أفكاره وما نبذه منذ زمن بعيد من عوائده وتخضع لشروطه واوامره.
فسعت جهود التغيير لنقض هذا التحالف وتقويض أسسه بما يقتضيه هذا من مخالفته في الدوافع والأفكار والسلوك العملي إلا إن هذا التفكير المقتصر على المخالفة لم يكفل التزام جادة الطريق وهو وإن ساعد في الهدم فإنه لا يضمن سلامة البناء فكان لابد من العودة للأصول الأولى أو الجذور التي حفظت تجدد شجرة الحضارة العربية الإسلامية وهنا تكون العودة بالمعنى الذي قصده الأستاذ امين الخولي عندما أوضح أن العودة للأصول ليست عودة لمسقط النهر بمعنى الحياة في الصورة نفسها التي عاشها الرعيل الأول من الصحابة والسلف فهذا محال عقلاً وشرعاً وإنما هي كما وصف "محمد إقبال" وعلي شرعيتي عودة إلى الذات تخليصاً لها من الغبش والدرن الذي أصابها بتطاول أمد الاستبداد وتطرق الوهن إليها.
ومن أهم هذه الأصول أن يكون أساس استحقاق الحكم هو خدمة المجموع لا التمكن من آلات القمعوالقتل والقدرة على اصطناع الأنصار وكفالة الوسائل والآلت الاجتماعية التي تجعل هذا الأصل واقعاً ملموساً فالله تعالى غني عن العالمين وعندما أنزل الدين انزله لسعادة الإنسان في الدارين وتعبد الناس بما يجعلهم في صلاح ويكفل لهم القدرة على الإصلاح لهذا قيل في تعريف السياسة الشرعية إنها " ما كان الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد" وإذا كان الحكم كما يقولون مفسدة لمن يتولاه والحكم المطلق مفسدة مطلقة فقد كفلت الأصول الإسلامية وسائل تضمن التزام الحاكم بمقصود الشارع على النحو الذي يظهر من اجتهاد الجماعة المسلمة ومن أهم هذخه الوسائل نزع أي شرعية عن أي حاكم لا يلتزم بالشورى وعدم تركيز الثروة في يد فئة محدودة في المجتمع "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم " وضمان عدم احتكار جماعة ما للعرفة واستئثارها بالمنافع التي تتيحها وفي إطار هذه الصول وإعمالاً لها تكونت مؤسسات مثل الأوقاف والجامعات الإسلامية والهم أن هذه الأصول غرست في الشخصية المسلمة نوازع الحرية وقررت الحكام التي تدعن إنماء هذه الحرية فالإنسان كما تقرر هذه الصول ليس هملاً بل هو أثر للنفخة الإلهية وهو من أسجد الله تعالى له الملائكة وسخر له الكون وهو ليس هباء او مجرد آلة حية يمكن التضحية بها لتحقيق هدف كائناً ما كان هذا الهدف أو بأي دعوى بل المساس بحياته مساس بالنوع الإنساني كله " فكانما قتل الناس جميعاً" وأي إهدار لكرامة الإنسان غير مقبول تحت أي ظرف وأي مسمى وهذا الإنسان فرض الله تعالى عليه إعمار الكون وهو قادر على تغيير عالمه.
وفي الوقت نفسه ضمنت هذه الأصول الإسلامية حرية العمل اجتماعي الذي يستهدف تزكية النفس والمجتمع فلا مكان في المجتمع الإسلامي للإجراءات التي تستهدف بث روح الشك بين الناس وتقييد حركتهم ومراقبتهم في سكناتهم وحركاتهم وحسابهم عليها إذا بدا أنها تخالف بوجه من الوجوه ما يفرضه الحاكم لمصلحته فهذا الجو الإرهابي مناقض لما عرفه مجتمع المدينة النبوية من إطلاق الحريات لكل السكان للعمل الجماعي والعيش الكريم.
وعليه كان الوعي بخطورة الحكم العسكري وتحويل وظيفة الدفاع عن الأمة إى شان تختص به فئة معينة تصطنعها الجماعة الحاكمة تقوم في الحقيقة بقهر ابناء الأمة إذ تتحكم في - إن لم تكن تستأثر - المراكز القيادية في الجيش وتسعى لأن يكون موالياً لها بشكل مطلق على خلال ما تمليه تقاليد الحضارة الإسلامية التي ترى الجهاد مفهوماً شاملاً يعني استفراغ الجهد وبذل الوسع في سبيل تحقيق نمط الحياة الإسلامي وإزاحة القيود التي تعترض الدعوة إليه بمختلف الوسائل بما فيها شن الحرب على قوى الاستبداد الدخلي والخارجي
ويضمن نمط الحياة هذا لا تحرير الإنسان من قيود الاحتياج المادي والخواء الفكري وحسب بل تمكينه من تطوير حياته على النحو الذي يرتئيه ملائماً وقد يرى البعض هذه الكلمات نوعاً من الأفكار الخيالية وما هذا إلا أثر لتنشئة الاستبداد والتغيير رهن بالبدء يتغيير النفس ودعوة الغير والحفاظ على الوعي بهذه الغاية وتطوير الوسائل وطرق الفعل والحركة المؤدية إليها.